علينا أن نحمل المجرم على ظهر التهميش، لا لنعفيه من الجريمة، بل لنعرف لماذا حمل السلاح، ولماذا اختار بيتاً ليس له ليحتله، وما الذي كان ينقصه كي لا يفعل!
مدخل: مشهد كهرباء لا يُنسى: في مشهد كثيف الرمزية، طفل في حوالي السابعة من عمره يتباهى أمام كاميرا هاتف في أحد أحياء الخرطوم الراقية، بعد أن احتلت أسرته – المنتمية لقوات الدعم السريع – منزلًا هجره أصحابه بسبب الحرب. كان الطفل مستغرقًا في نشوة "الامتلاك"، يتنقل بين مفاتيح الكهرباء والمكيفات والألعاب، مبهورًا بكماليات لم تتوفر له من قبل، بل ربما لم يرها يومًا. هذا المشهد الطفولي، رغم براءته الظاهرة، يفتح جرحًا فلسفيًا–سياسيًا–أخلاقيًا عميقًا. إنه يلخص ما تعنيه العدالة في بلدٍ وُرث فيه أطفال الهامش الحرمان، وأطفال المركز الامتياز. يُجسّد هذا الطفل التوتر الأخلاقي بين الجريمة والتهميش، بين من سُلب، ومن سلب، بين من لم يُمنح شيئًا، ومن خسر كل شيء! إنه تعبير حي عن قول بول ريكور: "الضحية تكتشف إنسانيتها حين تُسلب، أما الجلاد فلا يعرف أنه نزع عن نفسه إنسانيته." هذا الطفل ليس جلادًا، ولكنه ابن جهاز قمعي نشأ في هوامش الدولة المنسية، وتورث فكرة أن المدينة ليست له، وأن كل ما فيها غنيمة!
أولًا: من أشعل الحرب ولماذا؟ السؤال الأكثر جوهرية ليس فقط من أطلق الرصاص أولًا، بل من صنع البنية التي تجعل الحرب ممكنة، بل حتمية؟ إن اشتعال الحرب في السودان بين الجيش والدعم السريع ليس مجرد صراع على السلطة، بل هو نتيجة تاريخ طويل من استخدام الدولة للعنف كأداة حكم، لا كوسيلة لضبط العدل. لقد صُنعت قوات الدعم السريع برعاية الدولة، أولًا في هيئة ميليشيات الجنجويد، ثم تم تحويلها إلى قوة شبه نظامية بعد أن أثبتت كفاءتها في تنفيذ المهام القذرة، لا سيما في دارفور. الدولة السودانية لم تكن ضحية لهذه القوة، بل كانت شريكتها ومؤسستها، وليس لاحد ان يبيعنا امنياته. أمثال قادة الدعم السريع، لم يصعدوا من فراغ، بل من بنية أفرزت رجال أعمال الحرب، تمامًا كما صعد موسوليني من بؤر الجريمة المنظمة، ثم استُخدم كأداة سياسية، قبل أن يصبح خطرًا على الجميع. وفي حال قادة الدعم السريع فالعبرة بالخواتيم كما يقال! الجيش السوداني نفسه، بوصفه المؤسسة التي تحتكر الشرعية العسكرية، لا يختلف كثيرًا. إنه جهاز حارب مواطنيه في الجنوب، ثم في دارفور، ثم في كردفان والنيل الأزرق، ثم في الخرطوم نفسها. وهو لم يعُد جيشًا وطنيًا إلا اسمًا، بل فئويًا، مناطقيًا، يُدار وفق منطق الامتيازات.
ثانيًا: في الاشتباك بين الجريمة والضحية: لا يمكن فهم طبيعة العنف في السودان دون العودة إلى السؤال الأخلاقي الذي طرحه الفيلسوف حنة أرندت: "هل المجرم إنسان؟ وإذا كان كذلك، فهل يمكن فهمه دون تبرير؟" المشكلة ليست في الدعم السريع بوصفه ميليشيا، بل في البيئة التي أنتجته. الدعم السريع هو تجسيد مادي لتراكم التهميش، حيث تتحول الضحية إلى أداة قمعية، يُكافأ بها بعد أن حُرم طويلاً! نظرية فوكو في "السلطة والانضباط" تفسر لنا كيف يتحول المهمش إلى أداة سلطوية حين يُمنح سلطة فجائية. وها هنا نرى جنود الدعم السريع، وهم يستعرضون سلطتهم على منازل المدن التي احتلوها، وكأنهم يقولون: "هذه تعويضاتنا عن التهميش" لكن هذا لا يعفيهم. الفعل الإجرامي يبقى جريمة. كما كتب ألبير كامو في "الإنسان المتمرد": "التمرد لا يبرر القتل، بل يسعى إلى عالمٍ لا يكون فيه القتل ضرورة"
ثالثًا: د. أحمد زكريا – حين يغرق جيفارا السودان: في يومٍ خريفي من يوليو 2024، غرق الدكتور أحمد زكريا إسماعيل في نهر يابوس، بينما كان يحاول عبور مجراه العنيف بدراجة نارية رباعية وهو يحمل مريضًا نحو الضفة الأخرى في منطقة أشكاب، الفونج الجديدة. لم يكن مجرد طبيب يؤدي مهمة رسمية، بل كان يحمل مشروعًا إنسانيًا–تحرريًا واسع الأفق. كان الراحل د. احمد في مهمة لبناء معهد صحي في منطقة منسية، لا تعرف المستشفيات ولا حتى الجسور. كان د. أحمد زكريا طبيبًا ماهرًا، ومثقفًا ملتزمًا، وشاعرًا رقيقًا، وفنانًا تشكيليًا يكتب بخطّ عربي جميل، ويترجم أحلامه في لوحات ورسوم كانت تسكن حوائط أصدقائه ومحبيه. كان يؤمن أن الإنسان لا يُحرَّر فقط بالدواء، بل بالكلمة، بالصورة، وبالحب العميق للناس. لم يكن وجوده في الفونج مجرد تكليف مؤسسي، بل موقف أخلاقي. أحمد زكريا هو جيفارا السودان – لا بوصفه ثائرًا بالسلاح، بل ثائرًا بالموقف، بالمبدأ، بالمعرفة، بالمداواة. وكما كان تشي جيفارا طبيبًا اختار الكفاح لأجل التحرر الإنساني في أمريكا اللاتينية، فإن أحمد اختار أن يربط حياته، وربما موته، بمصير الناس في الهامش. لم يكن يحمل فقط سماعة طبية، بل ضميرًا لا يعرف الحدود، وخيالًا يرى الممكن رغم السواد. لقد اختار أن يكون حيث الألم، تمامًا كما كتب إدوارد سعيد في وصف المثقف: "هو من يختار أن يكون مع المقهورين، لا في خنادق السلطة، بل في مواقع المعاناة، حيث لا ضمانات ولا مجد." أحمد لم يختر الهتاف، بل الفعل؛ لم يختر المنصة، بل المعبر؛ لم يختر البندقية وحسب، بل ضمادة مبلولة بالماء والطين! استشهاده ليس حادثًا عارضًا، بل بيان تاريخي على أن السودان يُقتل بالإهمال كما يُقتل بالرصاص. لقد غرق لأنه لا توجد جسور، ولأن أحدًا لم يرَ أن من حق سكان الهامش أن يعبروا الأنهار بأمان. لقد مات لأنه عاش في بلد لا يُبنى فيه شيء لأجل المهمشين، إلا الثكنات. لكنه لم يكن وحده. أحمد زكريا يمثل نموذجًا حيًّا لجيلٍ كامل من المقاومين في الهامش، الذين ظلوا يواجهون الإقصاء بالصبر، والخذلان بالتصميم، والموت بالحب. كان واحدًا من أولئك الذين يعملون في صمت، دون أن تظهر أسماؤهم في نشرات الأخبار، أو تُخلّد صورهم في جدران الدولة. وإذا كانت النخبة المركزية تكتب التاريخ الرسمي، فإن أمثال د. أحمد يكتبون التاريخ الحقيقي – في الطين، على جدران المدارس المهجورة، في رائحة المراكز الصحية التي لم تُبْنَ بعد، في بسمات المرضى الذين أنقذهم أو حاول. إن سيرته لا تُدرّس في كتب الدولة، لكنها تُروى في ذاكرة الناس، في قلوب زملائه، وفي كلمات والدته التي قالت في تأبينه: "أحمد لو مات، لكن هو موجود بينكم، وإنتو إخوانو، وقضيتو موجودة." وهذا القول، بما فيه من بساطة يختصر معنى الخلود. لقد كتب د. أحمد بخط يده ما يشبه وصيته: "لا تبكي إن متّ، بل افعل ما كنت سأفعله لو كنت حيًا، عندها سأعيش في قلبك." وها نحن نعيد قراءة هذه الجملة، لا كمرثية، بل كمانفستو لأخلاق الثورة القادمة من أعماق الأرض، من النهر، من الطين، من نبل الشهداء.
رابعًا: منازلنا – حين تُنهب الذاكرة: في الخرطوم ومدني، كما في كتم والفاشر، لم تُنهب البيوت فقط، بل نُهبت الذكريات. الصور، الخطابات، دفاتر الذكريات، الرسومات، كراسات الأطفال، كلها تحطمت أو احترقت. هذه ليست أشياء، بل هي هوية. إنها ما يسميه جاك دريدا بـ"الأرشيف الحميم" – الذاكرة التي تُنسف حين تُقتلع من مكانها. الذين احتلوا هذه البيوت، مثل ذاك الطفل، لم يفهموا أنهم لم يسرقوا كهرباء أو سريرًا، بل اقتلعوا وجودًا. والذين سُرقت منهم بيوتهم، اكتشفوا أنهم ليسوا فقط بلا مأوى، بل بلا تاريخ.
خامسًا: من هو المجرم؟ من خلقه؟ وما العمل؟ لا بد من التمييز الأخلاقي والسياسي. من أمر بالقتل، من خطط للاغتصاب، من نظم عمليات التهجير، هو مجرم. هذا لا يقبل المواربة. ولكن من جُند وهو أمي، بلا تعليم، من نشأ في بيئة لا تقدم سوى السلاح كخيار، لا يمكن أن نساويه بمن أسّس هذه المنظومة. نظرية عالم النفس أبراهام ماسلو حول "هرم الاحتياجات" تُظهر أن الإنسان لا يسعى للمعنى ما لم تُلبَّ احتياجاته الأساسية. الدعم السريع وُلد في قاعدة هذا الهرم، لا في قمته. لهذا كانت أفعاله تعبيرًا عن بقاء، لا عن قيم. كما تذهب فلسفة "العدالة الانتقالية" التي صاغتها توماس كارثر، فإن المجتمعات الخارجة من الحرب لا تنجو إلا إذا ميزت بين العقاب والإصلاح. يمكن محاكمة القادة، ولكن لا بد من إعادة تأهيل المضللين والمجندين قسرًا. والحركة الشعبية طرحت العدالة التاريخية لتسد ماهو قصور في عمليات العدالة الانتقالية!
سادسًا: في فلسفة التنمية والعدالة – بين الأزمة والبديل: لماذا تأخر السودان؟ لماذا تقاتلت مجتمعاته؟ ولماذا يتحول الفقر إلى سلاح؟ الإجابة تكمن في بنية السلطة والثروة، وفي النمط الاستعماري المحلي الذي استبطنه المركز.
لقد سُيّرت الدولة السودانية منذ الاستقلال كما لو كانت شركة عائلية. التعليم، الصحة، فرص العمل، مشروعات التنمية، كلها كانت تُوزع وفق الولاء والانتماء الجهوي والعرقي والديني. في حين دخلت أسر في المركز الجامعات جيلًا بعد جيل، بقيت أسر كاملة في الهامش بلا مدرسة، بلا مشفى، بلا بنية تحتية جيلا بعد جيل. كما أشار المفكر السنغالي شيخ أنتا ديوب: "إن الاستعمار الداخلي أخطر من الخارجي، لأنه يجعل الاستغلال يبدو وكأنه قدر طبيعي." وهذا الاستغلال البنيوي هو ما أنتج الاحتجاج المسلح بوصفه شكلًا من أشكال التعبير عن المطالبة بالحق في الحياة. الكفاح المسلح في السودان، رغم آثاره المأساوية، لم يكن خيارًا أخلاقيًا مجردًا، بل اضطرارًا وجوديًا فرضته بنيات التهميش الممنهج. حين تُحرم من كل شيء، يصبح السلاح وسيلة للفت النظر، ولتحصيل الحد الأدنى من الوجود. غير أن هذا الواقع المأزوم لا يعني أن البديل مستحيل. على العكس، لقد بدأ يتشكل أفق للخروج من هذه الحلقة الجهنمية، عبر مشروع "السودان الجديد" – بوصفه تصورًا فلسفيًا–سياسيًا يهدف إلى إعادة بناء الدولة على أسس المواطنة المتساوية، والتوزيع العادل للثروة والسلطة، وتجاوز انقسامات الإثنية والمناطق. وفي هذا السياق، يبرز تحالف "تأسيس"، باعتباره طَرحًا موضوعيًا مفتوحًا لمناهضة التهميش البنيوي، ومجالًا سياسيًا لاستيعاب قوى التغيير من كافة الأقاليم، دون تكرار أخطاء المركز التاريخية. إن تحالف تأسيس لا يُقدَّم كمجرد رد فعل على الحرب، بل كمبادرة تستبطن ضرورة التحرر من منطق الامتيازات المتوارثة، وتفتح أفقًا لمشاركة سياسية عادلة، ودستور علماني وديمقراطي جديد يقطع مع الدولة الفاشلة. من هنا، فإن مستقبل السودان لا يمر فقط عبر تفكيك البنية المجرمة، بل عبر بناء بديل ذي رؤية، يعترف بالجرح، ويجعل من العدالة التاريخية مدخلًا لإعادة صياغة العقد الاجتماعي.
اخيرا: في طريق الخروج من المأزق: إن مواجهة المأزق السوداني الراهن لا يمكن أن تتم عبر مصالحات شكلية، أو تسويات سياسية فوقية، أو محاكمات انتقائية تُكرّس الظلم بدل أن تعالجه. الخروج من هذا المأزق يتطلب مشروعًا وطنيًا جذريًا يعيد تعريف الدولة لا كسلطة، بل كضامن للحياة. لا بد من إعادة توزيع الحياة نفسها: التعليم، السكن، الماء، الصحة، الذاكرة، والكرامة. لكن هذا المشروع لن يُكتب له النجاح ما لم يرتكز على رؤية واضحة، تستلهم من مشروع السودان الجديد أفقًا لتحول بنيوي، وتجعل من تحالف "تأسيس" منصةً لفتح الطريق نحو العدالة الحقة.
إن هذا المشروع الوطني ينبغي أن يشمل: ١/ إقرار العدالة التاريخية بوصفها اعترافًا متأخرًا بجذور الظلم البنيوي، لا مجرد محطات انتقالية للمساومة السياسية. ٢/ برامج تأهيل نفسي وتعليمي لأفراد الهامش الذين زُج بهم في العنف دون وعي أو اختيار، مع إعطاء الأولوية للأطفال والمجندين السابقين. ٣/ محاكمة القادة والآمرين والذين ارتكبوا جرائم ممنهجة ضد المدنيين، دون مساومة أو انتقائية ٤/ بناء سردية وطنية جديدة، تعترف بأن من حمل السلاح في لحظة ما، ربما كان يصرخ من الجوع والخذلان، لا من الحقد والكراهية. ٥/ تأسيس ميثاق وطني للتنمية المتوازنة، لا كمنحة من المركز، بل كحق مكتسب للهامش. ٦/ دمج العدالة، الثقافة، والفن في مشروع إعادة البناء، عبر توثيق المآسي، وتكريم الضحايا، وإعادة تخيل الوطن كمساحة تعايش لا صراع.
كما قال الفيلسوف بول تيليش: "العدالة هي شكل الحب في السياسة." فلنُحب السودان بعدلٍ نابع من الاعتراف، والمحاسبة، والبديل الممكن. التاريخ الذي نحتاجه لم يولد بعد، لكنه يُكتب اليوم بما نفعله، لا بما نندبه. وما دام الألم مفتوحًا، فالاحتمال مفتوح أيضًا فليكن عامنا هذا عام العدالة، لا الذكرى فقط!
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة