💢فجعت الأوساط العلمية بالسودان، بل الأمة العربية والإسلامية بأسرها يوم -19/11/2023- بوفاة البروفيسور/ الحبر يوسف نور الدائم؛ فانطفأت الومضة وأغطش الليل ، فهو أحد أعلام هذا الزمان، وأبرز أساتذة "بنت عدنان"، ترك سيرة طيبة عطرة زينها بخلقه السمح، ومعشره الطيب وعلمه النافع، كان خبيراً باللغة العربية وفنونها، موسوعة في حفظ أدبها وتراثها، مع التفنن في معرفة الشريعة والتفقه فيها، فهو رجل متذوق لكتاب الله، رزق فيه فهما وتبصرا عجيبا. أعطاه الله تعالى حافظة قوية، وأسلوبا لطيفا، ونباهة حاضرة، وتمكنا لغويا عجيبا؛ يحفظ الشعر ويقرضه، وينثر الكلام فصاحة وبلاغة، ويلم بعلوم الضاد في تميز فريد، وامتلاك للبلاغة وناصية البيان.
💢مولده ونشأته: من مواليد إبريل 1944م بقرية السروراب الكائنة بالريف الشمالي لمدينة أم درمان. كان أبوه أحد حفظة القرآن الكريم وفقهاء المنطقة، فحبب إليه العلم النافع، ودله على طريق المعارف. تحدث مرة عن والده فقال:"نشأت بفضل الله في بيئة سرورابية شاعرة، وكان أبي - رحمة الله تعالى عليه - شاعراً له صولات وجولات في ضروب الشعر المختلفة.. ولا سيما في بابي الرثاء والغزل، فنهلت من معينه الصافي ما شاء الله". تلقى تعليمـه الأولي بمدارس حي العرب الوسطى بأم درمان ثم الثانوية العليا بمدرسة وادي سيدنا بـ أم درمان أيضاً. كان من ضمن أساتذته أحمد علي النويري أستاذ اللغة العربية والبروفيسور عبد الله الطيب. ونال درجة البكالوريوس بمرتبة الشرف الأولى من كلية الآداب جامعة الخرطوم، وابتعث إلى المملكة المتحدة لينال درجة الدكتوراة من جامعة أدنبرة، بـ"أسكتلندة" وكانت الرسالة في تفسير الطبري. 💢كان أستاذاً بجامعة الخرطوم ورئيساً لقسم اللغة العربية، وعضواً ببرلمان السودان (كان رئيسا للجنة التعليم في البرلمان)، ورئيسا لعدة لجان في البرلمان في مجال التعليم، والإصلاح؛ فكان في كل ساحة من تلك الساحات نبراساً للحق. رحمه الله تعالى فقد كان اسماً على مسمى فلقد كان حبراً في المعارف والعلوم، يزينه الأدب وجزالة العبارة. وكان رجلاً شديد التواضع، زاهداً في دنياه، ولقد نال الشهادات الأكاديمية من أرقى جامعات العالم مع العلم الغزير، فما زاده ذلك إلا تواضعاً وخدمة للناس. حمل هم الدعوة لدين الله، وشغف بالعلم والمعرفة، فكان خلية نشاط في الدعوة والتعليم، خدم المحابر فخدمته المنابر، داعياً إلى الله ومبشراً بدين الإسلام، عرفته المنابر والمحاضر، واستفاد منه البادي والحاضر، وكانت له قدم صدق في بيان حقائق الإسلام، والمنافحة عنه، وأحد أئمة اللغة وركنها المتين في عصرنا الحديث. 💢إنتاجه العلمي: عاش حياته كلها في محراب العلم، وقدم علماً غزيراً من خلال محاضراته، وبرامجه الإذاعية والتلفزيونية التي تبين معاني القرآن وتتحدث عن بلاغته، وتنشر سيرة المصطفى صلى الله عليه وسلم ، ولقد خلف تراثاً علمياً خاصة في مجال لغة العرب وآدابها، وله ديوان شعر مطبوع بعنوان "أنفاس القريض"، وكان في إلقائه للشعر يبهر سامعيه بطريقته الفريدة، وبجودة حفظه، وإتقانه وحسن بيانه. قال أحد النقاد: "شعر الدكتور الحبر يمتاز بالبلاغة الآسرة والكلمات الباهرة التي يرصع بها قصائده، ويستدعى أوابد لغة الضاد، فتجيبه من أغوارها في يسر وسهولة.. ويغلب على شعره العاطفة الجياشة والشعور المرهف.. وهو حريص على أن يجري على نهج المتقدمين في أخيلته الشعرية وفي شكل بناء القصيدة.. حيث يبدأها بما يشبه الوقوف على الأطلال من الغزل العفيف.. فالدكتور الحبر هو واحد من مدرسة الأصالة والمنافحة عن الفصحى، والقصيدة العمودية وأوزان الخليل" (١). فقد رثى ابنه الذي مات غرقاً في نهر النيل، حيث صبر واحتسب: أمل تبدد فاستحال سرابا منن كذبن وكن قبل عذابا. وذخيرة نفذت وكنت أعدها للنائبات فعشت بعد مصابا ابني الذي أعددته وذخرته للنائبات مهندا وكتابا دارت عليه رحي المنية فجأة ودعته نحو رحابها فأجابا يا نيل: قالوا إن ماءك نعمة يهب الحياة سعادة وشبابا يغشى اليباب فيستحيل مواته روضا يرف أزاهرا وخلابا ما بال مائك عم روض سعادتي فأحاله بعد الحياة يبابا
💢ثم كان صبره العظيم حين نزلت بالناس فاجعة حرب الخرطوم أبريل 2023 فأبى أن يبرح بيته أو يغادر مكانه، فمكث فيه إلى أن وافته منيته وحان أجله.
💢وله ديوان شعر مطبوع بعنوان (أنفاس القريض) يحتوي على خمس وعشرين قصيدة على نمط القصيد القديم في أسلوبه وألفاظه وتراكيبه وأخيلته وإيقاعه، صدرَ “أنفاس القريض” بُعيد منتصف التسعينيّات،فاحتفت به الأوساط الأدبيّة، وتناولته الصفحات الثقافيّة في الصُّحف، وحفظ القصائد منه الخطباء في المنابر المسجديّة والثقافية(٢).
💢وهو يقرض الشعر الشعبي ويقول فيه الغزل والرثاء والهجاء، ويحفظ من قصائد الحقيبة، ويغنّيها أحياناً. يقول د. حاكم المطيري: "أرسل وهو في السودان قصيدة إلى زوجته أم محمد حين زارت ولدها الشيخ محمد في برمنغهام يبث فيها أشواقه إليهما ومطلعها: أترحل هكذا أسماء عنيّ وتتركني كأني ما كأني! فجاءني الشيخ محمد بالقصيدة وطلب مني إعانته على الرد عليها فقلت بل أنا أكفيك الجواب فكانت أول المعارضات بيني وبينه رحمه الله وأولها: ألا طاب الترنم للمغنيّ فأهلا بالقريض وبالتغني إذا ما شاعر السودان غنى تغنى الخلق من إنس وجنّ(٣)
💢رحل العالم الجليل الحبر؛ مضى الطود الأشم؛ القائل: أكابد واحدًا فردا كطودِ حمي الأنف أقسم لن يُنالا تكسرت الرياح بحافتيه وأهوى دون قمته الرجالا
وقد صدق فقد كان شامخاً؛ حمي الأنف؛ بعيداً عن الدنايا؛ في تواضع وبساطة وزهد؛ كان قمة هوى دونها الرجال لا يتكلف شيئا(٤)؛ فقد سحر قلوب الناس بسحر البيان وشنف الأسماع بلطائف القرآن فعاش مدرساً وخطيباً وظل أستاذاً وأديباً، فهو أنيس المجالس، وخطيب المجامع.
💢فقد فقدت الأمة بفقده عالماً ، فقد ترك ثلمة في موكب العلماء، و فجوة في نخبة المعلمين، وثغراً في جدار الأدب والعربية، وفراغاً في الإذاعة، وصدعاً في دور العلم، وفجيعة في الأمة السودانية، وشرخاً في العالم الإسلامي(٥).
💢فأبياته التي رثى بها أستاذه البروفيسور/عبد الله الطيب، كما يقول الشيخ عبد الحي ، لم نر أفضل منها لرثائه -عليهما جميعاً من الله رحمة واسعة-: نلت العلوم أصولها وفصولها ويلذ منك الشــرح والتفسير جهل الفصاحة من يظنك مغربا أحيا الفصاحة سامر وسـمير إن الفصاحة لا تبارح أهلهـا لله درك إننــي مســحور يا أيها المنطــيق إنى وامق إما نطقت تكشـف المسـتور إما نطقت لويت عنقا سـاطعا والقوم صـمت كلهم مأسـور منى السلام عليك أبين ناطـق يامن بكتك صـحائف وسطور خلفت بعدك لوعــة ملتاعة لم ينج منها جـازع وصـبور خلفت بعدك دمعة مهــراقة يامن بكاك النظم والمنثــور سـقيا لقبرك لايزال تدفقــا بسحائب الرحمات منك همور ثم الصلاة على النبي محمـد مالاح برق أو ترنم صــور
💢 يرثى لفقده وفضله وعلو كعبه في العربية وخدمته لها بما فتح الله عليه، فإنه وارث الأكابر في العربية في فنونها وفروعها والسيرة في دقائقها وتلافيفها، ويرثى لدرر تفسيره، وغرر أدبه، وخرائد شعره ونكته وتعليمه، وإسقاطات سيرته، فقد سحر قلوب الناس بسحر البيان وشنف الأسماع بلطائف القرآن. لقد كان رحمه الله عالما مفردا وكاملا أوحدا مع زهادة وعبادة وتقوى عبادة فخر علماء السودان وصدر فضلائهم لاحت من بروج سمائه أنوار بيانه، وهطلت من سحائب علمه غيوث تبيانه فكان حبرا كاسمه فله من اسمه أوفر الحظ والنصيب، وقد جد في طلب العلم حتى غدا من الأكابر(٦).
💢كان يحب فلسطين جداً، ويحب رجالها، ويحتفي جدّاً بلقائهم، ولا يكاد إلا يسأل عنهم واحداً واحداً، ويستمع بحرص إلى ما يستجدّ من أخبارها، ولطالما كان قريباً من أي عمل يختص بها، وداعماً ومسانداً(٧).
💢ترك وراءه مسيرة عطاء مشرفة وقلوب تلهج بالدعاء إلى الله عز وجل أن يرحمه ويسكنه فسيح جناته، وسيبقى حاضراً في قلوب الشعب السوداني والأمة العربية
قد ماتَ قومٌ وما ماتَت ْمكارِمُهم وعاشَ قومٌ وهُم في الناسِ أمواتُ(٨) ________________ ١. إسلام ويب. ٢. د.أسامة الأشقر. ٣. د. حاكم المطيري . ٤. د.نزار م عثمان ٥.الشيخ المرزوقي ٦. عامر الخميسي. ٧.د.أسامة الأشقر. ٨.الإمام الشافعي .
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة
صلاح التوم إبراهيم
فيس بوك
تويتر
انستقرام
يوتيوب
بنتيريست