لم يكن السودان الذي يعيش أخطر أزمة وجودية في تاريخه تكاد تعصف به تماما وتجعله من التاريخ، سعيدا ببيان القمة العربية الأخيرة التي التأمت الأسبوع الماضي في البحرين. وكان ينظر لها باعتبارها أول قمة تصادف هذا المنعطف الذي يمر به فتصاعدت آماله فيها حتى لامست عنان سمائه المكفهرة. وتضمنت الفقرة الخاصة بالسودان في بيان القمة كامل التضامن مع السودان، في الحفاظ على سيادته واستقلاله ووحدة أراضيه والحفاظ على مؤسسات الدولة السودانية وفي طليعتها القوات المسلحة (الجيش القومي)، لكن البيان حث في ذات الحكومة السودانية ومليشيا (قوات الدعم السريع) المتمردة على الجيش، على ما أسماه بالانخراط الجاد والفعال مع مبادرات تسوية الأزمة ومن بينها منبر جدة ودول الجوار وغيرها، من أجل إنهاء الصراع الدائر واستعادة الأمن والاستقرار في السودان وإنهاء محنة الشعب السوداني الشقيق. ولأن بيانات الجامعة العربية وقراراتها لا تنحاز إلى الصواب طالما هناك عضو واحد فقط له اعتراض ما لشيء في نفس يعقوب، فإنها تخرج مشوهة لاستيعاب ذلك الاعتراض ارضاءً لمن يخالف الصواب وحتى الأغلبية؛ فإن البيان في هذه الفقرة تجاوز وتغاضى عن قرار طليعة مؤسسات الدولة السودانية وهي القوات المسلحة كما أقر بذلك البيان نفسه، وهو حل (قوات الدعم السريع) التي تحولت إلى مليشيا إرهابية ترتكب جرائم إبادة جماعية وجرائم ضد الإنسانية وهذا ليس توصيف الحكومة السودانية فحسب وانما جاءت هذه الحقائق المؤلمة الذي استدعت هذا التوصيف في تقارير للأمم المتحدة وتقارير صحفية لمؤسسات إعلامية دولية معتبرة وذات مصداقية عالية. لكن بيان الجامعة دعا اعتسافا الجيش السوداني لإجراء (تسوية) مع المليشيا لحل الصراع، وهذا يعني تجاوز الجرائم والقفز إلى مقاربة سياسية تعطي المليشيا مشروعية أخلاقية مفقودة قبل أن تعطيها مشروعية سياسية تعيد بها انتاج الأزمة مستقبلا. وكان من المأمول إدانة تمردها على القوات المسلحة ثم ارتكابها جرائمها الارهابية ليس ضد القوات المسلحة فحسب وإنما ضد المواطن الأعزل الذي طرده من بيته واغتصبت عرضه ونهبت أمواله. ولو وضعت أي دولة في العالم نفسها في موضع الدولة السودانية لما وافقت على مثل هذه المقاربة الظالمة. وكان وزير الخارجية السوداني الذي مثل بلاده في القمة قد قال في كلمة السودان في القمة إن الدخول في تفاوض مع المليشيا دون تنفيذ ما اتفق عليه قبل أكثر من عام في جدة ومواصلة انتهاك القانون الإنساني الدولي يعد حرثا في البحر. كما لم يشر بيان القمة إلى أي معالجات مقترحة للتخفيف من آثار الحرب الإنسانية أو أي محاولة لتقديم أي نوع من العون للسودانيين الذين لجأوا للدول الأخرى لا سيما العربية منها ويعانون من أوضاع إنسانية صعبة. وذلك فإن لسان حال الرأي العام السوداني يقول حسنا فعل السودان بعدم مشاركته على مستوى قيادته العليا واستثمر رئيس مجلس السيادة وقته في المتابعة الميدانية لسير المعارك ضدّ المليشيا المجرمة. إن هناك إحساسا مرّا لدى السودانيين بأن بعضا من الدول العربية تنظر للأزمة في السودان بأنها مجرد مشكلة أفريقية أو شبه عربية أو أنه صراع غير إستراتيجي ولا يتعلق بأمن المنطقة العربية فلا يقتضي التعامل معه كذلك. ويبدو أن الجامعة العربية تنخرط بوعي أو بغير وعي في المخطط الدولي الغربي الإستراتيجي الهادف إلى تجزئة وتفتيت الدول العربية ذات الوزن الجيوسياسي الغنية بالثروات الطبيعية والبشرية ليبقى دورها تلطيف المخطط والتمهيد له وتمرير وشراء الوقت اللازم لانجازه عبر الانهاك العام ومن خلال الجيل الرابع من الحروب غير المتماثلة الذي يتمظهر في خلق حروب داخل الدول المستهدفة عبر مليشيات جهوية وعنصرية تؤدي لإعلان انفصال أقاليم تابعة لها فتحقق تلك الدول الاستعمارية بذلك هيمنتها وإرادتها من غير أن تبعث بجندي واحد إلى أرض المعركة وإراقة دمه وتراق عوضا عن ذلك دماء أبناء الدولة المستهدفة.
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة