وصلني عبر الميديا مقطع من كتابٍ يسجل ذكريات الأستاذ حسن نجيلة في بادية الكبابيش التي ذهب إليها مدرساً ، قبل الإستقلال ، ضمن مشروع قومي لتعليم أبناء القبائل المتنقلة في غربي السودان.. ذلك المقطع أرجعني ذهنياً و وجدانياً إلى أيام مضت من صيف عام ١٩٦٤م قضيتها أنا بإختياري في بادية الكبابيش، متنقلاً بين مضاربهم ، بخاصة في سودري و حمرة الشيخ و حتى أم بادر مركز الكواهلة، الذين أظن أنهم كانوا عندئذٍ يتبعون إدارياً لنظارة الكبابيش لأسباب تاريخية. أتيت إلي دار الكبابيش قادماً إليها بالعربات من الأبيض في أول زيارة لي لغرب السودان ، بعد قضاء أيام في مدينة بارا التقيت خلالها بالسيد عثمان عبد الرحيم الذي كان عندئذٍ أكبر مسؤول إداري بشمال كردفان ، يديرها و يرأس محكمتها العامة . و رغم موقعه الإداري المتقدم ، جالسته ، و فتح لي صدره، و ناقشته دون حواجز علي الرغم فوارق السن و المواقع فأنا كنت مجرد طالب جامعي لم يتخرج بعد !! و يا حليل جامعة الخرطوم و موقعها الأدبي في نفوس أهل السودان مسؤولين و شعبيين !! كانت رحلتي لجمع معلومات حقلية لكتابة بحث التخرج في الجغرافيا إذ كنت عندئذٍ في الطريق للسنة الرابعة بالجامعة و أدرس مادتي الجفرافيا و الإقتصاد في مستوى البكالريوس. و في طريقي من بارا إلى سودري ، قادماً من الابيض ، قضيت ليلة في المزروب ، مركز قبيلة المجانين ، في ضيافة أسرة الاخ حافظ الشيخ الزاكي رحمة الله عليه، حيث غمرونا بكرم فياض قبل أن نواصل المسير شمالاً إلى دار الكبابيش بعربة حكومية وفرها لي المسؤولون في الابيض إستناداً فقط علي خطاب تعريف روتيني حملته لهم من جامعة الخرطوم يوضح طبيعة المهمة التي اتوجه بها الى دار الكبابيش في شمال كردفان . كانت الأمور سهلة ، و الثقة متوفرة ، و لتقديم الخدمات ضوابط مرنة.
و رغم إختلاف البيئة و غُربة ما احاطني ، قضيت أياماً ممتعة و مفيدة في رحاب دار الكبابيش متجولاً في ربوعها بما يتيسر من وسائل النقل و التنقل ، و مختلطاً بمجتمعها دون أي شعور برهبة أو غُربة، و في أجواء خريفية رائعة ، و في ظل توادد عجيب من كل من احتجت له في خدمة أو معلومة.. بعد أن أنهيت مهمتي، و جمعت كل ما سعيت له من معلومات خلال شهر كامل ، و بدأت أتجهز للعودة للخرطوم عبر القطار من الأبيض ، حسب تخطيط مسبق ، جاء إلى سودري مدير إدارة الحياة البرية عندئذٍ ، و معه عدد من معاونيه ، حيث كانوا في زيارة روتينية تفقدية للمنطقة، و رحلة تفتيشية للوحدات التابعة لإدارته. كانوا في طريقهم إلى أمدرمان عبر الصحراء.. و بطلب مني ، و بدون سابق معرفة ، وافق المدير مشكوراً دون تردد في أخذي معهم للعاصمة عبر الطريق الغربي لأمدرمان، فتيسر لي، دون تخطيط مسبق ، رؤية أجزاء أخرى من بادية الكبابيش ، أكملت لدي الصورة التي تمكنت بعون الله من وضعها في النهاية كبحث تَخَرُّج أدهش الممتحن الخارجي القادم من بريطانيا ، بخاصة عندما اكتشف ، خلال إمتحاني شفوياً ، أن إسم (التوم) الذي أحمله ليس له أي علاقة بالسير(علي التوم)ناظر الكبابيش .لهذا ركَّز معظم منقاشته ،أو إمتحانه لي، في محاولة لكشف الروح المُغَامِرة، كما سماها هو ، التي جعلت إبن أمدرمان يُدخِل نفسه دون تردد ،و بقرار شخصي، في تلك التجربة بدون أي خلفيات سابقة، و بدافع علمي بحت و في تلك المرحلة العمرية. !!! لقد كانت تجربة عظيمة ،في حضن ديار عظيمة، و أهل كرماء ، و في بيئة آمنة ما أبعدنا اليوم عن مرافيها .. وجميل أنني لا أزال أحتفظ في بيتنا بودنوباوي ، فك الله أسره ، ببعض الصور الفوتوغرافية التي توثق لتلك الرحلة ، و من بينها صورة اعتز بها و هي لشخصي الضعيف مع الشيخ حسن علي التوم رحمه الله بجلالة قدره و تواضعه ، و كان هو ناظر الكبابيش و زعيمها في ذلك الوقت. و هناك صورة أخرى و نحن نحضر ذبح جمل كان عبارة عن كرامة و سٍمَاية لمولود جديد للناظر حسن أكلنا لحمها و كبادها حامدين شاكرين . بجانب ذلك هناك مجموعة صور مع بعض شيوخ و أفراد القبيلة ،و لقطات مختارة لبعض المعالم الجغرافية و الطبيعية لبادية الكبابيش في منتصف ستينيات القرن العشرين، زينت بها بحثي الذي كتبته باللغة الإنجليزية ضمن متطلبات ذلك الزمان في جامعة الخرطوم رد الله الحياة في أوصالها .كذلك احتفظ في دار الأسرة بصور من تلك الرحلة مع الأخوين مجذوب سالم البر ، رحمه الله ، و الدرديري محمد علي اللذان أتيا و أنا هناك لجمع نماذج من الأدب القومي في ديار الكبابيش ، في إطار مشروع كبير في جامعة الخرطوم لجمع و توثيق الشعر القومي في البوادي السودانية. يا لها من أيام كانت !! و يا لها من ذكريات باقية في النفس و الذاكرة ، أثارها نشر مقطع جميل في الميديا لجزء من ذكريات الأستاذ حسن نجيلة، في بادية الكبابيش الجميلة ، التي أخشى أن يكون صراع العسكر و الجنجويد قد حولها إلى حُطام بمثل ما فعلوا في الخرطوم و غيرها من حواضر بلادنا العزيزة ، كما اتمنى ان يكون كتاب نجيلة الرائع متوافر في كل بيت ، و متدارس في كل الأوساط . فهو سجل أدبي رائع يستحق الإقتناء. بروفيسور مهدي أمين التوم 30 سبتمبر 2023 م
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة