حديث الأربعاء مع يوسف كوَّة مكِّي (4 من 4) كتبه الدكتور عمر مصطفى شركيان

مرحبا Guest
اخر زيارك لك: 05-18-2024, 06:18 PM الصفحة الرئيسية

منتديات سودانيزاونلاين    مكتبة الفساد    ابحث    اخبار و بيانات    مواضيع توثيقية    منبر الشعبية    اراء حرة و مقالات    مدخل أرشيف اراء حرة و مقالات   
News and Press Releases    اتصل بنا    Articles and Views    English Forum    ناس الزقازيق   
اراء حرة و مقالات
نسخة قابلة للطباعة من الموضوع   ارسل الموضوع لصديق   اقرا المشاركات فى شكل سلسلة « | »
اقرا احدث مداخلة فى هذا الموضوع »
04-14-2024, 01:19 AM

عمر مصطفى شركيان
<aعمر مصطفى شركيان
تاريخ التسجيل: 11-01-2013
مجموع المشاركات: 144

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
حديث الأربعاء مع يوسف كوَّة مكِّي (4 من 4) كتبه الدكتور عمر مصطفى شركيان

    01:19 AM April, 13 2024

    سودانيز اون لاين
    عمر مصطفى شركيان-UK
    مكتبتى
    رابط مختصر






    [email protected]

    أيُّها الجاموس المسجي، تعال إلينا مع تباشير الخريف
    فالغابة والنَّهر وعجول القبيلة كلهم جميعاً بانتظارك في موسم البذر
    نداءات الفرح معطَّلة ومهجورة حتَّى تعود
    يخيف خوارك الثيران المخنَّثة وأبقار الزِّينة
    وغداً يذهب الغرباء
    ويبقى نسيم الوادي يُغسل أحزان القبيلة

    نشيد القبيلة المقدَّس الذي ردَّده مقاتلو أقار بعد مصرع زعيمهم مايين ماثيانق في 21 تموز (يوليو) 1902م في منطقة رمبيك


    التجمُّع الوطني الديمقراطي

    حينما ظهر السيِّد الصَّادق المهدي في دولة أريتريا استقبله التجمُّع الوطني الديمقراطي أيما استقبال، وبرغم من هذا كله كان هناك من آيات الاستفهام كثر؟ لِمَ خرج السيِّد الصَّادق المهدي الآن من السُّودان؟ وكيف استطاع أن يخرج ويفلت من عيون النِّظام؟ وبعدئذٍ أذَّن الإمام الصَّادق في الأنصار بالهجرة، وأخفق فيما سعى من الإيذان أيما إخفاق. كان الصَّادق يمني نفسه أن يحشد لنفسه وحزبه جنوداً من الإنس لا قبل للتجمُّع له به بعد، وخاب مسعاه؛ وبعد ذلك بدأ ينظر نظرة نقديَّة إلى كل شيء ويشن هجوماً عنيفاً على التجمُّع الوطني الديمقراطي باعتبار أنَّ الحركة الشعبيَّة والجيش الشعبي لتحرير السُّودان هي القوَّة الوحيدة الضاربة فيه، فكانت كراهيته للتجمُّع إذن كراهيَّة الغيرة والحسد لا كراهيَّة موضوعيَّة؛ كذلك كانت هناك صراعات حزبيَّة بينه وبين الحزب الاتحادي الديمقراطي. هكذا لم يكن الصَّادق مسروراً بدوام الحال والمآل في التجمُّع الوطني الديمقراطي، وقد عرفنا أنَّ الصَّادق المهدي قد يرجع إلى الخرطوم في أي وقت، وكان ما كان متوقَّعاً. زعم الصَّادق إنَّ عودته إلى الخرطوم لهي ضروريَّة لإيقاف اتفاق الحكومة السُّودانيَّة مع الحركة الشعبيَّة، أو وقف تبني الحركة لمبادرة السيِّد أبيل ألير، وذكر يوسف أنَّ لا الحكومة ولا الحركة قد اتفقت مع أبيل ألير، وإنَّ الحرب سوف تتوقف إذا منحت الحكومة مطلب الكونفيدراليَّة للحركة الشعبيَّة. إذاً، لِمَ يريد الصَّادق أن يوقف اتفاقاً قد يفضي إلى سلام ويحول دون الاقتتال بين أبناء الوطن الواحد؟ إنَّ السَّلام الذي لا يكون فيه الصَّادق شريكاً لا يعتبر سلاماً في نظره، بل استسلام من جانب وإملاء شروط من الجانب الآخر، وتنفيذ أهداف القوى الدوليَّة من جانب ثالث؛ أو ما بات الصَّادق يملأ به السماوات والأرض عجيجاً من عبارات "تدويل المشكل السُّوداني".
    وبعد انتهاء حديث القائد الضيف يوسف كوَّة، بدأ الحاضرون في إبداء التعليقات وإطراح بعض التساؤلات؛ فقد جاء التعليق الأول عن تاريخ السُّودان بصورته الحاليَّة، ورؤية أبناء النُّوبة في سلوك قادة السُّودان القديم، ومستقبل السُّودان الجديد بما فيه من الاعتراف بالتعدُّديَّة، والعلاقة السياسيَّة بين النُّوبة وأهل الجنوب وجنوب النيل الأزرق، ودور التجمُّع الوطني الديمقراطي كبوتقة واحدة تستطيع أن تجمع النَّاس على برنامج حد أدني لمعارضة النظام يومذاك. ثمَّ تطرَّق المعلق على أخطاء الدّيمقراطيَّة السابقة، وختم الرفيق حديثه بالتساؤل ألا وهو: هل تتفق معي أنَّ التاريخ يعيد نفسه؟ فردَّ يوسف أن أهدافهم في الحركة الشعبيَّة أن يكون السُّودان موحَّداً، سودان متَّحد في هيئة لامركزيَّة. وحينما يأتي السيِّد الصَّادق المهدي ويقول "حق تقرير المصير للجنوب فقط" غير جبال النُّوبة ومناطق الأنقسنا، فكان ردَّنا له ولغيره: إنَّنا لنمارس "حقنا في تقرير المصير" الآن في جبال النُّوبة؛ إذ لدينا برلماننا ولغاتنا المختلفة واللُّغة العربيَّة والإنجليزيَّة، وإنَّنا لنناضل من أجل تحرير المضطهدين من الاضطهاد والمضطَّهِدين من أفكار الاضطهاد، ولنا أكبر الظن أنَّ الإنسان بمقدوره أن يتغيَّر سواء بالاحتراب أم بالحوار، وما حوارنا مع أعدائنا بالأمس إلا قناعة منا بهذا المبدأ، حيث إنَّنا لم نيأس، ولم نبتئس منهم بعد.
    فقد ساهم تحالف الحركة الشعبيَّة والجيش الشعبي لتحرير السُّودان مع أحزاب التجمُّع الوطني الديمقراطي في النضال السياسي والعسكري سويَّاً ضد النظام "الإنقاذي". وكانت الحركة الشعبيَّة ترى في فلسفتها دائماً أنَّها إن فشلت في احتواء المعارضة الشماليَّة وإضافتها إلى رصيدها النضالي فسوف تفلح حكومة "الإنقاذ" في ذلك وتجرُّها إلى جانبها، وتمسي الحركة من الأخسرين سبيلاً. فقد ظهر ثمار هذا التحاف حين حرَّرت قوات الجيش الشعبي لتحرير السُّودان مدينتي الكرمك وقيسان في جنوب النيل الأزرق العام 1997م، وعندما هبَّ النظام "الخرطومي" لتأليب العالم العربي والإسلامي ضد قوات التجمُّع الوطني الديمقراطي بقيادة الجيش الشعبي لتحرير السُّودان، أفلح الحزب الاتحادي الديمقراطي في تسكين وتسكيت أصوات العرب والمسلمين، قائلاً لهم إنَّنا شركاء في هذه العمليات؛ وقال قائلهم: أفلم نكن عرباً مسلمين! إذ كان الموقف مختلفاً تماماً العام 1987م، حين دخل الجيش الشعبي لتحرير السُّودان هاتين المدينتين، وعندئذٍ طار السيِّد محمد عثمان الميرغني – راعي الحزب الاتحادي الديمقراطي والشريك في حكومة السيِّد الصَّادق المهدي الائتلافية – إلى الرئيس العراقي صدام حسين، وجاء بالمقاتلات العراقيَّة تقذف المدينتين قذفاً مروِّعاً وتستعيدهما لحكومة الصَّادق المهدي.
    ثم انتقل يوسف ليحدِّثنا عن بعض تجاربه في الحركة الشعبيَّة والجيش الشعبي لتحرير السُّودان. فقال: إنَّ له من التجارب الشخصيَّة في الحركة الشعبيَّة منذ العام 1984م كثير، لكن إنَّ أكثر مرحلة درس فيها أهل الجنوب دراسة مستفيضة هي تلك الفترة التي كان فيها رئيساً للجنة التحضير لمؤتمر الحركة الشعبيَّة والجيش الشعبي لتحرير السُّودان الأول العام 1994م، وذكر يوسف أنَّ اللخبطة (المشكل) تأتي دائماً مما يُسمُّون بالوزراء السابقين (Ex-ministers)، وكذلك حملة إجازة الدكتوراه (PhD-holders)، هذا هو المشكل في الجنوب والشمال وجبال النُّوبة وأي مكان آخر في السُّودان، لأنَّ أغلبيتهم ينظرون إلى أنفسهم، ويبحثون عن الفائدة الشخصيَّة التي يجنيها في الاتجاه الذي يختاره. وقد جاء مأخذ يوسف على السُّودانيين العلماء على سبيل التعميم، ولكنه قطعاً كان به قاصداً وجه التخصيص، وهنا نشير إلى الدكتور لام أكول والدكتور رياك مشار والدكتور حسن عبد الله الترابي. فمثلاً تجد من يدَّعي أنَّه يريد فصل الجنوب عن الشمال – الدكتور رياك مشار مثالاً – وإذا به يذهب ويرتمي بنفسه في أحضان الحكومة في الخرطوم.
    ويقول يوسف في لهجة غلبت عليها الأناة والحلم: إنَّه – بأمانة – وجد أنَّ السَّلاطين في الجنوب – أي أهل الريف (Grassroots) – هم أفضل النَّاس دراية بأحوال النَّاس؛ برغم من أنَّهم لم ينالوا من التعليم شيئاً، لكن منحتهم التَّجارب الحياتيَّة حكمة عالية، فحين يقف أحدهم ويتحدَّث بلغة قبيلته (His mother-tongue language)، وعندما تتم ترجمة حديثه تجد الحكمة ولا شيء غير الحكمة؛ وكذلك القطاعات النسويَّة؛ فدعني أحّدِثكم عن تجربة (Let me tell you about an experience). وإنَّا لفي مقر عملي كرئيس للجنة التحضير لمؤتمر الحركة الشعبيَّة في شُقدوم، فإذا يقدم قادم قائلاً إنَّ اتحاد نساء بحر الغزال ليبغين مقابلتك، عجبي! فتحادثت مع نفسي في نفسي، وقلت يا تُرى ماذا يريدن قوله؟ فسمحت لهم بالمقابلة، وتمَّ تحديد الميعاد ليوم معلوم. وجاءت نسوة بحر الغزال وجلسن صفاً واحداً، وقلن: إنهن لا يستطعن من الحديث باللُّغة العربيَّة شيئاً، ولا يتحدَّثن الإنجليزيَّة كذلك؛ فقلنا لهن: لا مانع، فعندنا من يسمع حديثهن، ونحن هنا لكي نسمع قول الجميع وبأيَّة لغة طالما كان هناك ترجمان ليخبرنا ما خطبهم. وعندما شرعن في الحديث وتحدَّثن وسمعنا وفهمنا قولهن بكيت بكاءً حاراً، وسالت دموعي من عينيَّ سيلاً مدراراً؛ لأنَّنا شعرنا – في بادئ الأمر ونهاية المطاف – أنَّ الكلام نابع من الأعماق، وكان حديثاً مؤسفاً ومؤلماً جداً سواءً من الناحيَّة الوطنيَّة أم السياسيَّة، وكان حديثهن كل الحديث عبارة عن تساؤلات. فقلن: إنكم قلتم إنَّ هناك ثمة مشكل في السُّودان، وخرجتم للنضال ونحن سرنا من خلفكم نشدُّ من أزركم، والآن بدأتم تتراجعون والعيال (الأبناء) كلهم أقفلوا راجعين أبتعين! لِمَ وفيم؟ إذ لم تخطرونا عن الجديد الذي طرأ عليكم! وعمَّ تتشاجرون وتتناحرون فيما بينكم؟ هل تحقَّقت جميع أهداف النضال؟ وهل الشيء الذي من أجله بدأتم النِّضال قد تحصَّلتم عليه، وبعدئذٍ بدأ الشجار بينكم؟
    كانت أسئلة صعبة جداً ولا يمكنكم التصوُّر أن الشخص الأمي، "الذي لا يعرف الواو الضكر"، قد يطرح مثل هذه الأسئلة. ومضت نسوة بحر الغزال مضيفة: إنَّهن هن اللائي يشقين كثيراً من أهوال هذه الحرب الضروس، وليس الرجال؛ لأنَّ الميت إما زوجك، وقد ترك لك الأبناء وأنت أيم (أرملة)، أو أخوك وقد ترك لك أسرته، أو ولدك وقد تركك ثكلى، أو أبوك وقد تركك يتيمة فقيدة أب، فتكون أنت المسؤولة عن جميع هذه الأعباء. وشرعت النسوة يقلن: إنَّهن لم يتعبن من الحرب، فما الذي يتعبكم أيُّها الرجال؟ وإذ قالت إحداهن: لي من الأولاد أربعة، لكنني مستعدة أن أدفع بواحد منهم إليكم لبيعه وتقبضوا ثمنه سلاحاً لتحرير الجنوب! فانظروا حدود الوطنيَّة! إذ أنَّ الحيوانات – الطيور على سبيل المثال – تذود وتستميت دفاعاً عن أفراخها ضد من يفجعها ويروِّعها، فكيف بهذه المرأة التي تودُّ التبرُّع بابنها للبيع في مزاد علني في سبيل تحرير الجنوب!
    على أيَّة حال، كلَّما يبغيه الإنسان العادي في الجنوب هو العيش في أمان، بحيث تجد أبقاره الماء والكلأ بما فيهما الكفاية، ويستطيع هو أن يأكل ويشرب في يسر، ويذهب إلى الأسواق لقضاء حوائجه في يسر أيضاً، وليس له من التطلعات كثير؛ فالتطلُّعات عند الأفنديَّة (الصفوة)؛ فكل ما أود قوله (So what I need to say is that the majority of grassroots want to live in peace and prosperity) هو أنَّ غالبيَّة أهل الرِّيف يريدون العيش في أمن وأمان، وليس لهم من الفهم كبير في ألفاظ مثل اللامركزيَّة، والفيديراليَّة، والكونفيديراليَّة، والانفصال، والوحدة الوطنيَّة وهلمجرَّاً؛ وإنَّما هم قوم يعيشون على فطرتهم، ويرسلون نفوسهم على سجاياها. إذ أنَّ المشكل السُّوداني يقبع في القيادة، فإذا وجدنا قيادة راشدة تقودنا إلى الوحدة الوطنيَّة الصادقة، فسوف نمضي معها، أو اللامركزيَّة وغيرها فسوف نسعى معها، وبشرط أن نجد الأمن والأمان في أنفسنا وأعراضنا وممتلكاتنا، ثمَّ بعد ذلك تأتي بعض الأشياء التي تفرز الآثار الجانبيَّة، وهي القبليَّة؛ فالقيادة الواعية يمكنها أن تعالج هذا المشكل. فمنذ العام 1972م قامت الحكومات المختلفة المتعاقبة في الخرطوم على تغذية الروح القبليَّة، وتأجيج النعرات العنصريَّة، وهنا أشير إلى المبادئ الخمسة التي أشار إليها السيِّد الصَّادق المهدي في كيفيَّة تعريب وأسلمة الجنوب، فما زلنا نجني رواسبها وإفرازاتها حتى الآن.
    أمَّا فيما يختص ﺒ"حق تقرير المصير"، فردَّ يوسف على السائل: أنَّه ليس هناك مشكل سياسي عند القاعدة، بل يكمن المشكل في القيادة فيما نسمِّيه النزاع حول السلطة (Power struggle) سواء علينا في الجنوب أم في الشمال. ثمَّ أدلف يوسف يحدِّثنا عن التهميش الاجتماعي والاقتصادي حول مدينة أم درمان، وحال الذين يعيشون في الضواحي وأطراف المدائن، وكيف يمسَّهم الضر وهم في عقر دار السلطة. أما فيما يختص بحقوق المرأة في الحركة الشعبيَّة والجيش الشعبي لتحرير السُّودان، فأكَّد يوسف أنَّ للمرأة حق معلوم مثلما للرجل، وهي نفس الثقافة السائدة في مجتمعاتنا في جبال النُّوبة، ونحن كنا مجتمعاً أخواليَّاً (متعلِّق بناحية الأم أو مبني عليها أو مرجع النسب من خلالها) – أي كما تقول الفرنجة (Matrilineal society)، وذلك قبل دخول العرب إلى السُّودان؛ فالخال هو الذي يزوج لك، وأنت ترثه بعد مماته، لذلك للمرأة مكانتها في الحركة الشعبيَّة. وكما أخبرتكم عن موقف المرأة في الجنوب فيما مضى من سالف الذكر، فتعالوا نريكم من آيات دورها في الجبال كذلك. ففي العام 1992م – أي بعد انشقاق الدكتور رياك مشار والدكتور لام أكول عن الحركة الشعبيَّة – حاول بعض أبناء النُّوبة أن يحذوا حذوهم. فبعد أن اعتقلناهم وأبعدناهم عن المنطقة، رأينا أن نعقد مؤتمراً تشاوريَّاً في جبال النُّوبة لاستيضاح النَّاس حول آرائهم في استمرار الحرب أو إيقافها، لأنَّه لا جدوى من مواصلة النضال إذا وقف النَّاس ضد ذلك.
    جاءت الوفود من جميع مناطق جبال النُّوبة يسعون (حوالي 300 ممثِّلاً)؛ وفي مفتتح المؤتمر شرحت للحاضرين ما نلنا بعد النضال، إذ أصبحنا فخورين أن نكون نوبة، فلم يُوجَد مثل هذا الاعتزاز والفخر من قبل، وبعد أن رفعنا السِّلاح أصبحنا مثل أهل الجنوب العام 1955م – أي أمسى لدينا من الاعتراف شيء، وصاروا يمنحوننا بعض الوزارات مثل وزارة الثروة الحيوانيَّة، وكذلك "وزارة الحلَّة والملاح" (في إشارة إلى وزارة السياحة والفنادق)، وتناقشنا ما وسعنا النقاش، وتجادلنا ما وسعنا الجدال، وذلك لمدة أربعة أيَّام حسوماً. وكان النقاش حرَّاً دون أيَّة قيود أو حدود، فكان هناك بعض الأصوات التي نادت بالاستسلام؛ إذ أنَّ صوت المرأة كان العنصر الذي رجَّح كفة الميزان لصالح النضال. فقد ذكر الرجال أنَّهم أصبحوا عُراة بسبب الحرب، وانتشرت الأوبئة بسبب الحرب؛ فردَّت النساء: متى تعلِّمنا اللِّباس نحن النوبَّة إلا حديثاً! فما الجديد في ذلك إن كنا عُراة؟ أما عن المرض، فقلن: إنَّ في سريرك قد يدركك الموت؛ إذ طالما لدينا أهدافنا فعلينا مواصلة النضال لتحقيقها ونيل مراميها، أو الموت دونها؛ وأضفن: إذا تعبتم وتقاعستم عن النضال أيُّها الرجال، فنحن على استعداد تام لأخذ السِّلاح ومواصلة النضال، وهنا ضرب الرجال صدورهم، وعادوا إلى رشدهم، وصوتت الغالبيَّة العظمى لمواصلة النضال، وهكذا قرَّرنا مواصلة النضال بأغلبيَّة ساحقة. وكذلك من آيات حق المرأة في جبال النُّوبة هي أن أغلبيَّة تعداد التلامذة والطلبة في المدارس من البنات.
    ثمَّ جاء السؤال عن أهمية الانتفاضة المحمية، وركَّز يوسف في الحديث أنَّ على التجمُّع الوطني الديمقراطي أن يشارك في النضال المسلَّح مثلما تفعل الحركة الشعبيَّة والجيش الشعبي لتحرير السُّودان، وأن يساهم في النضال الإعلامي، وبخاصة أنَّنا في الحركة الشعبيَّة فقدنا الإذاعة، وخسرنا 50% من جهودنا الإعلاميَّة لأنَّها كانت تعطينا مصداقيَّة، وحاولنا بيع أخشاب منطقة شرق الاستوائيَّة بعد تحريرها لنقبضوا ثمنها إذاعة، لكن الجهة التي عزمت على الشراء، وهي جنوب-شرق آسيا كسدت اقتصاديَّاً، والحركة تعاني من مشكلات المال والإعلام. أمَّا إخواننا في الشمال فهم لا يريدون الانخراط في الحركة الشعبيَّة لأسباب تاريخيَّة واجتماعيَّة وثقافيَّة، وكذلك العقليَّة الشماليَّة، التي ترغب دائماً أن تتصدَّر الأشياء، وتعارض كل ما جاء بها أهل الجنوب أو الغرب. ومهما قلنا لهم إنِّنا في الحركة لدعاة الوحدة الوطنيَّة نجدهم يقولون: بل إنَّ لكم من الأجندة السريَّة كثير؛ لذلك جاءت فكرة لواء السُّودان الجديد، وهو ملئ بالمجنَّدين. إذ أنَّ الشماليين الموجودين في لواء السُّودان الجديد أكثر من الشماليين المنضوين تحت لواء الأحزاب السياسيَّة الشماليَّة في جبهات القتال، حتى قوَّات التحالف السُّودانيَّة فأغلبهم جنوبيين ونوبة.

    خلاصة

    وفي مختتم الندوة يمكننا تلخيص أهم ما جاء في محاضرة القائد الضَّيف يوسف كوَّة مكِّي في عدَّة نقاط، وهي: أزمة الحكم في السُّودان، ومشكل الهُويَّة السُّودانيَّة، ومسألة الدِّين والسياسة، والتنمية غير المتوازية، وتهميش الأقاليم في الخدمات الاجتماعيَّة والصحيَّة والتَّعليميَّة، والتذويب الثقافي القسري في ثقافة أحاديَّة (عربيَّة-إسلاميَّة)، وعدم الاعتراف بالقوميات الوطنيَّة الأخرى، وفقدان تكافؤ الفرص، وغياب الديمقراطيَّة والتعددُّيَّة الحزبيَّة. ولكي تسود الديمقراطيَّة الحقيقيَّة ينبغي الاعتراف بالتعدُّديَّة الثقافيَّة والدينيَّة والإثنيَّة، والارتقاء بالقطاعات الفقيرة، وتحسين ملامح المجتمع السُّوداني، حتى لا يشعر أولئك المساكين وهؤلاء الكادحون بأنَّهم غرباء في وطنهم، ولكي نبدِّل خوفهم أمناً. وليس إلى الإصلاح الاجتماعي من سبيل إلا إذا وُجِدت الأداة السياسيَّة الصالحة التي تستطيع أن تنهض بعبئه وتنقذه من مشكلاته؛ فهل ترى أنَّ السُّودان قد ملك أداة سياسيَّة صالحة تمكِّنها من محاولة هذا الإصلاح؟ هذا سؤال يستطيع أن يجيب عليه أي سوداني. كما ينبغي التركيز على تقييد السلوك البربري عند أهل الحكم، وتشجيع الخصال القويمة والقيم الإنسانيَّة. إذ أنَّ الاستمرار في المفاصلة بين فئات الشعب السُّوداني قد تساعد في تباعد انعدام الثقة بين الشمال السياسي والجنوب الجغرافي، والمركز المسيطر والغرب المغلوب على أمره، والشرق المهمَّش والشمال القصي المهجور الذي تعبث به كثبان الرِّمال وعواصف الصحراء.
    كذلك، ينبغي الاتفاق حول مفهوم جامع ومقبول للمواطنة؛ تلك هي التي تسع جميع القوميات السُّودانيَّة المختلفة، بحيث تفرض مزيداً من المسؤوليات القوميَّة، وتنمِّي مزيداً من القيم الحضاريَّة والإنسانيَّة، وتسمح بحماية الثقافات والإثنيَّات والديانات الأخرى. وما ينبغي للدِّين أن يُكره النَّاس عليه إكراهاً، وأن تفرضه القوَّة القاهرة على النفوس فرضاً، وإنَّما هو ينبوع رحمة وحنان يجب أن تصبو النفوس إليه عن رضاً، وتهوي إليه القلوب عن محبة وشوق. وما أظن أنَّا مُنحنا الدِّين وسيلة إلى الطغيان والجبروت، وطريقاً إلى إساءة المعاملة. كذلك يفكِّر قليل من النَّاس، وإنَّهم لكذلك يعملون! ولكنهم، فيما نعتقد، يخدعون أنفسهم ويضلِّلون عقولهم، ويخفون ما يملأ قلوبهم من الضعف وحب النَّفس الأمارة بالسوء، والعجز عن احتمال تبعات العقل. ولولا أنَّ هؤلاء النَّاس قد اتَّخذوا الدِّين وسيلة من وسائل السيادة، وأداة من أدوات الحكم، وبسط السُّلطان، يكذِبون به على أنفسهم ويكذِّبون به على النَّاس... لولا هذا كله لما أُريقت الدِّماء ولا انتثرت الأشلاء، ولا أُزهقت النفوس، ولا قتل النَّاس بعضهم بعضاً في السُّودان على هذا النحو وبهذا المنوال فيما سُمِّي ب"الجهاد في سبيل الله"! ففي هذه الحروب الدنيويَّة، التي مبعثها السياسة ولا شيء غير السياسة، لا دخل ولا تدجيل للدِّيانة فيها. أفلم تروا كيف أسدى الرئيس الفرنسي الراحل فرنسوا ميتران نصيحة ثمينة لرئيسة وزراء بريطانيا السيِّدة مارجريت تاتشر في نزاعها مع الأرجنتين حول جزر الفوكلاند العام 1982م! إذ نصح ميتران السيِّدة تاتشر ألا تتوسَّل وتتبتَّل إلى الآلهة في صغائر الأمور حينما تقدم على مثل هذا النوع من المغامرة، وها هو ذا يقولها بلغة إنجليزيَّة بحيث تفهمها تاتشر جيِّداً (When you do this kind of job, you don’t invoke the gods every time there is a small hitch).
    اتَّصف حديث مساء الأربعاء مع القائد الضَّيف يوسف كوَّة مكِّي بالكلام الصريح الخالي من التلميح، فلم يؤثر الغموض على الوضوح، ولا الرَّمز والألغاز والإشارة على تسمية الأشياء بأسمائها، ولم تشوبه المراوغة والمداورة، ولم يكن بالطويل الممل ولا القليل المخل. وإنَّه لفي حديثه، إذا العرق ينساب على وجهه انسياباً ليس بقليل، وكان يقول – بصوته الممتلئ الهادئ الرَّزين - ضاحكاً غير آبه: أفلا تنظرون إلى العرق الذي يسيل على جانبي وجهي مدراراً! لا تظنوا إنَّه لناتج عن البرد، بل إنَّه لمرض ذاك هو الذي يأكل أحشائي. كان يوسف يظهر عليه جهد، وتبدو عليه أية ملال وكلال، وبعد هذا كله – أو قل وبرغم من هذا كله – كان هادئاً مطمئناً. وكان يوسف لهذا المرض متحمِّلاً بصبر وجلد وأناة؛ إنَّه والله لرجل من النُّوبة، ليس للجزع على نفسه سلطان، ولا للضعف إلى قلبه سبيل! حقاً، كان فتى من فتيان النُّوبة، فيه عنفهم، وفيه شدَّتهم عند البأس حين يتجلَّى البأس، وفيه عنادهم، وفيه اعتدادهم بأنفسهم دون الكبرياء والخيلاء (Proud, but not arrogant)، وفيه إيثارهم لهذه الخصال التي يؤثرها أصحاب المروءة والرجولة الكاملة، أولئك الذين يأنفون الضَّيم، ويأبون الخسف، ويكرهون أن يؤخذوا بما لا يحبُّون.
    فعندما انخرط المعلِّم آنذاك يوسف كوَّة مكِّي في صفوف الحركة الشعبيَّة والجيش الشعبي لتحرير السُّودان، كان يدرك – الإدراك كله – أنَّ الذي هو عليه مقبل تملؤه الأخطار، ولكنه لا يكره الأخطار ولا يهابها، وإنَّما احتقرها احتقاراً وازدراها ازدراءً؛ أليس أقصاها وأقساها، وأشدَّها ثقلاً، وأمرَّها مذاقاً، هو الموت! فإذا كان لا يحفل بالموت في شيء، فإنَّه خليق ألا يحفل بما هو أيسر منه شأناً وأهون منه أمراً. فإنَّ الرجل الكريم هو الذي يلقي جليل الأمر معترفاً به غير منكر له، ولا جاحد لأخطاره. لذلك رأى النُّوبة من يوسف هذا شيئاً ما هم بالذين يختارون عليه أحداً أبداً. لم يفتر يوسف من النضال مهما بلغه من دواعي الفتور كثير، ومثله كمثل الدكتور جون قرنق حين سُئِل ذات مرة: ألم يصيبك الإعياء من الحرب؟ فردَّ على سؤال السائل: كلا، بل سئمت من الظلم والضَّيم، وكذلك قالت روزا باركس – الأفروأمريكيَّة التي رفضت أن تخلي مقعدها الأمامي في إحدى النَّاقلات العامة لرجل وإنَّه لأبيض، حسب قوانين التمييز العنصري في مونتيقوميري بولاية ألاباما الأمريكيَّة وقتئذٍ في الفاتح من كانون الأول (ديسمبر) 1955م – إذ قالت إنَّها سئمت من الاضطهاد، لذلك تحدَّت البيضان من الرجال، ورفضت أن تخلي سبيل مقعدها لهؤلاء القوم الثقال. ثمَّ كان يوسف يعتبر بما كان لآبائهم من مجد مؤثل، ويقدِّر ما أصابهم من محن مظلمة وفتن مدلهَّمة، وذلك إباءً للضَّيم وبغضاً لسوء القالة، وعرفوا كيف يثبتون لها ويصبرون عليها، ويخرجون منها كراماً عظاماً. هذا هو يوسف وإنَّه لهو ذاك، وهذه هي حال النُّوبة، وقد امتحنوا في أديانهم وثقافتهم بأعظم الشر وأشنع النكر، فصبروا على المحنة، وثبتوا للخطب، واصطلوا النار التي بها حرَّقهم الأغيار تحريقاً مؤلماً. وقد عرف النَّاس في تاريخهم كله أن لن يُخدَمَ رأي ولا دين بمثل اضطهاد أصحابه وفتنتهم والإغراء بهم؛ دونكم قصَّة أصحاب الأخدود!
    رحم الله يوسف وطيَّب الله ثراه! فهو لم يعش ليرى بشائر السَّلام، ولم تدعه المنيَّة ليدرك جليَّة الأمر، فإنَّ لكل شيء إبَّانه، وإن كان عصيَّاً على المرء تقبُّله؛ والرجل الحازم العازم الحكيم خليق أن يرضى بالقضاء المكتوب، والقدر المحتوم، يحتمل الخير غير زاهد فيه، ويحتمل الشَّر غير ساخط عليه. وحين عاد كاتب هذه السُّطور من مؤتمر كاودا الأول العام 2002م سألني أحد الرِّفاق الصحاب وهو يحاورني: تُرى ما الذي فقده المؤتمرون في مؤتمرهم التشاوري ذاك؟ فقلتُ له: لست أدري يا صاحبي؛ فأردف محدثي مجيباً: لقد افتقد هذا الجمع الكريم القائد يوسف كوَّة مكِّي، وافتقده الجمع الكريم كذلك في مؤتمر كاودا الثاني في نيسان (أبريل) 2005م. رحم الله يوسف! فما ينبغي أن يثير ذكره إلا ذكرىً ووفاءً، وما ينبغي أن يثير ذكره إلا المودَّة والرَّحمة والنُّصح للنُّوبة خاصة والسُّودانيين عامة. اللهم إنَّه قد حمى شرف النُّوبة في هذه الحياة الدنيا، وفي تلك الأيام التي كانت تُرخص فيها الحياة والنفوس والدماء والأموال والأهل، ويغلو فيها الشرف والفخر والعزَّة والكرامة؛ اللهم فأحمِ جسده الطاهر وروحة العطرة في آخر هذه الدنيا. وما يدريك لعلَّه لو اُستشِير لأشار علينا بعد موته هذا بالتضحية في سبيل الأوطان!

    في مختتم الكلام استودعكم الله، الذي لا تضيع ودائعه، حتى لقاءٍ آخر مع المعلِّم القائد الشهيد يوسف كوَّة مكِّي























                  


[رد على الموضوع] صفحة 1 „‰ 1:   <<  1  >>




احدث عناوين سودانيز اون لاين الان
اراء حرة و مقالات
Latest Posts in English Forum
Articles and Views
اخر المواضيع فى المنبر العام
News and Press Releases
اخبار و بيانات



فيس بوك تويتر انستقرام يوتيوب بنتيريست
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة
About Us
Contact Us
About Sudanese Online
اخبار و بيانات
اراء حرة و مقالات
صور سودانيزاونلاين
فيديوهات سودانيزاونلاين
ويكيبيديا سودانيز اون لاين
منتديات سودانيزاونلاين
News and Press Releases
Articles and Views
SudaneseOnline Images
Sudanese Online Videos
Sudanese Online Wikipedia
Sudanese Online Forums
If you're looking to submit News,Video,a Press Release or or Article please feel free to send it to [email protected]

© 2014 SudaneseOnline.com

Software Version 1.3.0 © 2N-com.de