بمناسبة تعديل السلطات الحاكمة في السودان للوثيقة الدستورية التي يعود وضعها الى العام 2019 اثر الإطاحة بحكم النظام العسكري - الإسلامي، نذكِّر، بان الجيش السوداني ظل يحكم السودان على مدار ثمانية وخمسين عام منذ طرد الاستعمار البريطاني المباشر في العام 1956 وحتى تاريخه باحتكار تام للقرار السياسي، وكان الحصاد في المضمار المعنوي (intangible) تدمير الحياة السياسية ما ادى في النهاية على الصعيد المادي (physical) إيقاف عجلة تنمية قوى البلاد المنتجة وخلق الاسباب المواتية لاشتعال الحروب المحلية. ********** ينصب تركيز هذه الكلمة على ايراد المغزى السياسي الذى ينطوي عليه تعديل الوثيقة الدستورية من قبل مجلسي السيادة والوزراء اللذان يشكلان المجلس التشريعي المؤقت.
بجانب تعديل الوثيقة الدستورية، فقد اقر المجلسان تعديلات على عدد من القوانين شملت قانون الإجراءات الجنائية، وقانون الشركات، إضافة إلى تعديل قانون تشريع الاستثمار. وكتعليق عام، فان تعديل قانونى الشركات والاستثمار ليس أكثر أهمية من مسائل، أفرزها اشتعال الحرب في 15 أبريل 2023 بين الجيش ومليشيا الجنجويد، يجب أن توظف كل الجهود لمواجهتها وهي: وضع 10 مليون مهجرين قسريا داخليا وخارجيا( معظم المهجرين يعيش أوضاعا مذريه). المعالجة العاجلة لوضع عشرات الآلاف من العمال والموظفين في القطاعين العام والخاص تضرروا من الحرب. وضع القطاع الصناعي المحطم. ان عدد المصانع التي تم تدميرها في الحرب وسرقة معظم أصولها الثابتة بلغ اكثر من الف مصنع (في الخرطوم وحدها) وتقدر خسائرها بما يعادل حوالي 15 مليار دولار. التدهور الذى لحق بالقطاع الزراعي وعلى وجه الخصوص مشروع الجزيرة. الأوضاع في مؤسسات الدولة (والاشارة بشكل خاص لوضع المؤسسات التعليمية والخدمات الصحية) والعمل على تدارك الاضرار الكبيرة التي تعرضت لها.
ان القوانين المتعلقة بالاستثمار لا يمكن التقليل من أهميتها، ولكن تحقيق بيئة مشجعة للاستثمار مسألة لا يمكن ان تختصر في تعديل بعض فقرات القانون الحالي؛ ان الحرب تركت السودان بلدا مهدما (demolished country) وان مهمة تحسين بيئته الاستثمارية مسألة يتعلق تحقيقها بإعادة اعمار السودان عبر مشروع اقتصادي، يتبناه توجه سياسيي جديد معارض لسيطرة للجيش على السلطة السياسية ويزيل الدمار الذى خلفته الحرب. فهذه المهمة أكبر من ان تنجزها السلطة العسكرية الحاكمة التي فشلت في إدارة البلاد منذ صعودها للسلطة السياسية في 2019. ********** ينطبق على ما ورد من تفاصيل حول تعديل الوثيقة الدستورية من قبل مجلسي السيادة والوزراء -المجلس التشريعي المؤقت- استعارة "أتى الدجاج الى الحظيرة للمبيت" -the chickens come home to roost- وهذا يعنى انه وفق التعديل ترمى قيادة الجيش العودة لرسم مرحلة جديدة من هيمنه الجيش على السلطة السياسية.
ان نقد الوثيقة الدستورية المعدلة تتعظم فعاليته في مجرى النشاط السياسي طالما ادركنا ان المراد من الوثيقة تقنين حالة سياسية قائمة لا أكثر. فالدستور، هو القانون الأعلى الذى يحدد تعريف طبيعة الدولة وتنظيم سلطتها وحقوق مواطنيها. وهكذا، فان الدستور يمثل القانون الأعلى للدولة الذى يوضع لاحقا (ex-post)، للتعبير عن حقائق واقعية تتعلق بالحالة الاجتماعية والسياسية والاقتصادية القائمة، بالشكل الذى يحدد علاقة القوى الاجتماعية المختلفة بالدولة. فالدستور ليس برنامجا سياسيا لحزب ما يتضمن خططا ومشروعات مستقبلية بالإضافة لمستحقات لم تستوف بعد.
وهكذا فان الوثيقة الدستورية المعدلة تهدف لتقنين الوضع القائم الذى يسيطر فيه الجيش سيطرة تامة على السلطة. فمنذ توليه رئاسة مجلس السيادة في 2019 ظل الجنرال البرهان يسيطر على القرار السياسي حتى قام بتعزيز سيطرته في 25 أكتوبر 2021 عبر قيامه بانقلاب عسكري وتجريد حلفائه المدنيين من السلطة.
ان الوثيقة الدستورية المعدلة تمنح مجلس السيادة الحاكم، الذى يراسه البرهان صلاحيات واسعة، فعلى مدار فترة انتقالية يبلغ مداها 39 شهرا كاملة يتمتع المجلس بصفة السلطة التشريعية "الانتقالية" بالاشتراك مع مجلس الوزراء الذى من صلاحيات مجلس السيادة تعيينه وإقالة رئيسه بناءً على توصية من السلطة التشريعية الانتقالية! كما يتمتع المجلس بصلاحية تعيين وإقالة حكام الأقاليم وولاة الولايات ووضع السياسة الخارجية. كذلك، تمنح الوثيقة المعدلة صلاحية إصدار مرسوم مؤقت يتمتع بقوة القانون الساري.
الذى نود قوله ان أي ”وثيقة دستورية“ توضع في الحالة الراهنة التي يمر بها السودان سوف لا تعدو كونها قصاصة ورق مضمونها ليس اكثر من تعبير عن الوضع الحالي المتسم بسيطرة الجيش على الدولة؛ تلك السيطرة التي بلغت أوجها بانفراد الجنرال البرهان، منذ توليه السلطة، بالقرار السياسي.
وهكذا، فلا تثريب على نقد الوثيقة الدستورية المعدلة فيما يتعلق بمنطقية مكوناتها وكفاءة صياغتها القانونية الخ؛ لكن يجب ادراك ان تعديلات الوثيقة أو وضع أي أحكام دستورية أخرى في الوضع الراهن من شانها، بالضرورة، تعزيز النفوذ السياسي للعسكر وتوسيع سلطاتهم ما يعنى مواصلة السير على طريق قفل الطريق امام أي مشاركة ديمقراطية للشعب في اتخاذ القرار السياسي الشيء الذى يؤدى لمزيد من إعاقة تطور البلاد اقتصاديا وسياسيا واجتماعيا بالمحافظة الحثيثة على الوضع الراهن.
وختاما، هناك حقيقتان يجب تذكرهما، حقيقة تؤكد أن الدساتير في الدول النامية لم تكن أكثر من قصاصات من الورق، تتضمن مفاهيم حقوق الانسان والديمقراطية والعدالة والمساواة الخ، استجابة لذيوع هذه المفاهيم وسط شعوب العالم وتماهيا مع ما تتطلبه المواثيق الدولية ( الإعلان العالمي لحقوق الانسان للأمم المتحدة والميثاق الأفريقي لحقوق الإنسان والشعوب لمنظمة الاتحاد لأفريقي الخ)، مفاهيم يجرى الالتفاف عليها بتفريغها من أي مضمون.
والحقيقة الأخرى، هي أن مهمة الجيش تنحصر في أنه قوة قتالية تحمى أراضي الوطن ومقدراته. لكن تكمن الخطورة عند تملك الجيش للسلطة السياسية؛ فبالضرورة نتيجة لطبيعة عمل الجيش المبنية على التراتبية، تتحول سلطته لسلطة أوتوقراطية، وهذا هو الباعث الأساس للطبقات الرجعية لفرض حكم الجيش لضمان سيادتها السياسية واحكام سيطرتها على الشعوب. وهكذا، فان إدارة الدول (النامية خصوصا) تحفها تعقيدات جمة لا يمكن مواجهتها بالعقلية والأساليب الإدارية العسكرية، وحتى الحرب كما يقول كليمنصو ”أخطر من أن يترك قرارها لجنرالات الجيش“.
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة