كادقلي، الكلية الحربية مقابل الجامعة: خيار أم فخ؟ التعليم كحق مسروق: عن التهميش البنيوي وأسطورة تكافؤ الفرص في السودان:
2025خالد كودي، ابريل
حين يُستبدل مقعد الجامعة بالبندقية:
في نقاش عابر لكن بالغ الدلالة، علّق أحد الأصدقاء ساخرًا على إعلان فتح باب التقديم للكلية الحربية في كادقلي، ضمن محاولة واضحة من حكومة بورتسودان لإعادة توظيف أبناء جبال النوبة كأدوات في حروب المركز ضد بعضهم البعض، قائلًا: "لماذا لا يُفتح لهم باب القبول في جامعة الخرطوم بنفس الحماسة"؟ هذه المفارقة الساخرة تختصر ببلاغة الخلل البنيوي في مشروع الدولة السودانية. فحين يُطرح تجنيد أبناء النوبة أو أبناء الهامش عموماً كسبيل إلى "دمجهم في مؤسسات الدولة"، بينما لا تتاح لهم فرص متكافئة في التعليم الجامعي العالي، فإن الدولة لا تُدرجهم في المواطنة، بل تُدرجهم في آلة العنف. إنها لا تفتح لهم قاعات المحاضرات، بل تُشرّع لهم أبواب الثكنات، لا لتُرقّيهم، بل لتُعيد إنتاجهم كأدوات في منظومة قمعية لا يخضع لها أبناء المركز بنفس الشروط. فأين تكافؤ الفرص حين تُفتح الكلية الحربية في كادقلي، بينما لا تؤسس كليات الطب الحديثة هناك؟ أين العدالة حين لا يُتاح لأبناء الدلنج أو تلودي أو الفاشر أو كتم أن يدرسوا الطب او الهندسة أو القانون أو الفنون في مدنهم، بينما يُستدعون لتلقّي التدريب العسكري في معسكرات تبعد أميالًا عن أسرهم، ليُوجَّهوا لاحقًا نحو صراعات لا علاقة لهم بها، ولا مصلحة لهم فيها؟ السؤال الحقيقي ليس: لماذا لا ينضم أبناء النوبة إلى الكلية الحربية؟ بل: لماذا لا تتاح لهم نفس الفرص في الالتحاق بجامعة الخرطوم، أو الجزيرة، أو أي من جامعات السودان التي احتُكرت مؤسساتها العريقة تاريخيًا لأبناء المركز؟ لماذا لا تُفتح فروع لجامعة الخرطوم أو كلية الطب أو الهندسة أو الزراعة في كادقلي أو الدلنج أو الفاشر، أو النهود، كما فُتحت الكلية الحربية كادقلي؟ ولماذا تظل مشاريع إنشاء جامعات في الأطراف رمزية وغير ممولة ومحدودة التخصصات، تفتقر إلى البنية التحتية والمصادر العلمية وأعضاء هيئة التدريس، مقارنة بنظيراتها في العاصمة؟ إن الإجابة على هذه الأسئلة لا يمكن أن تكون تقنية أو إدارية، بل سياسية بامتياز، لأنها تمس جوهر توزيع السلطة والثروة والمعرفة في السودان، وتفضح المواطنة المنقوصة التي فُرضت على مجتمعات الهامش منذ الاستقلال. كتب فرانتز فانون: "حين يُمنع المستعمَر من الكلام، يُمنح البندقية". وفي السياق السوداني، يُمنع المهمش من التعليم، ثم يُقنعوه أن "الجندية شرف"، بينما لا يُقنع أحدًا من أبناء النخبة أن يُرسل أبناءه للثكنات" كما يتم مع أبناء الهامش.
التعليم بوصفه حقاً للتمكين لا التجنيد: الحق في التعليم ليس رفاهًا، بل هو المدخل الرئيسي للمشاركة في المجال العام، والتأثير في القرارات السياسية والاقتصادية والثقافية. وحين يُحرم أبناء الهامش من التعليم العالي الجيد، يتم إقصاؤهم من مسارات الترقّي الطبقي والاجتماعي، والتمثيل السياسي، ومن القدرة على مساءلة الدولة نفسها. يصبح الجيش أو التهريب أو الهجرة والنزوح خيارًا اضطراريًا لا تعبيرًا عن الاندماج. بالمقابل، تُمنح النخب الوسائل الناعمة للسيطرة: الشهادة الجامعية، ومايترتب علي نيلها، التوظيف المدني، المنح الدراسية، الوظائف الدولية، بينما يُمنح أبناء الهامش زيًا عسكريًا، ورتبة لن تتقدم، ومرتّبًا هزيلًا، ثم يُطلب منهم أن يقاتلوا باسم "الوطن" الذي لم يعترف بهم يومًا كمواطنين كاملين. المفارقة الكبرى: لا جامعة لهم، ولكن لديهم بندقية! إن دعوات تجنيد أبناء النوبة تحت شعارات الوطنية، دون إحداث اختراق جذري في بنية التعليم العالي والفرص المدنية، ليست سوى امتداد لسياسة الدولة الاستعمارية الداخلية التي استخدمت أبناء الأطراف في حروبها، وحرمتهم من كل أدوات القوة الناعمة. وقد أشار أنطونيو غرامشي بعمق إلى هذه العلاقة حين كتب: ."احتكار الثقافة هو أول أدوات الهيمنة. والسيطرة على أدوات المعرفة هي الطريق الأول نحو فرض التبعية" إن الاستعمار الحقيقي لا يُمارس فقط عبر المدافع، بل يُعاد إنتاجه عبر المناهج، وقبول الجامعات، وشروط التوظيف، وحجب المنح الدراسية، وتقييد الأمل في مسارات التنمية.
الجامعة أولًا، ثم خيارات الوطن: لا أحد يرفض وجود أبناء النوبة في الجيش، أو في الكلية الحربية، إن اختاروا ذلك بأنفسهم. لكن يجب أن يكون ذلك اختيارًا ضمن بدائل متساوية، لا نتيجة حرمان منهجي من التعليم والفرص. وحتى يتحقق ذلك، يجب: - فتح فروع نوعية حقيقية لجامعات مركزية في مدن الهامش، بأقسام قوية لكل الكليات مثل للطب والهندسة والعلوم التطبيقية والإنسانية. - تطبيق سياسات تمييز إيجابي صارمة لأبناء المناطق المهمشة في القبول الجامعي والبعثات - تحويل التعليم إلى أداة مركزية للعدالة التاريخية، لا مجرد "مشروع تطوير" بيروقراطي فمن دون عدالة في التعليم، لا مواطنة ممكنة. ومن دون إعادة توزيع فرص التعليم، لن تنتهي الحروب، بل ستنتج أجيالًا جديدة من المحرومين، الذين يجدون أنفسهم دائمًا في الخطوط الأمامية للنزاعات التي لا ناقة لهم فيها ولا جمل.
التهميش البنيوي في التعليم: من مركز مُمتَحن إلى هامش مُعاقَب: منذ استقلال السودان، أُسِّست الدولة على هيكل سلطوي مركزي يكرّس امتياز الخرطوم والشمال النيلي، ليس فقط كحاضنة للسلطة والثروة، بل أيضًا كـ"مركز للمعرفة"، بينما تُعامَل مناطق مثل دارفور، وجبال النوبة، والنيل الأزرق، وشرق السودان كهوامش سكانية محكومة بنموذج "الخدمات الدنيا". تُستدعى هذه المناطق لتغذية حروب النظام، أو لامتصاص الضغط السياسي، أو كحقل تجارب لمشروعات تنموية مؤقتة. لكن حين يتعلق الأمر بالحق في التعليم، يصبح التهميش منهجيًا ومؤسسًا.
أولًا: بنية تحتية تعليمية غائبة أو منهارة: تشير تقارير أممية وحقوقية إلى تفاوتات صادمة بين المركز والهامش. فبحسب اليونيسف: (UNICEF) (Save the Children) من مدارس الهامش في جنوب كردفان والنيل الأزرق ودارفور الكبرى - تفتقر الي معلمين مؤهلين، ويستعاض70%فان عنهم بمعلمين غير مدرَّبين، برواتب لا تكفي للبقاء، مما ينعكس مباشرة على جودة المخرجات. أكثر من 52% من المدارس في هذه المناطق تفتقر لدورات مياه صحية، أو كهرباء، أو مياه صالحة للشرب، وهي ظروف تهدد كرامة الطفل، وصحته، واستعداده للتعلُّم. نسبة النجاح في الشهادة السودانية في بعض الولايات تقل عن 40%، بينما تتجاوز 70% في الخرطوم، مما يعكس ليس "تفوقًا ذاتيًا" في المركز، بل خللاً بنيويًا في توزيع الفرص التعليمية. والأسوأ أن: أقل من 10% من مدارس الهامش تحوي مختبرات علمية أو مكتبات او أي معينات بمافي ذلك الكتب المدرسية نفسها أكثر من 60% من التلاميذ في المناطق الطرفية يدرسون على الأرض، في ظل انعدام وسائل النقل، والبيئة الآمنة، والكتاب المدرسي. وهكذا، يتكرّس الإقصاء المعرفي كـ إعادة إنتاج منظمة للحرمان الطبقي والجهوي والاثني، وتُصنع مناهج التمييز منذ الصف الأول.
ثانيًا: المنهج القومي كأداة للهيمنة الثقافية: لم يقتصر التهميش على البنية المادية، بل انسحب إلى البنية الرمزية، حيث فرضت الدولة منهجًا دراسيًا موحّدًا، صُمِّم لتجسيد الهوية الإسلاموعروبية بوصفها "الهوية القومية الوحيدة"، متجاهلة تنوع السودان الإثني واللغوي والديني. وهذا ما يسميه علماء التربية السياسية بـ"المنهج العقائدي للدولة". مايجدر ذكره هنا ان الأراضي المحررة تستخدم فيها مناهج تم وضعها وفقا لفلسفة ورؤية السودان الجديد. وفي هذا حوار طويل سناتي اليه في مقبل المقالات. - في كتب التاريخ والجغرافيا، يُمجد الشمال النيلي وممالك سنار والمقرة، بينما تُختزل روايات دارفور وجبال النوبة في هوامش جغرافية أو أزمنة "تمرد". - في التربية الإسلامية، تُستخدم لغة تُقصي غير المسلمين، وتُقدّم "التدين" في ثوبه الإسلاموي كمعيار للوطنية وحتي للحقائق العلمية! - لا يُدرَّس أي محتوى بلغات المجتمعات المحلية – مثل النوبية، الفور، الزغاوة، الدنقلاوية، أو المورنغ – رغم أن اليونسكو توصي بتعليم الأطفال بلغتهم الأم على الأقل حتى الصف الرابع، لزيادة الكفاءة المعرفية والاستيعاب. النتيجة؟ بناء وعي قومي زائف يرى في الانتماء إلى الإسلام السياسي والثقافة العربية معيارًا للشرعية الوطنية وكما كتب باولو فريري في كتابه "تعليم المقهورين": "إنه لمن الاستعمار الفكري أن يُطلب من المقهور أن يرى نفسه في مرآة لا تعكس سوى صور الآخرين".
ثالثًا: حرمان مؤسس من القدرة على التنافس: يقوم نظام القبول الجامعي في السودان على مبدأ "الاستحقاق الأكاديمي"، دون أدنى اعتبار للتفاوتات المسبقة في فرص التعليم. والنتيجة أن أبناء المركز يحتكرون المقاعد الجامعية، بينما يُترك أبناء الهامش للجندية أو المهن الهامشية والشوارع أو الهجرة والنزوح واللجوء واللاامل. - لا توجد سياسة تمييز إيجابي (Affirmative Action) تعالج الفجوة المتوارثة، كما حدث في الولايات المتحدة بعد حركة الحقوق المدنية، أو في كينيا بعد الاستقلال، أو في جنوب أفريقيا بعد الأبارتيد. - لا تُخصَّص منح أو برامج تقوية للطلاب القادمين من المدارس المهمشة - لا توجد مبادرات جدية لتأهيل المعلمين في الأقاليم، أو لضمان بيئة تعليمية تراعي العدالة إن ما يُقدَّم من حكومات المركز بوصفه "عدالة تعليمية" عادة اكاذيب بنيوية، تخفي في طياتها إعادة إنتاج الامتياز، وتحرم ملايين الأطفال من فرص الحياة الكريمة.
رابعًا: تجارب ما بعد الاستعمار – كيف واجهت الدول الذكية إرث التهميش؟ ١/ تنزانيا تحت قيادة جوليوس نيريري اعتمدت سياسة إنشاء مدارس اشتراكية (Ujamaa Schools) في المناطق الريفية، مع برامج تحفيز للمعلمين في الأقاليم. ٢/ غانا بقيادة كوامي نكروما طبقت نظام التمييز الإيجابي في القبول الجامعي لصالح الطلاب من المناطق المحرومة. ٣/ رواندا ما بعد الإبادة الجماعية تبنت سياسة الكوتات التعليمية، لضمان تمثيل أبناء التوتسي والهوتو والمجموعات الأخرى بشكل عادل. ٤/ الولايات المتحدة، بعد حركة الحقوق المدنية، شرّعت برامج التفضيل الايجابي Affirmative Action التي رفعت نسبة الطلاب السود واللاتينيين في الجامعات الكبرى إلى أكثر من 15%، للمرة الأولى في تاريخ البلاد
خامسًا: التجربة الألمانية – التعليم كرافعة لإعادة بناء الدولة: بعد الحرب العالمية الثانية، كان المجتمع الألماني ممزقًا، والبلاد في حالة دمار شامل. لكن الدولة الألمانية أدركت أن إعادة بناء البلاد تبدأ من التعليم، فتم اعتماد سياسات غير مسبوقة، وحال المانيا حينها هو الأقرب لوضعنا في تقديري: - إعادة تصميم المناهج بالكامل لنزع الأيديولوجيا النازية. - اعتماد مناهج تعددية ولغوية وثقافية تُعزز التفكير النقدي والهوية الأوروبية المتعددة. - ضخ استثمارات ضخمة في تدريب المعلمين، وتحويل المدارس إلى منشآت شاملة للخدمة المجتمعية. - ربط التعليم المهني بالتصنيع المحلي، مما خلق طبقة وسطى متعلمة قوية خلال جيلين فقط. وهكذا، تحوّلت ألمانيا من بلد ممزق إلى إحدى أقوى الدول اقتصاديًا وثقافيًا في العالم، دون الحاجة إلى قمع التنوع أو فرض هوية مركزية.
لا عدالة وطنية دون عدالة تعليمية: إن التحدي الحقيقي أمام بناء سودان جديد لا يكمن في بناء الطرق والكباري وحسب، بل في بناء أفق تعليمي يعيد تعريف معنى المواطنة. ولن يتحقق ذلك دون: ١/ الاعتراف الرسمي بأن التعليم كان أداة تهميش وإقصاء ويجب ان يعالج في اطار العدالة التاريخية. ٢/ إعادة توزيع الموارد التعليمية على أساس الانصاف، لا الكثافة السكانية فقط. ٣/ مراجعة وتغيير المناهج جذريًا، لتشمل روايات كل شعوب السودان. ٤/ تحقيق تمثيل حقيقي للطلاب المهمشين في الجامعات ومراكز اتخاذ القرار ٥/ برامج إعادة التأهيل لتشمل المهمشين ومواهيم التفوق الثقافي علي حد سواء!
السودان: تعليمٌ للنخبة وبنادق للهامش: حين تصنع الدولة نخبتها وخدمها معًا – من فشل النظام التعليمي إلى فرصة التأسيس الجديد: بنية تعليمية لإعادة إنتاج الامتياز لا تفكيكه: منذ الاستقلال، لم يكن النظام التعليمي السوداني مشروعًا للعدالة أو المواطنة، بل أداة لإعادة إنتاج النخب الحاكمة ودوائر الامتياز المرتبطة بالمركز النيلي والإسلاموعروبية الرسمية. وقد تواطأ هذا النظام في بناء مركز مهيمن لا يكتفي بإقصاء أبناء الريف والهامش، بل يُسخّرهم في دور وظيفي مزدوج: وقود حروب ومهمشون في السوق.
آليات القبول الجامعي – رغم ادعائها الحياد والموضوعية – مبنية على امتحانات لا تعترف بالتفاوت البنيوي بين الخرطوم وبقية البلاد، كما اوردنا سابقا واظهرت التقارير. ومع غياب سياسات التمييز الإيجابي، تتحول الجامعات إلى بوابات طبقية مغلقة، بينما تُفتَح الكليات الحربية لأبناء الهامش بوصفها آلية تعويضية زائفة. هكذا يُستبدل روب التخرّج بالبزة العسكرية، وتتحول المواطنة من حق إلى مهمة قتالية. كتب فرانتز فانون: "حين يُمنع المستعمَر من الكلام، يُمنح البندقية" الجامعة مقابل الثكنة: خيار أم فخٌّ هيكلي؟ ما يُقدَّم لأبناء الأطراف ليس "فرصًا" بل فخاخًا. حين يُقصى الطالب من الالتحاق بكلية الهندسة والطب، او القانون ثم يُطلب منه أن يحمل البندقية دفاعًا عن وطن لم يمنحه مقعدًا دراسيًا، يصبح هذا "الاندماج الوطني" استغلالًا فجًّا ومفضوح. وكما كتب باولو فريري: ."الاضطهاد لا يُنتج وعيًا إلا حين يُسائل المقهور تجربته، لا حين يُؤهَّل للخضوع" التعليم هنا لا يحرر، بل يُستخدم لتأبيد التفاوت. النخبة تُصنَع في المعاهد العليا، والطبقة الخادمة في الثكنات. فهل هذه دولة حديثة أم نظام وصاية مموَّه؟
المنهج القومي: أداة أيديولوجية للإقصاء والتعريب: ليست المشكلة في غياب المقاعد فقط، بل في جوهر التعليم نفسه. المنهج السوداني كما اسلفنا، خاصة بعد "ثورة التعليم" في عهد الإنقاذ، ومشروعه الحضاري، كُتِب من منطلقات الإسلام السياسي والثقافة العروبية المركزية، فحوَّل الكتب المدرسية إلى مرايا لا يرى فيها أبناء الهامش أنفسهم. - التاريخ يُدرَّس كماضٍ شمالي نيلي؛ وتُهمَّش تجارب السلطنة الزرقاء، دارفور، وجبال النوبة وغيرها - التربية الإسلامية تُقصي مناهج الديانات والمعتقدات الأخرى - لا توجد مواد تُدرَّس بلغات السودان المحلية، رغم توصيات اليونيسكو باعتماد اللغة الأم في التعليم الأساسي كتب فريري: "من الاستعمار الفكري أن يُطلَب من المقهور أن يرى نفسه في مرآة لا تعكس إلا صور الآخرين"."
حكومة التكنوقراط": هروب نخبوي من تفكيك الدولة القديمة: في ظل هذا الوضع، برزت مقولات مثل حكومة التكنوقراط كخطاب يبدو برّاقًا، لكنه يُستخدم في السودان كوسيلة للالتفاف على استحقاقات الانصاف و العدالة التاريخية والتعليمية. فالتكنوقراط في الحالة السودانية هم غالبًا من نخب المركز، ممن تلقوا تعليمهم في منظومة الامتياز ذاتها، ويحملون تصوّرات مشروطة عن "الحياد" لا تُهدِّد بنية الهيمنة" بل تتواطأ معها وتعبر عنها. كتب كارل ماركس: "الحياد في الصراع الطبقي هو اصطفاف ضمني مع الطرف الأقوى". وهو ما ينطبق على كل خطاب يدعو إلى إصلاح تقني دون مشروع سياسي شامل لبناء طودان جديد ، لإعادة توزيع السلطة والثروة والمعرفة. وهذا بدوره موضوع لمقال اخر.
تحالف "تأسيس" والتعليم: اختبار مشروع التغيير: يمثل تحالف تأسيس، بطرح مشروع السودان الجديد، فرصة نوعية لتحويل الخطاب السياسي إلى مشروع تعليمي تحرري. لكن هذا التحالف سيكون موضع اختبار حقيقي إذا لم: - يدرك ويقر بأهمية التعليم النظامي والبديل من الوهلة الاولي، وادرج البرامج التعليمية علي اعلي قائمة المهام ضمن المائة يوم الاولي. - يتبنَّ سياسة تمييز إيجابي واضحة ومعلنة في القبول الجامعي لصالح المناطق المهمشة - يُعيد صياغة المناهج الوطنية لتشمل روايات المهمشين، وتُعترف بالتعدد اللغوي والثقافي والديني - يُنشئ جامعات نوعية في الأقاليم، لا مجرد فروع إدارية تابعة للخرطوم - يربط التعليم بالتنمية الريفية والتوظيف العادل، لكسر دورة التهميش الموروثة كتب أنطونيو غرامشي: "الأزمنة العظيمة لا تُخلَق في اللحظات المريحة، بل حين يكون القديم قد مات، والجديد لم يولد بعد." تحالف تأسيس، في لحظة الولادة هذه، مطالب بتحقيق ما عجزت عنه الدولة المركزية، تحرير التعليم من المركزية والعقائدية والتفاوت البنيوي.
توصيات استراتيجية لتحالف "تأسيس" وحكومات ما بعد الحرب: - تمييز إيجابي في القبول الجامعي لصالح أبناء الأقاليم المحرومة، يُنظَّم عبر قانون. - إصلاح جذري للمناهج الدراسية يعكس التنوع الثقافي والديني، وينهي الاستعلاء المعرفي. - استثمار واسع في البنية التحتية للتعليم في الريف: مدارس، معلمين، مكتبات، مختبراتك. - ربط التعليم بسوق العمل المحلي والتنمية الريفية، لا بالمركز فقط. - دسترة الحق في التعليم النوعي والمتعدد اللغة، وضمان مساءلة الحكومة عنه. - مشاركة ممثلي المجتمعات المحلية في رسم السياسات التعليمية.
خاتمة: لا وطن بلا جامعة، ولا مواطنة بدون عدالة تعليمية: نعم، نريد أن نرى أبناء جبال النوبة ودارفور والشرق في الكلية الحربية – ولكن بعد أن نراهم أولًا في كليات الطب، والهندسة، والاقتصاد، والفنون. نريدهم ضباطًا في الجيش، فقط حين يكون ذلك خيارًا حرًّا، لا تعويضًا عن حُرمان من التعليم. نريد ان تكون لابنا جبال النوبة فتح باب التسجيل لكل الجامعات والكليات من كادقلي وكتم وغيرها من مدن الهامش. وكما قال مالكوم إكس: "التعليم هو جواز سفرنا إلى المستقبل، لأن الغد ملك لأولئك الذين يُعِدّون أنفسهم له اليوم".
فهل نمنح أبناء الهامش هذا الجواز؟ أم نواصل تكرار المأساة التي تقف فيها الخرطوم جامعة، وتقف كادقلي بندقية؟ السودان الجديد يبدأ من المدرسة، لا من الوزارة. ومن لا يبدأ من التعليم، لا يبدأ من أي مكان.
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة