(أسعدني ونجلاء التوم اقبال القراء على بعض ما نشرته من مقالي "المستَعمر" وضعية الخلو من الترجمة للذات" والذي عربته نجلاء في مناسبة الذكرى السنوية لرحيل الطيب صالح وطقوس جائزته من شركة زين المعطلة. وأغراني هذا الاقبال على نشر حلقة أخرى من المقال لمن أراد التوسع في الاطلاع عليه)
يلحُّ مصطفى سعيد بلا كلل على "أنا لست عُطيلاً، عطيل كان أكذوبة" فراراً من ماض أوربي التبس بهويته الأفروعربية "أنا لست عطيلًا. أنا أكذوبة". وهذا الإنكار لكونه محض نسخة من ماضي أوروبا ينعقد بشكل مفيد مع حجتنا أن آخر الأوروبي محكوم عليه بتاريخ أسه القياس والتشابه. فهو عطيل في نظر صويحباته الشبقات لا مصطفى سعيد. فالمُستَعمَر يجرد المستعَمر، بعد حرمانه من التفرد، من أن الحق في أن يكون خلا من محض مشابهات تتفق له. والمشابهة تنفي الحق في الترجمة الذاتية.
في معرض مجاهرته بالخديعة، يثير مصطفى سعيد في مناقشاته مسألة سياسات التمثيل التي محَصَها إدوارد سعيد بعناية في كتابه الاستشراق (1978). يعرّف إدوارد سعيد الاستشراق على أنه خطاب يُشَّرِق الشرق. بعبارة أخرى هو الخطاب الذي يجعل الشرق ما هو عليه في إدارته سياسيًا واجتماعيًا وعسكريًا وإيديولوجيًا وعلميًا وخياليًا، خلال حقبة ما بعد التنوير وما تلاها. الشرق لا يمثل نفسه، إنه مُـمَثل (أو ممثلا به).
(موسم الهجرة) هي أثنوغرافيا كثيفة للاستشراق بوصفه تجربة معاشة مأساوية. فسياسات التمثيل الاستشراقية تسيدت على شهوة مصطفى سعيد ومخاطراته ومآسيه بين خليلاته الإنجليزيات. فيستجوبه النائب العام، وقد أحكم القبضة على مصطفى سعيد المتهم بقتل بعض الخليلات والتسبب في انتحار بعضهن، قائلاً:
" هل تسببت في انتحار آن همند؟"
" لا أدري"
" وشيلا غرينوود؟"
"لا أدري"
" وايزابيلا سيمور؟"
" لا أدري"
" هل قتلت جين مورس؟"
"نعم"
"قتلتها عمداً؟"
"نعم"
على الرغم من اعتراف مصطفى سعيد بقتله جين مورس إلا أنه، في العموم وعلى نحو مغلز، كان مزعزعاً ومنقسم الفؤاد حول إلقاء اللوم على نفسه. فأحياناً، ينكر المسؤولية تَبْ، وفي أحيان يقر بها تعجيلاً لنهاية المحاكمة المهزلة. فموت عشيقاته، في حجاجه، هو شيء نَشِب ببراثنه فيهن ومبعثه الحقيقي هو ثقافتهن. رأى مصطفى سعيد في استشراقهن مرضاً عضالاً. فيقول إنهن أصبن بالعدوى من "جرثوم مرض فتاك. العدوى أصابتهن منذ ألف عام، لكنني هيجت كوامن الداء حتى استفحل وقتل"
مصطفى سعيد ليس واهماً كل الوهم فيما ذهب اليه. فهناك سبب وجيه وراء قناعته أن المعرفة الاستشراقية عند عشيقاته هي حتفهن. لقد هيج فقط "كوامن الداء" لهذه الثقافة، والباقي تاريخ. فثقافتهن تجعلهن حائلات بإزاء رجال من بلاد بعيدة وغامضة، وتدفعهن للاعتقاد في فحولتهم الأسطورية. فمصطفى سعيد على ذلك ليس بحاجة إلى إغوائهن. تغنيه كذبة أنه عطيل، في أذهانهن، وتكفي لأن تقع هؤلاء النسوة في حبه مثل الفراشات. لكن مصطفى سعيد، رغم كل ذلك، ليس موضع رغبتهن في ذاته.
رغم أن مصطفى سعيد يسعى إلى النأي بنفسه عن مؤونة المعرفة الاستعمارية، إلا أنه يعرف كيف يُغري النساء المصابات بالشرق وأفريقيا. إن إنكاره لكونه عطيل خدعة. فهؤلاء الأوروبيات لن يصدقنه. فاستشراقهن يغلب على فطنتهن. وهو خادعهن.
إن ما يعتقل هؤلاء النساء في مصيدة مصطفى سعيد حقيقةً هو الصورة التي يتخيلنها عنه كما رسمتها الثقافة التي نشأن عليها. فهن محاصرات في مصيدة الأكاذيب التي نسجتها ثقافتهن حول الآخر الثقافي. فمصطفى سعيد يتلاعب بهذه الأساليب مستدرجاً عشيقاته. فيصف هنا بيته ك"وكر الأكاذيب الفادحة، التي بنيتها عن عمد أكذوبة أكذوبةً". ثم يصف غرفته بالمكان الذي لم تغادره قط امرأة وهي عذراء، أو على قيد الحياة:
" غرفة نومي مقبرة... على الجدران مرايا كبيرة، حتى إذا ضاجعت امرأة بدا كأنني أضاجع حريماً كاملاً في آن واحد. تعبق في الغرفة رائحة الصندل المحروق والند، وفي الحمام عطور شرقية نفاذة، وعقاقير كيماوية، ودهون، ومساحيق، وحبوب".
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة