عجز ظلام تحيز الإعلام الغربي عن إطفاء شمعة قناة تلفزيزنية واحدة، فقد ظلت شعوب العالم على موعد مع نقل حي بدون ألوان أو نكهات مضافة تغيّر من طبيعة الكارثة في غزة، سلبا أو إيجابا. وبدا أن قناة الجزيرة تخوض وحدها عكس تيار بحر تضليلي ممتد في هذا العصر، عصر ما بعد الحقيقة، وفيه غدت وسائل الإعلام أدوات فاعلة في الصراعات الدولية ليس بالتزام الحقيقة والموضوعية ولكن بالخوض مع تيار تلوين الواقع والحقائق بألوان الجبروت والقهر السياسي. ولعل مفهوم عصر ما بعد الحقيقة يشير إلى الحالة أو الظروف التي تكون فيها الحقائق الموضوعية أقل تأثيرا في تشكيل الوجدان قبل الرأي العام. قبل أن تفرض الجزيرة نهجها كان الإعلام الآخر ينتهج التضليل القائم على أهمية الصدقية الإعلامية في كسب عقول الناس وقلوبهم، ليس حبًا في الصدق؛ ولكن لمعرفته بالمستوى المطلوب لتمرير الكذب عند الضرورة، من خلال رسائل تقدم على أنها خطاب إعلامي صادق صادر من مؤسسات ناشئة في فضاء الحريات المطلقة وحقوق الإنسان المرعية. إن نظرية «كيمياء الكذب» وهي معالجة بث على ما يبدو حقائق مع دس أكاذيب مطلقة لتمريرها وكأنها جزء من تلك الحقائق، وهي النظرية التي يتبناها إعلام الآخر، بيد أنها أفرزت اليوم مع جهود تعديل الصورة التي تعكسها «الجزيرة»، تمردا لدى جمهور أولي القربى قبل جمهور الجار الْجُنُبِ، لأن تلك المعلومات الممزوجة مزجا والمتناقضة في تركيبتها قد أحدثت توتراً داخلياً مما شكَّل نوعاً من المقاومة لما يسببه الإعلام الغربي بكل أشكاله وأنماطه وهو يغدو أداة طيعة في أيدي الأيدولوجيات السياسية العابرة للقارات. وما لم يأخذه ذلك الإعلام في اعتباره، أن الطبيعة البشرية وفطرة الإنسان تعمل باستمرار لإبطال التناقض المعرفي ومن ثمّ الوصول إلى حالة الاتزان والرضا النفسي قبل أن ينعكس ذلك على سلوكه، وتبدى ذلك السلوك في المظاهرات العارمة المؤيدة للحق الفلسطيني والتي لم يشهد الغرب لها مثيلا سواء في الولايات المتحدة وبريطانيا أو دول أوروبا الأخرى. وجاء ذلك متسقا مع ما يؤكده علماء النفس بأن التوازن لا يحدث إلا حينما تكون هناك معلومات أو معارف متسقة منطقيا، ومع القيم الإنسانية السامية. ADVERTISING لقد مثلت تغطية قناة الجزيرة المستمرة على مدار الساعة شاهدا نزيها على جرائم الإبادة في غزة التي لم يشهد لها التاريخ مثيلا، وسطرت تفاصيل لن يجد التاريخ الإنساني لها بديلا. وكان مرتكز التغطية الإعلامية لـ «الجزيرة» أن الفلسطينيين ليسوا أقل إنسانية عن غيرهم وليس كما أراد قادة الاحتلال وصفهم بأنهم «حيوانات بشرية»، وأن مأساتهم وجرائم عدوهم لابد أن يراها العالم بدون ألوان ورتوش، فنجحت في تكريس إعلام منحاز للحقيقة وليس كمعظم الإعلام الغربي المنحاز إلى جانب الاحتلال الإسرائيلي السابح في بحر لجي من التضليل المتعمد. لقد ظللنا نتابع مع «الجزيرة» اللحظات الإنسانية لاستشهاد أفراد من عائلة مراسلها في غزة وائل الدحدوح وهي لحظات هزت العالم ومع ذلك الألم المُستسن في صدره أصر الدحدوح على العودة إلى تغطية العدوان الإسرائيلي بعد سويعات من فقده الجلل. وتابعنا كذلك ذلك الرجل الملتاع الذي ظل يحشر رأسه عميقا بين الأنقاض والركام وهو يصيح عله يسمع صوتا أو أنينا لأحد أفراد أسرته فيهرع لإنقاذه لكنه ظل لا يسمع إلا أنين الصمت. كثير من القصص الحية تابعها العالم على شاشة «الجزيرة» حصريا بينما نظيراتها ظلت تجتر الرواية الإسرائيلية اجترارا مملا. عندما يغدو حجب الحقائق قرارا سياسيا ترتفع من ناحية أخرى وبالتزامن الأصوات بإسكات «الجزيرة» بمختلف أشكال الضغوط لا سيما غير المشروعة. وظل هذا الحال منذ نحو ربع قرن ومنذ انظلاقتها؛ ففي خضم الحرب الأمريكية الآثمة على العراق نشرت صحيفة الديلي ميرور البريطانية فيما بعد في 22 نوفمبر 2005م موضوعاً حصرياً على غلافها تقول فيه إن الرئيس الأمريكي الأسبق جورج بوش الابن خطط لتفجير مبنى قناة الجزيرة حسبما كشفت عنه مذكرة «سرية جداً» صادرة عن 10 داوننغ ستريت. وأوردت الصحيفة تقول: «كشف بوش عن فكرته المجنونة أثناء قمة عُقدت وجهاً لوجه في البيت الأبيض مع رئيس الوزراء البريطاني الأسبق توني بلير في يوم 16 أبريل من العام 2004م. وهكذا ظل مسلسل استهداف «الجزيرة» ومنسوبيها حاضرة في كل أزمة ترفع فيها صوت الحقيقة ليس ابتداءً بضرب مكتب أفغانستان مرورا باستهداف شيرين أبو عاقلة في جنين وانتهاءً باستهداف عائلة الدحدوح ليلة الخميس الماضي، وقد أكد محرر الشؤون الفلسطينية في القناة 13 الإسرائيلية تسفي يحزقيلي بأن عائلة الدحدوح كانت هدفا لقصف جيش الاحتلال الإسرائيلي، مؤكدا أنهم يعرفون ما يضربون بالضبط. إن «الجزيرة» تعتبر أول قناة تكسر التابوهات الإعلامية وتبث المعلومة من الجنوب إلى الشمال ليس العكس فحسب، وهكذا تغيّر مجرى كانينساب بشكل لا نهائي على ذلك النحو، وأصبح لدى الشعوب العربية الذين كانوا يلجأون إلى الـCNN أو Fox أو الـBBC في بحثهم عن أخبار منطقتهم، يلجأون إلى «الجزيرة» منذ انطلاقتها فصاعدا حيث وفرت خدمة إعلامية عالية المهنية باللغة العربية الأُم، مع تبني رؤية تلائم القضايا العربية الإستراتيجية. وبعد عامين من ولادتها وصفت صحيفة «تاتس» الألمانية المعروفة، «الجزيرة» حينذاك بأنها ريح منعشة في الإعلام العربي هبّت من ركن لم يتوقعه أحد، وأن ما تقدمه من رأي ورأي آخر يعتبر ثورة في منطقة تستخدم فيها وسائل الإعلام كأبواق موصلة لأقوال الحكام». وفي 2002 أكد أستاذ الإعلام والاتصال الفرنسي دانيال بونيو أن «الجزيرة» جرحت نرجسية الغرب وتفرّده واحتكاره للمعلومة والخبر وأن ما تقوم به الجزيرة هو إنجاز كبير في تاريخ الإعلام الحديث».
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة