ما الجريمة التي ارتكبها المستعمر البريطاني؟ إنها في الواقع جريمتان: الأولى: أنه خلق دولة من شتات الشعوب. الثانية: أنه اختص مجموعة من أولاد الفلاحين البدائيين فقام بتعليمهم في المدارس دون أن يمروا بمراحل التطور الطبيعية للأفراد، من البدائية للوسيطة ثم إلى انتلجنسيا البرحوازية. هكذا تحول أبناء الفلاحين فجأة إلى أفندية، فهذه النقلة المفاجئة أدت إلى ثلاث نتائج سلبية: النتيجة الأولى: هي أنهم أعتقدوا بأنهم متفوقين على بقية أهلهم البدائيين، وهذا ما أفضى بدوره إلى تفاقم النرجسية عندهم. النتيجة الثانية: هي أنهم انتقلوا بثقافة الفقر، ذلك أن عدم مرورهم بالتطور المتدرج أفقدهم اكتساب الثقافة البرجوازية الأصيلة. النتيجة الثالثة: أفضت النتيجتان السابقتان إلى تعميق الأنا وحب الأضواء. هذه المجموعات التي استلمت العَلَم من البريطانيين رسخت ثقافة مشوهة جداً؛ فلا هي ثقافة محض بدائية ولا هي ثقافة محض برجوازية. إنها ثقافة التمركز حول الذات والاعتقاد بأن الكون يدور أو يجب أن يدور حولها. لذلك كان الأبطال ليسوا بأبطال حقيقيين بل أبطال يحققون بطولات شخصية لأنفسهم. ونتيجة لانتشار هذه الثقافة الأنوية البليدة، أصبح هناك توجه حاسم نحو الأفندوية، فترك العمال والفلاحون مناطق الانتاج واتجهوا للعمل كموظفين في الحكومة. وهذه المجموعة التي وصلت للأفندية ضخمت من نفسها دون أن تنجز اي انجاز حقيقي، كانت تضخيمات شخصية جداً، تماماً كتضخيم الشعراء لأنفسهم الذين يقولون ما لا يفعلون، فتفاقمت مشاعر الحسد بينهم، ولذلك أيضاً كانت الصراعات بينهم صراعات عقيمة تماماً كبطولاتهم. لا يوجد واحد من هؤلاء لا يحب أن يضعوا أمامه المايكرفون كي يتحدث. لذلك فهم يحبون الخطب العصماء، وهكذا تشكلت نخبة من اللسانيين أصحاب الحناجر الواسعة، أما على الأرض فهم فارغون فراغ فؤاد أم موسى. وكانت تجارب إدارتهم الفاشلة للدولة تكشفهم وتبين هذا الفراغ، فتظهر ضعف قدراتهم في مختلف أنواع المعارف والعلوم، فهم ناقصوا المعرفة إلى حد بعيد، لكنهم يتساوون في ذلك النقص فكان تساويهم يغطيه، ولكن نتائج أفعالهم يزيل ذلك الغطاء. وكانوا وما زالوا كلما احتكوا بالعالم الخارجي ظهر عوارهم جلياً فبدوا أمام العالم كالأرجوزات، ولكن أهلهم الأكثر منهم جهلاً لا يدركون ذلك. فالأعور في بلد العميان ملك. حبهم للمايكرفونات ظل يدهشني دائماً، ولقد رأيت صراعاتهم الحمقاء حول المايكرفون في كل محفل يلتقون فيه، فتلمع أعين من ينتصر منهم بالوصول إلى المايك، وهو يحاول تضخيم الجمل وانتقاء المفردات لكي يشار إليه بالبنان ويرفع اليه الناس أبصارهم. وهم في الواقع لا يتفوهون إلا بالجمل الإنشائية التي لا تقدم ولا تؤخر، وخطاباتهم الإستعراضية لا أرضية لها، ولكنها أثرت في باقي الشعوب في هذه الرقعة الجغرافية البائسة الذين بدأوا في اقتفاء أثرهم دون بصيرة. حب الشو Show ستجده في كل فرد فيهم، لكنه شو أحمق، مثل استعراضات البرهان بقبعة الكاوبوي والكلاش فوق ظهره وهو في الواقع نجا بأعجوبة وفر إلى الشرق. واستعراضات الصبي بتاع البراء وتصوير مدني عباس لنفسه وقميصه ممزق ليضمن فرصته في المنصب، وارتداء لصوصهم الأغنياء لعمامة طولها عشرات الأمتار.. إنهم في الواقع أدنى من الأرجوزات مرتبة، فالأرجوز قد يحكي لنا قصة مفيدة ويقدم لنا حكمة صغيرة عن الحياة، لكنهم لا يفعلون، إنهم أقوام خنزيرية، تدور حول نفسها، وتريد من العالم كله أن يدور حولها أيضاً، رغم أن العالم تجاوزهم بسنين ضوئية، لكنهم لم ولن يتغيروا أبداً. ثم ظهرت وسائل التواصل الاجتماعي فأخرجوا فيها كل قيئهم وغائطهم وأبوالهم، وظهرت سوءاتهم ظهوراً شنيعاً، فبان سوء طويتهم ونقص علمهم ودياثتهم واتجارهم بالدين والعرض، فلا تجد قناة منهم تضيف شيئاً إلى الإنسانية، بل هي إما عهر ودياثة وإما وقاحة وفجور في الخصومة ولا ثالث لهما. والمأساة تكبر وتكبر، فلا يفتح الواحد منهم فاهه إلا وخرجت منه كل الروائح العفنة فأنتنوا مناخنا وبيئتنا ولوثوهما بما يضر ولا ينفع. هذه هي الثقافة التي أفضت إلى كل واقعنا اليوم، ثقافة اللصوصية والدعارة والدياثة والموت، ذلك بأن الله أراد أن يهلكهم بأيديهم، وإذا أراد الله أن يهلك قرية أمر مترفيها ففسقوا فيها فحق عليها القول فدمرها تدميرا.. أليس الله على كل شيء قدير. بلى ولا نزيد
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة