العدالة التاريخية في السودان: أفق تحولي واستحقاق قانوني وأخلاقي: انتهازية الخطاب الحقوقي في سودان

مرحبا Guest
اخر زيارك لك: 06-14-2025, 10:51 PM الصفحة الرئيسية

منتديات سودانيزاونلاين    مكتبة الفساد    ابحث    اخبار و بيانات    مواضيع توثيقية    منبر الشعبية    اراء حرة و مقالات    مدخل أرشيف اراء حرة و مقالات   
News and Press Releases    اتصل بنا    Articles and Views    English Forum    ناس الزقازيق   
اراء حرة و مقالات
نسخة قابلة للطباعة من الموضوع   ارسل الموضوع لصديق   اقرا المشاركات فى شكل سلسلة « | »
اقرا احدث مداخلة فى هذا الموضوع »
03-23-2025, 05:00 AM

خالد كودي
<aخالد كودي
تاريخ التسجيل: 01-01-2022
مجموع المشاركات: 97

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
العدالة التاريخية في السودان: أفق تحولي واستحقاق قانوني وأخلاقي: انتهازية الخطاب الحقوقي في سودان

    05:00 AM March, 23 2025

    سودانيز اون لاين
    خالد كودي-USA
    مكتبتى
    رابط مختصر





    العدالة التاريخية في السودان: أفق تحولي واستحقاق قانوني وأخلاقي:
    انتهازية الخطاب الحقوقي في سودان ما بعد ثورة ديسمبر:

    2025/3/22 خالد كودي، بوسطن

    لطالما شكّل خطاب (العدالة الانتقالية) أداة مركزية في مشاريع الانتقال الديمقراطي حول العالم، خاصة في مجتمعات ما بعد النزاع. غير أن هذا المفهوم، برغم أهميته، كثيراً ما تعرّض للاختزال والتسييس، لا سيما في حالات التداخل المعقّد بين النخب السياسية ومراكز القوة المتجذّرة، كما هو الحال في السودان. ففي الحالة السودانية، أُفرغ مفهوم العدالة الانتقالية من مضامينه الجذرية، وتحول إلى مجرد أداة للتسوية السياسية قصيرة الأجل أو لتصفية الحسابات، دون مساءلة البنية العميقة للسلطة التي أنتجت الانتهاكات. في مواجهة هذا المسار، طرحت الحركة الشعبية لتحرير السودان – شمال، عبر دستورها، و ميثاق "تأسيس" مفهوم "العدالة التاريخية" بوصفه أفقًا تحوليًا شاملًا، يتجاوز المنظور التقني والمجزأ للعدالة الانتقالية، ويسعى لتفكيك البنية السياسية والأمنية والثقافية التي سمحت بتراكم المظالم، لا الاكتفاء بمحاسبة الأفراد المتورطين بصورة مباشرة وحسب. إن هذا التوجه ليس فقط موقفًا سياسيًا مبدئيًا، بل يمثل استحقاقًا قانونيًا وأخلاقيًا ينسجم مع المبادئ المستقرة في القانون الدولي لحقوق الإنسان، والقانون الدولي الإنساني، والمواثيق والمعاهدات الدولية التي عالجت قضايا العدالة بعد الحروب والانتهاكات الجماعية. فالعدالة التاريخية، بوصفها مساءلة للبنى المنتجة للعنف، وتعويضًا للضحايا كمجتمعات لا كأفراد فحسب، تُدرج ضمن موجبات قانونية واضحة لا يمكن تجزئتها أو تجاوزها.

    ينص نظام روما الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية في مادتيه (5) و(7) على مسؤولية الأفراد عن الجرائم ضد الإنسانية مثل القتل، الاضطهاد، الاختفاء القسري، والاستعباد، ولكنه يفتح أيضًا الباب لمساءلة الهياكل والمؤسسات التي مكّنت تلك الجرائم. أما المادة (21) من النظام ذاته، فتؤكد على أولوية تطبيق القانون الدولي العرفي ومبادئ العدالة وحقوق الإنسان، بما يشمل "إصلاح الضرر الجسيم" كحق جوهري للضحايا.

    في السياق نفسه، يشير الميثاق العالمي للضحايا (1985) إلى أن العدالة لا تكتمل إلا من خلال الاعتراف، وجبر الضرر، وضمانات عدم التكرار، وكلها متطلبات لا يمكن تحقيقها دون مراجعة شاملة للبنية المؤسسية والسياسية التي ساهمت في الانتهاك. وهو ما يتطلب – قانونًا وأخلاقًا – إعادة هيكلة مؤسسات الدولة الأمنية، والاعتراف بمسؤولية النخب الحاكمة وممارساتها التمييزية، لا الاكتفاء بتغيير أسماء المسؤولين.

    أما اتفاقية مناهضة التعذيب (1984)، فتُلزم الدول، في مادتها (14)، بتقديم جبر كامل لضحايا التعذيب، بما يشمل التعويض، ورد الاعتبار، وإعادة التأهيل، وضمانات عدم التكرار. ومن خلال هذا المنظور، فإن الانتهاكات الممنهجة التي شهدها السودان، خاصة تحت نظام 30 يونيو 1989 بقيادة عمر البشير، تُصنَّف ضمن الانتهاكات الممنهجة لحقوق الإنسان، وتستلزم عدالة تاريخية لا تختزل في المحاكمات، بل تمتد لتطال الإيديولوجيات الاستبعادية والمؤسسات القمعية التي مارست الإبادة الثقافية والتمييز المنهجي ضد الهويات المهمشة.

    الطابع البنيوي لهذه الانتهاكات – التي طالت جماعات بكاملها في دارفور، جبال النوبة، والفونج الجديد– يجعل من العدالة الانتقالية التقليدية، القائمة على المساءلة الفردية، غير كافية وغير ملائمة. كما أن فشل النظام ما بعد الثورة (2019–2021) في تبني مقاربة شاملة للعدالة التاريخية، وانخراطه في صفقات فوقية كرّست الإفلات من العقاب، عزز الشعور بعدم الاعتراف بالضحايا، وعمّق مأساة المجتمعات المتضررة، خاصة حين تم تسويق "الشرعية المدنية" كغطاء للاستمرار في تجاهل جذور الدولة الاستعمارية الداخلية.

    لهذا، فإن مفهوم العدالة التاريخية الذي تتبناه الحركة الشعبية لتحرير السودان – شمال، وتبناه تحالف "تأسيس"، لا يمثل فقط تجاوزًا نظريًا للعدالة الانتقالية، بل يُجسّد التزامات السودان الدولية تجاه الضحايا، ويُعيد الاعتبار لمطالبهم عبر مساءلة شاملة تُخضع الدولة نفسها – لا فقط بعض رموزها – للمراجعة. العدالة التاريخية ليست ترفًا مفاهيميًا، بل أداة قانونية ضرورية لإعادة تأسيس الدولة السودانية على مبادئ المساواة، وكرامة الشعوب، والاعتراف بالضحايا كمصدر للسيادة الأخلاقية في مشروع السودان الجديد.

    يمثّل الميثاق الأفريقي لحقوق الإنسان والشعوب (ميثاق بانجول 1981) مرجعية قارية أساسية في ترسيخ قيم العدالة، خاصة في المجتمعات التي شهدت الاستعمار، والعنصرية، والانتهاكات البنيوية الممنهجة. بعكس بعض الأدبيات الغربية لحقوق الإنسان التي تركز على الفرد، فإن الميثاق الأفريقي يُبرز الطابع الجمعي للحق، ويُقرّ ضمنًا بمفهوم العدالة التاريخية من خلال إقراره بحق الشعوب في تقرير المصير، والسيادة على مواردها، والعدالة في التنمية، ورفض كل أشكال التمييز والإقصاء.

    تنص المادة (19) من الميثاق على أن "جميع الشعوب متساوية، ولها نفس الكرامة ونفس الحقوق"، بينما تؤكد المادة (20) على "حق الشعوب في الوجود، وفي تقرير المصير، وفي مقاومة القمع". هذه النصوص لا تُعالج فقط انتهاكات حقوق الإنسان بالمعنى الفردي، بل تُخاطب العنف البنيوي والتاريخي الذي تتعرض له الجماعات المهمشة، وتؤسس لحقها في العدالة بوصفها إعادة توزيع للسلطة والموارد، واعترافًا بهويتها وتاريخها، ومحاسبة لمنظومة الهيمنة التي طمستها لعقود.

    وفي المادة (21)، يُقرّ الميثاق بـ"حق الشعوب في التمتع بحرية التصرف في ثرواتها ومواردها الطبيعية"، مع التأكيد على أن "حرمان شعب من وسائل وجوده يشكل انتهاكًا خطيرًا". هذا النص يُفكك ضمنًا البنية الاقتصادية للظلم التاريخي، ويفتح الباب أمام مقاربة العدالة التاريخية كعدالة اقتصادية وثقافية، لا فقط جنائية أو إجرائية.

    في السياق السوداني، تتأكد الحاجة الملحة لتطبيق هذه المبادئ الأفريقية الجوهرية، خاصة بعد عقود من الإقصاء الذي مارسته الدولة المركزية ضد شعوب الهامش، سواء في دارفور أو جبال النوبة أو الفونج أو شرق السودان وغيرهم. فالدولة السودانية، منذ الاستقلال، لم تكن دولة لجميع مواطنيها، بل تحوّلت إلى أداة استعمار داخلي مارست التمييز على أسس عرقية وثقافية ودينية، كما صاغت مؤسساتها وخططها التنموية لمصلحة فئة ضيقة من المركز، على حساب بقية الأقاليم.

    وعليه، فإن تطبيق نصوص الميثاق الأفريقي في السودان لا يُعد التزامًا قانونيًا فحسب – كون السودان طرفًا مصادقًا على الميثاق منذ عام 1986 – بل هو ضرورة تاريخية لإعادة صياغة الدولة على أسس جديدة، تنصف الشعوب التي كانت تاريخيًا خارج معادلة السيادة والثروة، وتُعيد توزيع السلطة بطريقة تعترف بالضحايا والنجاة لا كأجساد جُرحت، بل كذوات وجماعات لها الحق في قيادة مستقبلها.

    إن العدالة التاريخية، في هذا الإطار، ليست فقط استجابة سياسية للأزمة، بل هي ترجمة عملية للروح التحررية للميثاق الأفريقي، وتجسيد للمشروع القاري في إنهاء الاستعمار بكل أشكاله، الظاهرة والمقنّعة. ولذا، فإن أي مشروع ديمقراطي سوداني لا يضع هذه المبادئ في قلب رؤيته السياسية، سيكون مشروعًا قاصرًا، يعيد إنتاج الأزمات باسم "الشرعية" و"الانتقال"، لكنه يفشل في تحقيق التحول الجذري المطلوب.

    الميثاق الأفريقي لحقوق الإنسان والشعوب:

    لنربط العدالة التاريخية في السودان بقرارات المحكمة الأفريقية لحقوق الإنسان والشعوب، ونوضح كيف يمكن تفعيل الآليات الإقليمية لتعزيز حقوق الضحايا ومحاسبة الأنظمة التي مارست العنف البنيوي:

    المحكمة الأفريقية لحقوق الإنسان والشعوب: آلية إقليمية لتفعيل العدالة التاريخية في السودان:

    إلى جانب الميثاق الأفريقي لحقوق الإنسان والشعوب، توفر المحكمة الأفريقية لحقوق الإنسان والشعوب – التي أُنشئت بموجب البروتوكول الملحق بالميثاق عام 1998 ودخل حيز التنفيذ في 2004 – آلية قانونية قارية مهمّة يمكن اللجوء إليها من أجل تحقيق العدالة للضحايا، لا سيما في حالات العنف المنظم، والتمييز البنيوي، والإفلات المستمر من العقاب.
    وقد أصدرت المحكمة في السنوات الأخيرة عددًا من الأحكام التي تمثل نقلة نوعية في فهم العدالة بوصفها شاملة وتاريخية، مثل الحكم في قضية
    African Commission on Human and Peoples’ Rights v. Kenya (2017(
    حيث أدانت المحكمة الحكومة الكينية لتهجيرها قسرًا لمجتمع الـ"أوغيك" الأصيل من أراضيهم، واعتبرت ذلك
    انتهاكًا لحقهم الجماعي في الأرض، والهوية، والثقافة، ووصفت الظلم الذي وقع عليهم بأنه "ظلم تاريخي متراكم"، يستوجب تعويضًا وجبرًا شاملاً، بما في ذلك الاعتراف الرسمي بحقوقهم الجماعية.

    هذا النموذج القانوني يمثّل مرجعًا حاسمًا للسودان، حيث تعرّضت جماعات بأكملها – خاصة في دارفور وجبال النوبة والفونج – إلى انتهاكات ممنهجة تمثلت في التهجير القسري، والقتل الجماعي، والاستبعاد من صنع القرار السياسي، والحرمان من الثروة والتمثيل، مما يرقى إلى ممارسات استعمار داخلي مكتمل الأركان. وهو ما يجعل من اللجوء إلى المحكمة الأفريقية ليس فقط ممكنًا، بل مطلوبًا من الناحية الأخلاقية والقانونية، خاصة إذا فشلت السلطات الوطنية أو تواطأت في تعطيل العدالة، وتحالف تأسيس يجب ان يعتمد هذه الالية ويستخدم مثل سوابق الـ"أوغيك".

    يمكن للضحايا، أو المنظمات الحقوقية السودانية والإقليمية، أو حتى الحركة الشعبية لتحرير السودان – شمال بصفتها حاملة لمشروع العدالة التاريخية، استخدام هذه الالية في أي تفاوض، كما يمكنها تقديم شكاوى جماعية باسم المجتمعات المتضررة، وفق المادة (5) من البروتوكول المؤسس للمحكمة. كما يمكن الضغط على الحكومة السودانية – إذا توافرت حكومة شرعية وطنية جديدة – للمصادقة على البروتوكول الخاص بالمحكمة، والسماح للأفراد والجماعات باللجوء المباشر إليها، إذ أن السودان لم يصادق حتى الآن على هذا البروتوكول، مما يعكس تواطؤًا ضمنيًا في إغلاق أبواب العدالة القارية.

    إضافة إلى المحكمة، فإن اللجنة الأفريقية لحقوق الإنسان والشعوب – وهي الجهاز الشبه قضائي المرافق للميثاق – قد أصدرت في تقاريرها التفسيرية وتوصياتها المتعددة ما يدعم تفسيرًا موسعًا للعدالة، يتجاوز العقاب الإجرائي إلى المساءلة السياسية والجبر الجماعي وإصلاح المؤسسات.

    من هنا، فإن مشروع "العدالة التاريخية" الذي تطرحه الحركة الشعبية لتحرير السودان – شمال وحاليا تبناه تحالف "تأسيس" لا يتحرك في فراغ، بل يستند إلى بنية قانونية أفريقية راسخة، وإلى سوابق قضائية متقدمة، يمكن تفعيلها من أجل كسر حلقة الإفلات من العقاب، وفضح النفاق السياسي الذي جعل من الحديث عن حقوق الإنسان غطاءً لإعادة إنتاج السلطة لا أداة لتحرير الإنسان.

    العدالة الانتقالية في السودان: أداة نخبويّة لإعادة إنتاج الإفلات من العقاب:
    رغم أن العدالة الانتقالية تُطرح في الأدبيات القانونية والسياسية بوصفها آلية لتحقيق الإنصاف والمساءلة في فترات ما بعد النزاع، إلا أن التجربة السودانية كشفت عن مدى قابلية هذا المفهوم للتوظيف النخبوي والانتهازي، خاصة من قبل القوى السياسية التي شاركت في المرحلة الانتقالية بعد ثورة ديسمبر 2018. فقد تم اختزال العدالة الانتقالية إلى مجرد "محاكمات رمزية" تركز على إدانة الأفراد، دون مساءلة المنظومة البنيوية التي مكّنتهم من ارتكاب الجرائم، بما في ذلك مؤسسات الدولة العسكرية والأمنية، وأيديولوجيات المركز الثقافي والديني.

    يؤكد الفيلسوف بول ريكور هذا المعنى بقوله: "العدالة التي لا تسندها الذاكرة الجماعية تتحوّل إلى إجراءات خاوية"، وهو ما حدث فعليًا حين استُخدم خطاب حقوق الإنسان كأداة للمكايدة السياسية بين الفرقاء، بدل أن يكون أرضية أخلاقية جامعة. فقد قامت قوى "الحرية والتغيير" – التي تصدّرت المشهد السياسي بعد الثورة – بتمكين شخصيات ارتكبت انتهاكات جسيمة، من مواقع متقدمة في السلطة وسلمتها ملفات حقوقية هامه.

    هذا التناقض الفج بين الخطاب والممارسة لا يعكس فقط انتهازية سياسية، بل يُعبّر عن قصور في الوعي بطبيعة العدالة كعملية تحوّل اجتماعي ومؤسسي شاملة. وبدلًا من إنصاف الضحايا، تم تهميشهم مجددًا، وتحوّلت معاناتهم إلى وسيلة لشرعنة التحالفات السياسية، لا إلى منطلق لإعادة بناء الدولة على أسس أخلاقية وتاريخية عادلة.

    العدالة التاريخية كبديل تحولي وجذري:
    في مواجهة هذا الاختزال النخبوي لمفهوم العدالة، تطرح الحركة الشعبية لتحرير السودان – شمال، في وثائقها السياسية وميثاق تحالف "تأسيس"، تصورًا متكاملًا للعدالة التاريخية، لا باعتبارها بديلاً تقنيًا عن العدالة الانتقالية، بل بوصفها أفقًا أكثر شمولًا يربط بين المحاسبة، والاعتراف، وتفكيك البنية التي أنتجت الجريمة.

    العدالة التاريخية، وفق هذا التصور، لا تقتصر على معاقبة الجناة، بل تتطلب مساءلة المنظومة السياسية والعسكرية والثقافية التي أنتجت العنف الممنهج، من الجيش والمليشيات الإسلامية المتطرفة، إلى أجهزة الدولة الأمنية، إلى أيديولوجيا المركز الاستبعادية. ومن هذا المنطلق، فإن وثيقة "تأسيس" لم تكتف بتشخيص الانتهاكات، بل اقترحت آليات لإعادة بناء الدولة على أساس المساواة، والتمثيل العادل، والاعتراف بهويات المهمشين، بما يجعل من العدالة مكونًا تأسيسيًا لا مجرد إجراء لاحق.

    وقد تجسّد هذا الموقف عمليًا حين أوقفت الحركة الشعبية التفاوض مع الحكومة الانتقالية في إحدى الجولات عام 2020، احتجاجًا على خروقات قوات الدعم السريع لوقف إطلاق النار، رغم أن هذه القوات كانت جزء من الحكومة وقائدها مان يمثل الحكومة في تلك المفاوضات. هذا السلوك لم يكن موقفًا تكتيكيًا، بل تعبيرًا عن التزام أخلاقي يستند إلى رؤية أكثر جذرية للعدالة، رؤية ترفض التطبيع مع الجريمة، وتربط بين وقف الحرب وبناء السلام العادل وفقا لقواعد الانصاف.

    من الضحية إلى الفاعل: استعادة صوت الضحايا في مشروع العدالة:
    من الملامح البنيوية لأزمة العدالة الانتقالية في السودان، أنها غالبًا ما تجاهلت صوت الضحايا كمصدر للشرعية السياسية والأخلاقية، فتم الحديث عنهم، لا معهم، وادّعت النخب تمثيل مشاعرهم وتجاربهم، دون أن تمنحهم الحق في صياغة شروط العدالة التي تُنصفهم. وقد نبّه الناشط الحقوقي الجنوب أفريقي أليستير سبارو إلى هذه الإشكالية حين قال:
    "لا يمكن تحقيق عدالة انتقالية حقيقية دون مشاركة الضحايا في صياغة العدالة نفسها"
    في هذا السياق، تأتي العدالة التاريخية كاستجابة حقيقية، لا فقط لمعاناة الأفراد، بل لتجارب المجتمعات التي تعرّضت لعقود من التهميش والعنف البنيوي. فهي ترفض اختزال الضحية إلى موضوع شفقة، وتُعيد له موقعه كفاعل سياسي وأخلاقي، يطالب ليس فقط بالقصاص، بل بتغيير شروط الوجود الجماعي. وهي بهذا المعنى، تُعيد تعريف العدالة بوصفها عملية تفكيك للهياكل التي شرّعت للقتل، لا معاقبة من نفّذوه وحسب.

    الذاكرة كجزء لا يتجزأ من العدالة التاريخية:
    المتاحف، المنشآت التذكارية، الفنون، الثقافة والتعليم كمسارات للاعتراف والاعتبار:
    لا تكتمل العدالة التاريخية – بوصفها مشروعًا تحويليًا وثوريا شاملًا – من دون إدماج فعّال وحقيقي لسياسات الذاكرة والاعتراف، باعتبار أن العدالة لا تقف عند حدود المساءلة القانونية أو التعويض المادي، بل تتطلب إعادة تشكيل الوعي الجمعي، وترسيخ رواية الضحايا في الحيز العام. فالضحايا، أفرادًا ومجتمعات، لا يطالبون فقط بالعقاب لمن أساء إليهم، بل أيضًا بـ"الاعتراف"، وهو أحد أعمق الأبعاد النفسية والرمزية للعدالة، كما أشار الفيلسوف بول ريكور، الذي رأى أن الاعتراف يتجاوز القانون ليبلغ الوجود الإنساني ذاته. وفي السياق السوداني، حيث تَعرّضت جماعات كاملة للإبادة الثقافية والعرقية، والتهميش التاريخي، لا يمكن الحديث عن عدالة منصفة دون تثبيت الذاكرة الجمعية، وضمان عدم طمسها أو اختزالها في السرديات النخبوية أو الرسمية.

    تلعب المتاحف التذكارية، والنُصب، والمواقع الرمزية، والمنشآت البصرية التشاركية دورًا مركزيًا في هذا المسار، فهي ليست مجرد أدوات لتخليد الماضي، بل فضاءات لبناء المعرفة العامة، وتأطير الحوار المجتمعي، وتشكيل وجدان جماعي جديد يتعلّم من الألم، ويحوله إلى قوة أخلاقية دافعة نحو التغيير. فعلى سبيل المثال، شكّل متحف الأبارتايد في جنوب أفريقيا منصة تعليمية ومجتمعية متميزة، ربطت بين سردية النضال، وتوثيق الانتهاكات، وتفسير جذورها البنيوية. وفي تشيلي، تحوّلت مراكز التعذيب إبان عهد بينوشيه إلى متاحف للذاكرة والكرامة، تُستخدم اليوم لتدريس حقوق الإنسان. أما في رواندا، فقد أقيمت متاحف الإبادة الجماعية في كيغالي ونيماتا، لا كأماكن للحزن فحسب، بل كمساحات تعليمية وتشاركية تُنظم فيها ورش عمل للسلام والتسامح. وداخل ألمانيا، لا تزال النُصُب واللافتات التذكارية الصغيرة
    المزروعة في أرصفة المدن تذكّر المارّة يوميًا بضحايا النازية، وتؤدي دورًا عميقًا في التربية على الذاكرة واليقظة الأخلاقية
    في هذا الإطار، لا بد أن يكون مشروع العدالة التاريخية في السودان مكمّلًا بمسارات رمزية وثقافية مماثلة، تستعيد الذاكرة الجمعية للمناطق التي عانت من القتل الجماعي، التهجير القسري، الاستعباد الثقافي، والاستعمار الداخلي. وهذه المهمة لا تقتصر على الدولة، بل تتطلب انخراطًا فاعلًا من المجتمع المدني، والمؤسسات الأكاديمية، والفنانين، والناجين أنفسهم.

    ويجب أن تشمل هذه السياسة التذكارية:
    تطوير مناهج تعليمية جديدة تدمج سرديات الضحايا، وتُعزز من الوعي بالتعدد التاريخي والثقافي للسودان
    تحويل مواقع الانتهاك إلى فضاءات تذكارية، كمواقع المجازر في دارفور أو سجون التعذيب في الخرطوم أو القصف في جبال النوبة، لا لتحويل الألم إلى رمز، بل لخلق بنية تحتية أخلاقية للمستقبل.
    دعم الفنون البصرية والمسرحية والموسيقية كأدوات للذاكرة الحية، بما في ذلك إقامة بيناليات للفن المعاصر تدور حول قضايا الذاكرة والعدالة.
    تأسيس مراكز أبحاث وندوات دائمة حول التاريخ الشفهي، وسرديات الضحايا، والعدالة المجتمعية، خاصة في الجامعات الإقليمية.

    وفي هذا السياق، طور كاتب هذا المقال، عبر خبرته البحثية والفنية، عددًا من المشاريع التي تعنى بإقامة منشآت بصرية تشاركية تتأسس على مقاربة جمالية وأخلاقية للذاكرة الجماعية، تستند إلى الممارسات التشاركية والتعاون بين الفنانين والمجتمعات المتأثرة. هذه المنشآت، التي يجري تطويرها بالتوازي مع الكتابة النقدية، تهدف إلى تحويل الفضاء المعماري إلى وسيط بين الأجيال، وموقع للاعتراف المتبادل، ومنصة لإعادة تشكيل العلاقة بين الذاكرة والعدالة.

    وستُفرد لهذه المشاريع مساحات تفصيلية لاحقة في دراسات قادمة، تُضيء على كيف يمكن للفن والعمارة والتعليم أن يتحولوا إلى ركائز لمشروع السودان الجديد، لا بوصفهم ملحقات رمزية، بل كجزء أصيل من البنية التحتية الأخلاقية والسياسية للعدالة التاريخية.

























                  


[رد على الموضوع] صفحة 1 „‰ 1:   <<  1  >>




احدث عناوين سودانيز اون لاين الان
اراء حرة و مقالات
Latest Posts in English Forum
Articles and Views
اخر المواضيع فى المنبر العام
News and Press Releases
اخبار و بيانات



فيس بوك تويتر انستقرام يوتيوب بنتيريست
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة
About Us
Contact Us
About Sudanese Online
اخبار و بيانات
اراء حرة و مقالات
صور سودانيزاونلاين
فيديوهات سودانيزاونلاين
ويكيبيديا سودانيز اون لاين
منتديات سودانيزاونلاين
News and Press Releases
Articles and Views
SudaneseOnline Images
Sudanese Online Videos
Sudanese Online Wikipedia
Sudanese Online Forums
If you're looking to submit News,Video,a Press Release or or Article please feel free to send it to [email protected]

© 2014 SudaneseOnline.com

Software Version 1.3.0 © 2N-com.de