قتل الإنسان ومحاولة قتل الذاكرة: من اعتصام القيادة إلى مجزرة الثالث من يونيو:
29/3/2026 خالد كودي، بوسطن
ثورة/انتفاضة ديسمبر 2018 لم تكن حدثاً طارئاً، بل نتيجة تراكم نضالات سياسية واجتماعية طويلة امتدت لعقود، شارك فيها المدنيون، والمهمشون، والحركات المسلحة، ومناضلي المنافي عبر العمل الديبلوماسي، والنقابات، وقوى المقاومة الشبابية. بدأت الشرارة من مدينة الدمازين في 13 ديسمبر، وانتقلت بسرعة إلى مدن أخرى، حتى بلغت ذروتها في الاعتصام أمام القيادة العامة للقوات المسلحة في الخرطوم، الذي بدأ يوم 6 أبريل 2019، وتحول إلى ساحة شعبية واسعة، تفاعلت فيها المطالب السياسية مع الفنون، والأغاني، والجداريات، والنقاشات العامة، في مشهد غير مسبوق في تاريخ السودان الحديث هذا الاعتصام لم يكن مجرد تجمّع احتجاجي، بل أصبح رمزاً لوطن يتشكّل من جديد. شكّل ميدان الاعتصام فضاءً مفتوحاً للذاكرة الجماعية، حيث عبّر السودانيون عن حلمهم في الحرية والعدالة بلغة مدنية، فنية، وسلمية. وكانت الجداريات، التي زينت الجدران حول ميدان القيادة، تجسّد هذا الحلم، وتربط بين دماء الشهداء وتطلعات الأحياء.
لكن في فجر الثالث من يونيو/حزيران 2019، الموافق 29 رمضان، اجتمعت قوات من الجيش، والدعم السريع، والأمن، والشرطة، ونفذت عملية منظمة لفض الاعتصام بالقوة المفرطة. أُطلقت الرصاصات، أُحرقت الخيام، وارتُكبت انتهاكات جسيمة شملت القتل والاغتصاب والتعذيب والإخفاء القسري. كانت المجزرة دموية، لكنها أيضاً رمزية: إذ لم تكتف ماسميت بالقوات النظامية بفض الاعتصام وقتل من فيه، بل عمدت إلى إزالة الجداريات، طلاء الجدران، تمزيق الصور، وإخفاء كل أثر يدل على أن هذا المكان كان يوماً مركزاً لثورة.
لقد تعاملت السلطة العسكرية مع الاعتصام لا بوصفه خطرًا أمنيًا فقط، بل باعتباره موقعًا لتكوين الذاكرة الجمعية. ولهذا، فإن مجزرة القيادة كانت عملية مزدوجة: قتل الجسد ومحو الذاكرة. فالعنف الجسدي كان موجهاً ضد الحاضرين، والعنف الرمزي كان موجهاً ضد ما تركوه وراءهم من رموز وصور وسرديات.
إن هذه اللحظة تُظهر أن الصراع لم يكن فقط على من يحكم، بل على ما يُحفظ من التاريخ، ومن يملك حق كتابة الذاكرة. ومن هنا، فإن فض الاعتصام لم يكن فقط جريمة ضد الإنسان، بل جريمة ضد الذاكرة. لأن الجدران التي كانت تنطق بشعارات الثورة، تحولت بعد ساعات إلى جدران صامتة، مطلية بطلاء رمادي، لا تخفي فقط الألوان، بل تخفي الحقيقة.
لكن محو الرموز لا يلغي أثرها. فالثورات لا تموت بمحو الجداريات، بل تبقى ما دامت الذاكرة حية، وما دام هناك من يتذكّر، ويكتب، ويعيد رسم الصورة.
العقلية العسكرية والخوف من الذاكرة: قراءة في خطاب شمس الدين كباشي: أحد أكثر ما يفضح بنية العقل الأمني–العسكري الذي حكم السودان بعد سقوط عمر البشير، هو الخطاب العلني الذي أدلى به الجنرال شمس الدين كباشي، عضو المجلس العسكري، في أعقاب مجزرة فض اعتصام القيادة العامة. في هذا التصريح، قدّم سرداً تفصيلياً لاجتماع تم في الليلة السابقة للجريمة، يظهر كيف جرى اتخاذ القرار في أعلى هرم السلطة العسكرية والأمنية والقضائية، قائلاً:
"وفي الليلة السابقة للتنفيذ، دعونا لاجتماع موسع حضره كل أعضاء المجلس العسكري، حضره كل قادة القوات النظامية والقوات المسلحة: رئيس الأركان ومجموعته، رئيس هيئة الاستخبارات العسكرية، مدير جهاز الأمن والمخابرات الوطني ونائبه، مدير عام الشرطة ونائبه، قائد قوات الدعم السريع. وطلبنا أيضاً من السيد رئيس القضاء والنائب العام أن يحضروا هذا الاجتماع لتقديم المشورة القانونية. كل الذين ذكرتهم كانوا في هذا الاجتماع، أخذنا الاستشارات القانونية اللازمة في كيفية التعامل مع مثل هذه الظروف الحساسة، وشاكرين السيد رئيس القضاء والسيد النائب العام، قدّموا لنا الاستشارات اللازمة ثم خرجوا. ومن ثم وجّهنا القيادات العسكرية بالتخطيط لفض هذا الاعتصام وفق الإجراءات الأمنية والعسكرية المعروفة. القيادات العسكرية ذهبت ووضعت خطتها ونفذت، وحدث ما حدث"
هذا الاعتراف لا يقدّم فقط إدانة سياسية أو أخلاقية، بل يكشف البنية المؤسسية الكاملة للدولة العميقة التي واجهت الاعتصام بوصفه تهديداً وجودياً، لا لأنه كان يهدد الأمن، بل لأنه كان يعيد تعريف العلاقة بين الشعب والدولة، ويؤسس لوعي جمعي جديد. فكل أجهزة الدولة السيادية – الجيش، الشرطة، جهاز الأمن، القضاء، النيابة – حضرت الاجتماع، وشاركت إما في التخطيط أو في تقديم الغطاء القانوني، ثم جرى التنفيذ بـ"الإجراءات العسكرية المعروفة." "
يستخدم كباشي في خطابه لغة تقنية، إجرائية، يحاول من خلالها تقديم المجزرة كمجرد "عملية أمنية" ضمن "الظروف الحساسة"، وكأن الأمر يتعلق بإدارة أزمة إدارية لا بمجزرة دموية راح ضحيتها مئات من المدنيين السلميين. كما أن استعانته برئيس القضاء والنائب العام لا تهدف إلا إلى تشريع العنف، وتحويل الجريمة إلى سياسة دولة، وهو ما يسميه الفيلسوف جورجيو أغامبن بـ"الاستثناء المُقنن"، حين تُعلَّق القوانين لتُرتكب الجريمة باسم القانون ذاته...
أما قوله: "نفذت، وحدث ماحدث" فهو نموذج كلاسيكي في الخطاب السلطوي لتمويه المسؤولية وتمييع الفاعل. يستخدم المبني للمجهول وكأنه يتحدث عن قدر لا عن فعل إرادي. ومع ذلك، فإن تسلسل الخطاب يوضح بجلاء وجود قرار مركزي، تشارك فيه كل أذرع السلطة العسكرية–القانونية، ما يعني أن الجريمة لم تكن انزلاقاً أو تجاوزاً، بل كانت قراراً مؤسسياً ومخططاً له.
الأخطر من ذلك، أن هذا الخطاب يقدّم دليلاً واضحاً على ما تسميه آليدا أسمان بـ"الخوف من الذاكرة"، أي خوف السلطة من كل ما يتيح للمجتمع إعادة بناء روايته خارج الخطاب الرسمي. ولهذا، لم يقتصر القمع على القتل والتنكيل، بل شمل أيضاً محو الذاكرة البصرية التي شكّلها المعتصمون: أُزيلت الجداريات، طُليت الجدران، أُتلفت الرموز، وتم تجريف الحيّز العام من معانيه. هذا ما يمكن تسميته بـ"تعقيم الذاكرة"، أي تفريغ المكان من رمزيته، وإخضاع الذاكرة الجمعية إلى منطق الإنكار السلطوي. إن خطاب شمس الدين كباشي ليس مجرد تصريح سياسي، بل هو وثيقة سلطوية تكشف منطق الدولة العسكرية في مواجهة الحركات الاحتجاجية، لا باعتبارها تهديدات أمنية، بل بوصفها تمرداً على السرديات الرسمية، وعلى احتكار الدولة لمعنى الوطن، والتاريخ، والمستقبل.
ثورة الصورة والذاكرة: الفنون البصرية، الشتات، والتكنولوجيا في مواجهة المشروع الحضاري: منذ لحظتها الأولى، كانت انتفاضة ديسمبر تعبيرية بامتياز. لم تكتفِ بالمطالبة السياسية، بل تفجّرت عبرها موجة إبداع جماعي غير مسبوقة، تحوّلت فيها الفنون – وعلى رأسها الفنون البصرية – إلى أدوات مواجهة مباشرة، ومنابر لبناء الوعي الجمعي، وأسلحة رمزية في معركة مقاومة القمع وتفكيك المشروع الحضاري المتزمت الذي حكم السودان منذ انقلاب 1989. هذا المشروع، الذي تأسس على أيديولوجيا دينية إقصائية، سعى إلى تدجين الفنون، قمع التعدد، وتحويل المجال العام إلى فضاء صامت. أما الثورة، فقد ردّت على هذا التجهيل الرمزي بثورة في التعبير، بلغة حداثية، علمانية، مدنية، وعقلانية.
في ساحة الاعتصام أمام القيادة العامة، تحوّلت الجدران إلى حوامل لذاكرة الثورة، امتلأت بالجداريات، والشعارات، وصور الشهداء، وأيقونات رمزية مثل "الكنداكة"، التي سرعان ما أصبحت رمزًا عالميًا للمرأة السودانية الثائرة. لم تكن هذه الأعمال ترفًا أو زينة، بل كانت لغة سياسية بامتياز، بلاغة بصرية تعيد تعريف الوطن، وتؤسس خطابًا ثوريًا جماعيًا من خارج مؤسسات الدولة. وكما يقول رودولف أرنهايم، "الصورة ليست تمثيلاً ساكنًا، بل محفز على الفعل"، وهكذا كانت الجدارية – والقصيدة، واللافتة، والرقصة الجماعية – جملة سياسية في نص مفتوح من العصيان.
إدراك النظام لخطورة هذا الخطاب الرمزي دفعه إلى استهداف هذه الرموز بشكل منهجي بعد مجزرة فض الاعتصام. أُزيلت الجداريات، طُليت الجدران بلون محايد، مُحي كل أثر للثورة من ساحة الاعتصام. لكن الفعل الثوري لم يُخمد، بل تمدد. فقد خرجت الذاكرة من الجدران المادية إلى الفضاء الرقمي، وانتقلت إلى الشتات، حيث لعب فنانو الدياسبورا السودانية دورًا محوريًا في دعم الحراك الداخلي، وإعادة سرديته للعالم بلغة فنية متعددة الوسائط. معارض، أفلام وثائقية، أعمال أدبية، ملصقات سياسية، ورسائل تضامن، شكّلت طيفًا واسعًا من التعبئة الثقافية التي كسرت احتكار الدولة للرواية.
هذا الامتداد ما كان ليحدث لولا التكنولوجيا، التي أتاحت للثوار أدوات غير مسبوقة للتوثيق والنشر والتدوير. أصبح الهاتف المحمول كاميرا ومطبعة، وأصبح الغرافيتي منشورًا رقميًا، وتحولت الجداريات إلى أيقونات تنتقل من جدار محلي إلى شاشة عالمية. شاركت وسائط التواصل الاجتماعي في كسر العزلة المعلوماتية، وأتاحت للثورة أن تتكلم بكل اللغات، وتدخل كل البيوت، وتجعل من صورة الشهيد، أو شعار "تسقط بس"، رموزًا عالمية للحرية. وهكذا، لم يعد بمقدور النظام أن يحجب شمس المعرفة أو يُخفي ضوء الوعي.
ما جرى بعد المجزرة هو ما تسميه آليدا أسمان "الهجوم على الذاكرة الثقافية". فقد سعت السلطة، عبر القمع الرمزي، إلى تفكيك رمزية الاعتصام، ومحو أي أثر للخيال السياسي الجديد الذي نشأ من الشارع. لكن محو الصورة لم يمحِ المعنى، بل كشف هشاشة المشروع السلطوي، وعجزه أمام القوة المتجددة للرمز. لأن أخطر ما في تلك اللحظة لم يكن فقط الدم المسفوح، بل محاولات إسكات الجدارية، وحذف الأغنية، ومحو الحكاية. لقد خافت السلطة من الفن، لأنه كان مشروعًا بديلًا للهوية، والعدالة، والدولة.
لقد أكدت هذه التجربة أن الثورة لم تكن فقط في الشارع، بل على الجدران، وفي الهواتف، وفي وجدان الناس. وأن الفنون لم تكن تزيينًا للثورة، بل كانت بُنيتها العميقة، وخطابها القيمي، ومحرّكها الرمزي. ولهذا، حين استُهدفت، استُهدفت الثورة نفسها. لكن الصورة، حين تُرسم بدم الشهيد، لا تُمحى. بل تُصبح مرآة تتوارثها الأجيال، وأرشيفًا مقاومًا لا يخبو.
قتل الذاكرة عالميًا: من الاستعمار إلى السودان، كيف تُمحى الشعوب رمزيًا؟ قتل الذاكرة ليس سلوكًا استثنائيًا أو خاصًا بالسودان، بل هو ممارسة متكررة في سجل الأنظمة الاستعمارية، الديكتاتوريات العسكرية، ومراحل ما بعد النزاعات في أنحاء شتى من العالم. تمارس السلطات الاستبدادية هذا القمع الرمزي، خصوصًا في لحظات التحول أو الانهيار، حين تصبح السيطرة على المعنى وسرد التاريخ أهم من السيطرة على الجغرافيا. ولذلك، يُشنّ هجوم على الرموز، ويُدمَّر الأرشيف، وتُعاد كتابة الوقائع بما يتناسب مع منطق السلطة، لا مع الحقيقة.
في السودان، عقب مجزرة القيادة العامة، لم تكتفِ القوات بقتل المعتصمين، بل سعت إلى قتل الرمز، إلى محو الذاكرة البصرية التي تكثفت في ساحة الاعتصام. أُزيلت الجداريات، وصُبغت الجدران بلون محايد، وجرى حظر الإنترنت، وتشويه الشهادات، وتضليل الرواية الرسمية. هذا النمط السلطوي يتقاطع بشكل مباشر مع ممارسات شهدها العالم عبر التاريخ، حيث اعتُبر القمع الرمزي أداة جوهرية لإعادة إنتاج السلطة.
في الأرجنتين خلال سنوات الديكتاتورية (1976–1983)، اختفى نحو ثلاثين ألف شخص قسريًا في ما عُرف بـ"الحرب القذرة"، وسعى النظام إلى مسح آثارهم من السجلات، ومن قبورهم، وحتى من الذاكرة الجمعية. واجهت أمهات ساحة مايو هذا المحو بالمقاومة الصامتة، حيث تحوّلت الأوشحة البيضاء إلى رموز مضادة للنسيان.
وفي رواندا، بعد الإبادة الجماعية عام 1994، مارست الدولة نوعًا من "تنظيف الذاكرة" عبر سردية رسمية موحّدة حجبت الأبعاد العرقية للمجزرة، محاولةً احتواء التوتر، لكنها في ذات الوقت أقصت الضحايا من سردهم الخاص. كما حذّر بول ريكور، فإن فرض سردية واحدة هو عنف رمزي جديد، يُعيد إنتاج الإقصاء باسم المصالحة.
أما في جنوب أفريقيا، فقد مثّل نظام الفصل العنصري نموذجًا كلاسيكيًا لقتل الذاكرة عبر إعادة تشكيل المدن، وتهميش لغات وثقافات السود، وفرض رموز بيضاء على الفضاء العام. وما انتقل إلى مرحلة العدالة الانتقالية لم يكن مجرد اعتراف بالقتل الجسدي، بل أيضًا بمحو طويل المدى للثقافة السوداء. . في كل هذه النماذج، تتكرر ذات الاستراتيجية: محو الرموز لمحو المعنى. لا تُستهدف الصور أو الشعارات أو الأسماء بوصفها عناصر سطحية، بل لأنها تختزن سردية مختلفة عن تلك التي تفرضها السلطة. إنها ذاكرة بديلة، مقاومة، مستقلة، ولهذا تسعى الأنظمة الشمولية إلى استئصالها كما تستأصل المعارضين.
وما جرى في السودان بعد فض اعتصام القيادة يدخل في هذا السياق العالمي، حيث جُعلت الجدران المرسومة ساحات معركة رمزية، لا تقل أهمية عن المعركة على الجسد. لقد سعت السلطة إلى "تطهير" المكان من رمزيته، تمامًا كما حاولت الأنظمة الأخرى "تطهير" الفضاء العام من الذاكرة الجماعية الثورية.
لكن كما تثبت التجربة الإنسانية، فإن الذاكرة لا تُمحى بسهولة. بل تعود بأشكال جديدة، في الشهادة، في التعليم، في الفن، في أرشيفات الناس العاديين، في القصائد وفي الأسماء التي تُمنح للأطفال. ولهذا فإن الصراع على الذاكرة هو اليوم من أهم معارك بناء المستقبل في السودان، ليس فقط باعتباره استردادًا لماضٍ مسروق، بل تأسيسًا لحق الجماعة في أن تقول: هذا ما حدث، وهذه روايتنا.
أخيرا: الذاكرة كميزان للوفاء وساحة لمعركة لم تنتهِ: لم تكن مجزرة القيادة العامة مجرد لحظة عنف مروعة، بل كانت مرآة تكشف عمق التصدع في بنية القوى السياسية والاجتماعية في السودان، وتُعرّي الفارق الشاسع بين أخلاق الشارع ومصالح النخب. ففي حين صنع المعتصمون بأجسادهم العزلاء فضاءً للمقاومة المدنية، وكتبوا على الجدران لغة جديدة للوطن، كانت النخب السياسية، التي تصدّت لمشهد ما بعد سقوط البشير، تنكص عن جوهر الثورة، وتعيد تموضعها ضمن منطق التفاوض، لا التغيير، والاحتواء، لا الانفجار.
تلك النخب لم تستطع، وربما لم ترغب، في مجاراة الحلم الجماعي الذي انبثق من الشارع. بدلاً من تحويل الزخم الثوري إلى مشروع وطني جذري، اختارت طريق التسويات الهشة، وارتضت بإعادة تدوير النظام القديم في عباءة مدنية خالية من المضمون. لم تلامس قضايا البنية العميقة للدولة: لا المركز والهامش، ولا العدالة التاريخية، لاعلاقة الدين بالدولة والمواطنة، لا الهوية، ولا أسئلة الملكية والسيادة والمعنى، بل اكتفت بمطالب تافهة تتعلق بتقاسم السلطة وتوزيع المواقع. وهكذا، سُرقت الثورة من مضمونها، وأُفرغت الذاكرة من طاقتها المؤسسة.
كان أخطر ما في ما بعد المجزرة ليس القمع وحده، بل التواطؤ الصامت الذي تبع القتل، حين صمتت الأبنية الحزبية عن الكشف عن الفعل، عن الجثث- وغضّت النخب الطرف عن استهداف الرموز، وسمحت بتحويل دماء الشهداء إلى أوراق في ملف المفاوضات. صُبغت الجدران، مُحيت الجداريات، سُحب الشهداء من الميادين، حُجبت الشهادات، وأُحيلت الثورة إلى إدارة انتقالية لا تمتلك لا المخيلة ولا الإرادة، ولاتزال اللجان تقف لاحول لها ولاقوة.
لكن التجربة أكدت أن محو الرمز المادي لا يعني محو الذاكرة، وأن خيانة الدم لا تجهض المعنى. فما لم يُعالَج في الجذر، يعود في صورة أكثر جذرية ودموية. هكذا جاءت انتكاسات ما بعد الثورة: انقلاب أكتوبر 2021، ثم حرب أبريل 2023، كتجلٍ مأساوي لعدم مواجهة الحقيقة، وللإصرار على إنكار أن الثورة كانت، وما زالت، تطلب تغييرًا بنيويًا في الدولة لا تسويات شكلية.
ومع ذلك، فإن الذاكرة لم تمت، ولم تستسلم. لم تنجح السلطة، رغم ما أحرقت وطمست، في إنهاء الصورة، لأن الفن أعاد رسمها، ولايزال. لم تنتهِ الشهادة، لأن الناجين حمّلوها للتاريخ، ودوّنوها بالصوت والصورة والكلمة. لم يندثر المعنى، لأن الأحياء حفظوه، ومرّروه إلى الجيل التالي كوصية مقاومة.
إن الثورة، في معناها العميق، ليست فقط فعل إسقاط، بل أيضًا فعل تذكّر. وما يُنسى يُخان، وما يُخان يُعاد إنتاجه ككابوس. لهذا، لا تموت الثورات حين تُقمع، بل حين يُسمح للنسيان أن ينتصر. وكل جدارية مُحيت، وكل أغنية حُظرت، وكل شهادة جُهّلت، هي نداء مفتوح لإعادة الكتابة، وإعادة التأسيس. طالما هناك من يتذكّر، من يرسم، من يدوّن، فإن الثورة لم تُهزم. لأن الصورة حين تُرسم بدم الشهيد، لا تندثر، بل تتحوّل إلى وثيقة وطنية، لا تمحوها المجازر، ولا تقوى على دفنها كل اتفاقيات التواطؤ العابر- والنضال مستمر، والنصر اكيد.
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة