هناك علاقة جدلية بين أضلاع مثلث يفرض نفسه على التفاعلات السياسية والمجتمعية في أي مجتمع من المجتمعات وتتمثل هذه الأضلاع في ثلاثة عناصر: الرأي العام، والإعلام، وإدارة الأزمات. ونظرا إلى طبيعة التداخل البنيوي والوظيفي بين هذه المكونات أو الأضلاع، فإنها مرتبطة كليا ببعضها البعض عبر التأثير المتبادل بينها. وهو تأثير قد يتم بشكل متوازن في الحالات الطبيعية بين الرأي العام والإعلام بيد أن دخول عنصر الأزمات قد يخلق وضعا غير طبيعي، يأخذ خلاله التفاعل والتأثير المتبادل نتائج وأوضاعا جدية ومختلفة. اليوم شكلت عملية طوفان الأقصى تحديا غير مسبوق في مجتمع دولة الاحتلال الإسرائيلي؛ ففي ظل هذه الأزمة التي عصفت بالقيادة السياسية والعسكرية من جانب وهزت ثقة الرأي العام والإعلام في هذه القيادة من جانب آخر، لم يصمد الفعل التضليلي والتحريضي الرسمي أمام طوفان الحقائق وانكشاف الغطاء عن العملية العسكرية الإسرائيلية في غزة. وبينما سار معظم الإعلام الإسرائيلي في البداية في معية القطيع الرسمي مُضللا ومُحرضا نأى جزءٌ منه بنفسه وتفاعل مع الأزمة والحقائق على الأرض، فتحول لمرآة عاكسة للرأي العام ولتفاعلات الانهزام والإحباط الممسك بتلابيب المجتمع الصهيوني. اليوم فقد حزب الليكود الحاكم في دولة الاحتلال الإسرائيلي نصف قوته الانتخابية وغدا حتما سيخسر الغالب الأعظم منها مع انقشاع سحابة التضليل وتنامي انكشاف الحقائق المؤلمة. فالشارع يموج احتجاجا وغضبا والإعلام ينقل بعض الحقائق مضطرا وخَجِلا تحت وطأة ضغط الإعلام الخارجي فضلا عن سريان التشققات والانهيارات في جسم كابينة القيادة بقيادة رئيس وزراء حكومة الاحتلال بنيامين نتنياهو. المشهد الإعلامي الإسرائيلي المنهزم خلا تماما من تعابير النصر، والجيش الذي لا يقهر، وسحق المقاومة الفلسطينية. بل غدت التقارير الإعلامية والتغطيات الصحفية تعكس حالة الخوف والهلع من قادم الأيام السوداء، على أقل تقدير ظل أفضلها يعكس حالة عدم اليقين والتوجس. وفي هذه المرحلة فقد حدث الفصام بين الإعلام الإسرائيلي والقيادة السياسية والعسكرية، ففي الوقت الذي ما زالت القيادة السياسية تصر على وصف صفقة الهدنة والتبادل الجزئي للأسرى بـ «الإنجاز»، اعتبرت بعض التحليلات الإعلامية أن إسرائيل تذوق طعم الخسارة. وحاولت صحيفة «يديعوت أحرونوت» تخفيف طعم مرارة الخسارة، فاختارت عنوان «ننتظرهم.. عائلات المحتجزين تتوقع البشارة»، وقال كاتب إسرائيلي في مقالة له بالصحيفة: «لا يوجد مكان للفرح، وبالتأكيد بعد الهجوم المفاجئ بالسابع من أكتوبر». وفي إشارة إلى الحزن بالمجتمع الإسرائيلي من عدم تحرير جميع المحتجزين دفعة واحدة وعددهم 240، أضاف يميني «لا مكان للفرح وما دام هناك رهائن في غزة.. لا مكان للفرح ما دام بمقدور حماس مواجهة الجيش الإسرائيلي عسكريا وإطلاق الصواريخ.. لقد توصلنا إلى صفقة جزئية تبقي على الكثير من التساؤلات». وكل ذلك قد يعضد ويعزز مخرجات دراسة علمية لمركز الجزيرة للدراسات تناولت هذا الموضوع، والتي كانت قد خلُصت إلى أن مقاربة العلاقة التفاعلية التكاملية التي تجمع بين الإعلام والرأي العام والأزمات تبيِّن أن هذه الأطراف عندما تجتمع، تشكِّل وجها ثلاثي الأبعاد لظاهرة تواصلية إنسانية في مكان وزمان مخصوصين؛ إذ لا يمكن الفصل بين الإعلام والرأي العام، أو الإعلام والأزمات، أو الرأي العام والأزمات، ولا يمكن لأي منهم أن يستغني عن الآخر. فوسائل الإعلام لم تعد محتكرة للفعل التواصلي الإعلامي فتتستر على الأزمة لأجندتة تخصها أو لرغائب سياسية تضغط عليها؛ وأفراد المجتمع ليس بمقدورهم تشكيل رأي عام في غياب التواصل الإعلامي الذي تقوم به وسائل الإعلام التقليدية أو الجديدة أو صحافة المواطن. ولا شك أن الإعلام يتبوأ مكانةً محوريةً في مختلف أوجه الحياة، بل قد يكون دوره حاسماً في نجاح المشاريع السّياسية والاقتصادية أو العكس تماما، فهو القادر على قولبة الاتجاهات الفكرية في المجتمع. ويُعتقد أن الإعلام يشكّل مع القوة العسكرية أهم مصدرين للقوة في المجتمعات والدول. وعليه فإن الدروس المستفادة من الحالة الإسرائيلية للحكومات والدولة العربية التي لم تعط الإعلام بعد الاهتمام الجدير به. فهو أداة من أدوات السّياسة، ينقل سياسات صناع القرار إلى الشعوب، ويبلور اتجاهات ومواقف الشعوب حتى يستفيد منها صنّاع القرارات؛ ووسائل الإعلام أداة قوية يعتد بها بالنسبة للنظم السّياسية. حتى أن عُلماء السّياسة والاتصال السّياسي والاجتماع السّياسي أهتموا كثيرا بدراسة التفاعل بين الاتصال والنظام السّياسي والعملية السّياسية بصفة عامة، وأكدوا على العلاقة الجوهرية بينهما، بل ذهبوا إلى أبعد من ذلك حين نادوا بإعادة دراسة وتحليل العلوم السّياسية بالاعتماد على نظريات الاتصال. ومع ذلك ومع كون المسؤولية تتوزع بين السلطة السّياسة من جانب وبين وسائل الإعلام، غير أن السلطات السّياسية – بما في ذلك الهيئات التشريعية - تتحمل القدر الأكبر من هذه المسؤولية لتوفر عنصر القوة السلطوية لديها، فينبغي عليها المبادأة بوضع الإعلام في موضعه ومكانته الصحيحة. ولعل رفاهية الدول وتطورها وأمنها مرهون باستقرارها السّياسي، ولا يتحقق الاستقرار السّياسي إلا بالوعي السّياسي لكل قطاعات المجتمع، قيادات وأفرادا. ولكون أن مهمة الإعلام مرتبطة بإشاعة الوعي؛ فإن هناك مسؤولية تضامنية ثقيلة تقع على عاتق وسائل الإعلام في هذا الصدد. كما تجدر الإشارة إلى التحذير من التناول الانطباعي لقضايا الإعلام العربي بشكل عام، إذ إن ذلك ينتج عنه صورة ذهنية سالبة تُحمّله وزر كل تشوهات النظام العربي السّياسية والاقتصادية والاجتماعية. على الرغم من أننا قد نتفق على أن الإعلام العربي في عمومه الأعم يرزح تحت القيود الحكومية التي تشكّل عليه ضغوطاً سياسيةً واقتصادية تمنعُه من القيام بدوره التنموي في المجتمع.
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة