مثّلت تجربة الروائي الفرنسي هيرفي لوتوليي لحظة صادمة ومثيرة للتأمل في تاريخ الكتابة الأدبية المعاصرة. أن يقع كاتب فاز بجائزة غونكور، وهي ذروة الاعتراف الأدبي في فرنسا، في حيرة التقدير حين طُلب منه أن يقيّم عددًا من النصوص الأدبية دون أن يعلم أن أحدها من إنتاج ذكاء اصطناعي، فتلك مفارقة تستدعي فحصًا نقديًا لا يقف عند حدود الدهشة، بل يتجاوزها إلى مساءلة المفاهيم الكبرى التي طالما شكّلت بنية الإبداع الأدبي. النص الذي اختاره لوتوليي باعتباره الأكثر جمالًا وتأثيرًا، كتبه نموذج ذكي يحمل اسم "كلود". لم يكن نصًا تقنيًا، أو حكاية مبتورة تفتقد للمجاز، بل كان سردًا حميميًا يدور حول فنان عجوز يعيش تجربة الحب الأخيرة في حياته. عاطفة شفافة، بناء رمزي، لغة مشبعة بالإيقاع والتأمل. لقد قال لوتوليي عن النص إنه لا يصدق أن آلة كتبته، وإنه كان شديد الإنسانية. هذا التقييم لا يعبّر فقط عن صدمة جمالية، بل يكشف عن لحظة فارقة أصبح فيها النص غير قادر على إخفاء هوية كاتبه، لأنه لم يعد بالإمكان التمييز بين ما تنتجه العاطفة وما تُنتجه الخوارزمية.
إن هذه التجربة تضعنا وجهًا لوجه مع سؤال لطالما اعتُبر محسومًا في النقد الأدبي: ما الذي يصنع النص الإبداعي؟ هل هو صدق التجربة؟ هل هو التأمل الشخصي والتراكم الوجداني؟ أم أن الأمر في جوهره يتعلق بإتقان البنية، وتحقيق شروط الجمالية، واستخدام اللغة بطريقة تستجيب لتوقعات القارئ؟ في الحالة الأخيرة، يكون الذكاء الاصطناعي في موقع جدلي ليس بوصفه مقلدًا، بل كمبدع فعلي قادر على إنتاج الأدب بمعاييره التقليدية وربما ببعض التجاوزات التقنية التي تفوق الإنسان في التماسك والدقة.
ثمة ارتباك فلسفي جوهري هنا. لطالما كان يُنظر إلى الأدب بوصفه مساحة للتطهير، ووسيلة للتعبير عن الذات، وأداة للتمرّد على القوالب. فكيف يمكن لنص يولد من خوارزمية لا تملك وعيًا أو عاطفة أن يُحدث الأثر نفسه؟ هل الكتابة فعل تقني يمكن تلقينه للآلة، أم أنها تعبير وجودي لا يُختزل في محاكاة لغوية؟ الإجابة على هذا السؤال ليست سهلة، بل ربما غير متاحة بعد.
في المقابل، ما يُثير الانتباه في تجربة "كلود" هو أنه لم يكتب نصًا تعليميًا أو مقالًا علميًا، بل خاض مغامرة السرد الأدبي، وهو المجال الذي كان يُعتبر آخر الحصون الإنسانية في وجه الآلة. لقد أجاد التعبير عن العزلة، وعن الحب وعن فكرة الزمن المتسرب، وهي كلها موضوعات تتطلب حساسية ثقافية ونفسية عالية. هذا ما يدفع إلى التفكير في أن الذكاء الاصطناعي لا يقتصر على التوليد، بل بدأ يقترب من الوعي الأسلوبي، والقدرة على اللعب بالمجاز، والاشتغال على الإيقاع الداخلي للجملة.
النقد الأدبي، في هذا السياق، مطالب بإعادة النظر في أدواته ومفاهيمه. إذ لم تعد نظرية المؤلف وحدها كافية لتحديد أصالة النص، ولم يعد ممكنا التعامل مع الأدب بوصفه امتدادًا لتجربة بشرية محددة. فهناك ما يشبه الأدب الهجين يولد اليوم نصوص تُنتج بواسطة الإنسان الآلي أو بمساعدته، لكنها تُقرأ من قبل الإنسان، وتُخضع لأدوات التفسير الجمالية نفسها التي طالما ارتبطت بالإنسان الكاتب. هنا، يظهر سؤال التلقي كعنصر حاسم في تقييم النص- إن لم يعرف القارئ أن الكاتب آلة، وقرأ النص بوصفه نتاجًا بشريًا، وتأثر به، فهل يُعد ذلك دليلاً كافيًا على أدبيته؟
أمام هذا الواقع الجديد، لا يمكن للناقد أن يكتفي بالتحذير أو الإدانة أو التشكيك، بل عليه أن يُخضع هذه الظاهرة لتحليل معرفي وجمالي عميق، وأن يعيد فحص أطروحاته حول العلاقة بين اللغة والوعي، بين الشكل والمعنى، وبين الكاتب والقارئ. ولعل التحدي الأبرز هنا يكمن في التفكير في إمكانات التعاون لا التنافر، أي في أن يتحول الذكاء الاصطناعي من كائن منافس إلى شريك إبداعي يُغني تجربة الكاتب، ويفتح آفاقًا جديدة للسرد ويُحدث قطيعة مع النمطية التي باتت تسيطر على كثير من الكتابات المعاصرة.
تجربة لوتوليي إذًا ليست مجرد حكاية عن خيبة أمل أو منافسة غير متكافئة. إنها إعلان عن تحوّل بنيوي في مفهوم النص، حيث لم يعد المهم من يكتب، بل كيف يُقرأ النص، وما الذي يُحدثه في القارئ من متعة، وتأمل، ودهشة. وقد يكون هذا هو المدخل الحقيقي لتجديد النقد الأدبي في عصر لم تعد فيه الآلة مجرد وسيط، بل باتت طرفًا كاملاً في إنتاج المعنى.
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة