(١) النشاط السياسي بصفة عامة مستمر بإستمرار الصراع الاجتماعي القائم على الانقسام الطبقي وتعارض المصالح، وهو لا يعرف الفراغ بل فقط يتخذ أشكال متعددة، ويعلن عن نفسه بمستويات متمايزة. والنشاط السياسي السوداني ليس استثناءا، فهو مستمر وان تعددت اشكاله وتنوعت تداعياته. وتسخينه عبر تحويله إلى حرب ولغة سلاح بهدف طرد القوى المدنية الثورية من المعادلة السياسية، لم تمنع استمرار ادوات الصراع ذات الطابع المدني من الاستمرار ، وإن كانت في حالة ضعف وخفوت في جانب القوى المدنية الثورية. إلا أن هذا لم يمنع القوى المتصارعة بالسلاح نفسها، من محاولة توسل الوسائل والأدوات التي اختصت بها القوى المدنية نفسها، لإعادة تموضعها داخل الخارطة السياسية، في محاولة لإعادة صياغة الواقع السياسي، في اعتراف خجول بأن الحرب قد استنفذت أغراضها، وأنها لن تقود إلى سلطة مستدامة حتى وان نجح احد الطرفين في تحقيق نصر عسكري حاسم، وهذا أمر مستبعد حتى اللحظة. فأي نصر عسكري ، لا بد من رسملته واستثماره سياسيا، لأنه لن يقود إلى كسر شامل للانسداد السياسي ما لم يصاحبه عمل جماهيري، يؤسس لقبول الجهة المنتصرة شعبيا ولو جزئياً، وتشكيل حاضنة سياسية للسلطة الجديدة. (٢) في هذا السياق، وبعد فشل منبر جدة في الوصول إلى ايقاف الحرب او على الاقل التوصل إلى هدنة جديدة، فاجأتنا مليشيا الجنجويد بمحاولة خلق شارع داعم لأهدافها التكتيكية المعلنة، التي تحاول عبرها دعم موقفها التفاوضي وبناء حاضنتها السياسية في المركز. لذلك شهدنا مظاهرة سلمية ترفع علم السودان وحده في شارع الستين، الذي تسيطر عليه المليشيا سيطرة تامة، ولا يمكن لأي شخص ان يتنفس فيه بدون علمها ناهيك عن ان يتظاهر . والمظاهرة تمت تحت وقع موسيقى الرصاص وصوت القذائف، وتبنت شعارات شكليا تتوافق مع بعض شعارات الثورة المنتقاة بدقة ، وتتغافل عن الشعارات التي تشكل الخارطة السياسية بشكل يستثني الطرفين المتحاربين. فهي مثلا ترفع شعار " مدنية خيار الشعب، حرية سلام وعدالة" ، لكنها تتفادى الشعار الأساسي " الثورة ثورة شعب والسلطة سلطة شعب والعسكر للثكنات والجنجويد ينحل". وهي تهاجم برهان (احد طرفي الحرب) ، وتصمت صمت القبور في مواجهة زعيم الجنجويد. وتعلن بذلك انحيازها التام لخطاب التضليل الذي يزعم بأن الجنجويد يسعون لدعم سلطة مدنية تقود لتحول ديمقراطي، وتفصح عن طبيعتها المصنوعة لمواجهة الانسداد الذي واجهه منبر جدة وتجيب على فشله بتكتيكات جديدة. فالمليشيا المجرمة عبر هذا التكتيك، تدشن محاولة تحولها لنشاط جماهيري فاعل يستبق القوى الثورية المدنية ويحاول سرقة الشارع بصناعة شارعه الخاص، وعدم الاكتفاء بشراء الإدارات الاهلية التي لن تسعفها في المركز كما أسعفتها في غرب السودان. (٣) في المقابل تفشل قيادة الحركة الإسلامية في التحرك للتحول إلى حركة جماهيرية فاعلة في الشارع لمواجهة فشل منبر جدة، وذلك بسبب انها تعلم انها غير قادرة على صنع شارع مواز للشارع الحقيقي. فهي تخاف ان هي فتحت الباب امام نشاط جماهيري حتى وان كان مسيطرا عليه، ان يفضح عجزها المزمن عن الحشد والتنظيم بعد سقوط المخلوع وقبله بعد سقوط مشروعها السياسي، كما تخاف ان ينقلب لنشاط معادي لها يخرج عن سيطرتها. وهي كذلك تعلم انها لن تستطيع تسويق مزاعمها بأن المنبر فشل بسبب رفض الجنجويد الخروج من منازل المواطنين، لأن الجميع يعلم بأن المنبر فشل بسبب رفض قيادة الجيش غير الشرعية في تنفيذ اجراءات بناء الثقة بالقبض على المجرمين الهاربين من العدالة من قيادة الحركة الإسلامية. فهذه القيادة قصيرة النظر، قررت مواصلة الهروب واستمرار الحرب - بالرغم من انها مهزومة عسكرياً- في سبيل إفلاتها من المحاسبة، وإن كان ذلك على حساب هزيمة مشروعها المنبوذ جماهيريا نفسه. فهي بدلا من اعادة التموضع ومحاولة التجسير مجددا مع القوى التسووية المستعدة لذلك بتقديم بعض التنازلات غير الجوهرية، تراهن على استمرار الحرب عسى ولعل ان تحدث بعض التحولات الاقليمية والدولية التي تساعدها على تحقيق بعض الانتصارات العسكرية وتحسين موقفها التفاوضي. وبهذا الموقف المتصلب الداعي لاستمرار الحرب كطريق وحيد لتقدمها للأمام، تفصح قيادة الحركة الإسلامية عن طبيعتها المعادية للشعب، وعن محدودية قدرتها على المناورة، وعن انطلاقها من مصالح مجموعة ضيقة تعمل ضد مصالح مجموع عضويتها نفسها وتقود منسوبيها في اطار عملية انتحار سياسي ليس إلا. فالإصرار على شيطنة (قحت) و (تقدم) بدلا من محاولة التجسير معها ، ينبئ عن موقف عدمي وتكتيك سياسي مغرق في التعالي على الواقع والانفصال عنه. (٤) طبيعة النشاط السياسي الذي يحكم المشهد والمنوه عنه أعلاه، يؤكد محدودية خيارات القوى المتحاربة وعجزها عن تحقيق اي اختراق سياسي. فهي من ناحية غير قادرة حسم الصراع عن طريق الحرب لأنها ستفشل حتما في رسملة نتائج الحرب سياسيا حتى في حال انتصار أحد أطرافها، ومن ناحية اخرى غير قادرة على صنع خارطة مدنية جماهيرية تصبح حاملا لأي مشروع سياسي يصلح لتكوين حاضنة لسلطة قادمة مستقرة او مستدامة. فمحاولة مليشيا الجنجويد المجرمة لاستخدام ادوات حركة الجماهير الثورية كالمظاهرات، هي محاولة فاشلة، تظهرها بمظهر الطفل الذي يلبس حذاء أبيه، وتفضح عجزها المزمن عن التحول لحركة جماهيرية. اماً دعوة قيادة الحركة الإسلامية لاستمرار الحرب بدلا من اعادة القبض على قيادتها الهاربة من العدالة واعادة تجسير العلاقة مع التيار التسووي برعاية دولية، فهي لا تعكس عجزا فقط، بل تعكس قصر نظر مزمن وعدم قدرة على قراءة توازن القوى لممارسة انتهازيتها المعهودة. وهذا العجز المزدوج للقوى المتحاربة التي تمثل انقسام اللجنة الامنية للإنقاذ في اعلى درجاته، يؤكد أنها في أقصى درجات ضعفها رغم احتكامها للبندقية، بإعتبار أنها فاشلة في تحويل حصاد بندقيتها إلى فعل جماهيري يشكل رافعة لسلطة أمر واقع. فالطرفان المتحاربان يفتقران للمشروع السياسي المقبول جماهيريا، والسيف وحده لا يصنع سلطة، وتاريخيا السيف يحتاج إلى كتاب يحيله إلى قوى جماهيرية مادية قادرة على صنع سلطتها. ودلالة ما تقدم هو ان الطرفين المتحاربين ليسا منهكين من الحرب فقط، بل فاشلين في استثمار حريهما سياسياً، وأن الفرصة سانحة امام حركة الجماهير الثورية، لطردهما من الخارطة السياسية، وإلقائهما معا في مزبلة التاريخ، عبر تكوين الجبهة القاعدية القادرة على انجاز هذه المهمة. وقوموا إلى ثورتكم يرحمكم الله!! ٨/١٢/٢٠٢٣
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة