١) ورثت الأفيال السودانية ظلمها عن جدودها أفيال أبرهة الذي أراد تحطيم الكعبة فأرسل الله لها طيرا أبابيل ترميهم بحجارة من سجيل فجعلهم كعصف مأكول. بينما وثق القرءان لأفيال أبرهة، وثقت دار الوثائق السودانية ظلم الأفيال بمثل يلمها النمل و يطاها الفيل. هذا المثل نجته طبيعته الشفاهية من حريق مخطوطات دار الوثائق القومية. لقد إطلع أطفال المدارس الأولية على أخبار الفيل الظالم الذي حطم بيوت النمل. لكنهم لم يتعرفوا على مرض داء الفيل الذي يثقل أرجل الظالمين بدعوات مظاليم النمل و البشر. لم يقتصر ظلم الأفيال على تحطيم بيوت النمل فحسب، بل ابتلعت كرش الفيل جسد عواد مجنون طيبة القرشي كما ازدردت آلاف المجانين. كسرت أرجل الفيل أجنحة طلعت الطيار فجنحته و جننته، سحبت خرطوم الفيل روح أبو سبح السباح و حبسته في زنازينها، سيرت مسار السيار إلى حتفه عبر مسارات ضيقة و ضيقت عليه حتى مات بالإختناق، و حددت حياة أبي حديد الدرَّاس بالسكة الحديد في خطين منوازيين لم يشأ أن يخرج عنهما طوال حياته. بيد أن روح عواد المطيبة بعود الصندل تعسر هضمها في كرش الفيل.
٢) عندما ابتلعت كرش الفيل جسد عواد و لفظته خرطوم الفيل لم تفح جثته برائحة الموت النتنة، بل فاحت دعواته بالنصر لكل المظاليم. قبل عروج روحه و عبق عبير خبر إستشهاده ملأت الأثير صوره التي بعث بها ضابط من قدامى المحاربين من منزله المعاشي بحي الضباط نهاية شارع الفيل.
٣)
كان عواد يعاود جنود الجيش في مواقعهم و يردد حِكَماً لا يدركها سوى أصحاب العقول الحرة و البصائر النيرة:- الحرب ضربٌ بلا رحمة و طرحٌ بلا قسمة، ستسقط كل القيم و علوم الحسبان و التفاضل و التكامل. ستُسقِطون سهواً أو لهواً بعضَ أسماءِ الله الحسنى و صفاته العليا.
٤)
رغب عواد عن الدنيا و جرى منها مبتعداً بعد أن أدرك حقيقتها الزائفة. عافاه الله من مرض التعلق بها فعافه الخوف و الحسد و الطمع. لكل هذا الزهد صار جنود السلطان يتسلون بأنسه، يتسللون لسلامه، يتسولون حال سلميته، و يتوسلون مقام وطنيته.
٥)
روعهم ذات ثورةٍ متوعداً:- ستلاحقكم دعوات المظلومين و تسقط طائراتكم الحربية قبل سقوط قنابلكم المدمرة. ستسقط عنكم كل مبادئ الرحمة و الإنسانية طالما سقط الذين كفروا بأسماء الرحمن و الرحيم و السلام و اللطيف و أسقطوها من قاموس أخلاقهم. توكل أحد جنود السلطان على الشيطان و أفرغ فيه كل فراغه الإنساني فاستفرغ عواد روحه ليموت فارغا.
٦)
طَلْعت عِزَّت الطيار لا يقل زهداً عن عواد عود الصندل، فأصوله الفرعونية أورثته مهنة جده النصراني طلعت الطيار الذي شارك في ضرب جزيرة الأنصار قبل خمسة قرون. أرغمه الأنصار على هبوط ناعم في قلعتهم المحصنة بذكر الله بعد أن لاحقوا طائرته الحربية بصاروخ روحاني. كان ذلك قبل أن يفكر أبناء العم سام في صناعة صاروخ سام المضاد للطيران. أسروه و أسرُّوا له بسر راتب الإمام الذي يعتبر سام الأول في الترتيب. فسَّروا له تقنيات آليته الروحانية فسُرَّ و تنكر لنصرانيته بعد أن أعرب عن أنصاريته. بلغوه الشهادة ثم زوجوه و ألزموه موقعه في مسجد الكون. طاردته أرواح مظاليمه حين تذكر ضحايا طيرانه من الأطفال و الأمهات فطار عقله و جن ثم سار كما سار مسار السيار. إنقضت أربعون أسبوعا على زواجه من أم نفل فأنجبت له عزت طلعت والد طلعت عزت طلعت الطيار.
٧)
مسار و توأم روحه مشار شركاء الماء و النار و الكلأ. مسار من المسيرية الزرق جذبه حنين الزرقة لمشار من دينكا أبيي. إجتمعا في مسارح السرحة بالأبقار و الأغنام و تعاهدا على الحب و الإخاء و الإحترام فصارا لا يتوهان عن بعض إلا دلتهما بوصلة الإخاء أينما شارت سارت الأقدام و الأبقار و الأغنام.
٨)
في رحلة الشتاء و الصيف الأخيرة هاجمتهما ضباع النهب المسلح في بحر العرب فعقرت مشار و عقلت مسار. تعلقت روح مسار بمشار فحل عقلته و علق السلاح على كتفه بعد أن ضاعت بوصلة الحب فجن و سار بلا هديِ حتى لقب بمسار السيار.
٩)
أما أبو حديد العطبراوي فقد كان عامل دريسة بسكك حديد السودان. بالرغم من راتبه الضعيف و عمله الشاق كان من العشاق لمهنته فارتبط وجدانه بصافرة القطار و أزيز الديزل و البخار و دقة زمن السواقين و النظار. شاءت الأقدار أن تأتي السنوات العجاف عليه بالساحق و الماحق حين انهارت مؤسسة سكك حديد السودان ففقد مهنته و امتُهِنت كرامته. جن أبو حديد فصار يصحو على صوت صافرة قطار يتخيلها فيقوم مسرعا لإستقبالها متوهما ناظر المحطة و كماسرة القطار و المسافرين. يودع طيفهم ثم يمشي خلف قطاره ينظف السكة من كل العوالق ليعود منهكا في الليل و ينام. كان أبو حديد يمشي لمسافات طويلة على قضيب السكة الحديدية فاختفى أثره و كثرت الأخبار و الشائعات عن مشاهدته في خط عطبرة بورتسودان. بعض أقاربه زعموا مشاهدته بين محطة سنار التقاطع و جبل موية و البعض لمحوه في خط نيالا بين الرهد و بابنوسة ثم قطار حلفا بين كريمة و حلفا. لكن الأرجح أنه صار أحد مجانين كرش الفيل التي تبتلع سليم العقل قبل المختل ثم تلفظ ضحايا تعذيبها دون أن تهضمهم. لقد هجر أبو حديد الدنيا و افترش الأرض تحت عربة قطار معطلة بمحطة خرطوم الفيل.
١٠)
ابوسبحة السباح صانع سبح و سباح مشهور بسبحة الزيتون المعلقة على رقبته و نجدته لغرقى النيل و إغاثة الملهوفين و الغرقانين في بحر الحقيقة. تلك المسبحة الزيتونية جلبت له الفقر لكنها زكت نفسه فأورثته الحكمة و علمته علم الكتاب. كان يعتقد جازما بأن السباحة على الظهر أجمل موضعا للتأمل و الحضور و أن الحضور عتبة في سلم العروج. أما السباحة ضد التيار فتلك مناعته ضد تقلب قلوب المسَيلَميين و المتسيسين و انقلابات العسكريين المتسوسين. سباحته ضد التيار لا يجاريها إلا طوافَه حول الكعبةِ الذي يدور فيه عكس عقارب الساعة ليعدل إتجاه الزمن المقلوب.
١١)
جن طلعت الطيار قبل أكثر من أربعين عاما ليس بزيادة الكلام لكن بالصمت و الإحترام. خرج من جزيرة الأنصار يسأل الناس عن مطارات صالحة للملاحة الجوية و السياحة الروحية رآها في الأحلام فوق صفحة النيل. كان يرفرف بجناحه المكسور فيجري بمحاذاة النيلين الأزرق و الأبيض إلى أن هبطت أحلامه ليلتقى بمسار السيار في مقرن النيلين.
١٢)
في نفس الوقت، سار مسار في كل الطرقات يحسب خطواته حتى أدمت قدميه الأسفار. عند مدخل خرطوم الفيل إلتقى بأبي حديد في محطة سكة حديد الباقير فسارا على القضيب حتى اجتمعا بعواد الذي كان هائما في متاهة كرش الفيل و قلبه دليل.
١٣)
قبل شروق الشمس من مغربها ببضع شهور، رأى الطيار أبا سبحة السباح يسبح في النيل فصاح فيه:- يا هذا لا تدنس النهر المقدس. هلا تطهرت و سبَّحت الله قبل أن تسبح؟ رد السباح:- بل حبست أنفاسي و حسبت ضربات قلبي حين غصت في مائه الآسن. الطيار:- و ما الذي حملك على ترك البر الآمن و الغوص في الماء الآسن؟ السباح:- السباحة عملي و العمل تسبيحي، فوالله تسبيحة واحدة بقلبي كفيلة بتحرير النهر من دنسه الكثير و تحلية مائه المرير بشراب الإكسير. ما جبرني على خوض مائه الآسن إلا الأمَرُّ، فغازات كرش الفيل النتنة تزكم الأنوف و رائحة خرطومه المتعفنة تقتل الألوف. صبرت عليها ثم بصرت حولي و حولها و لا حول ولا قوة إلا بالله، لم أر سوى نيران و دخان و ركام و حطام، فركبت الموجة بلا عودة. الطيار:- سألتك بالله أن تحلق معي في طلعتي الجوية القادمة لترى كرش الفيل دون أن تشتم رائحتها النتنة. السباح:- أما زالت هناك طلعات جوية بعد أن دُكت الحصون و القصور و القلاع؟ الطيار:- ما زالت القصور تُبنى لتُهدم، لكن القصور الأكبر أن تشك في الجنة و الحور و القصور، فهيا للجهاد. السباح:- ليس لي في الحور و لا في القصور، فأنا و الحمدلله في معية الله الغفور الشكور. لكني سأحلق معك فقط لأرى بأم عيني كيف يأكل الفيل الظالم أبناءه ثم يلفظهم في الشوارع قبل أن تهضمهم كرشه أو يلفظهم من خرطومه.
١٥) بينما الطيار و السباح يطيران في فضاء كرش الفيل شاهدا عواد يحكي لأبي حديد و مسار السيار بلغة الطير في محطة الباقير. حدثهما عن مزارعٍ و مصانعٍ إمتصتها خرطوم الفيل الظالم فبلعتها بالوعة بلعومه لتستقر في كرشه المتقرحة. عن أموال السحت التي تُسرق من حصالة عبور في شارع الموت و الدوام لله فتحيل حياة أسر السارقين لعيشة ضنكا، تمغص أحشاء أطفالهم بجرثومة النيل الصفراء و تحرق أجساد شيوخهم بحمى الضنك السوداء. أشار لهما لموقع معدة كرش الفيل في السوق المركزي و حكى لهم عن دودة شريطية تشبه دابة الأرض تكلم الناس كأنها من أشراط الساعة. رأسها في جنوب المدينة و ذيلها في شمالها. شاركتهم الديدان الحياة و اشترطت لبقائهم أن تشرط الجيوب بثقل الأدوية و غلاء الحبوب. لقد تعطلت كل الإنزيمات الهاضمة في كرش الفيل من صفراء كبدها التي تليفت، لمعدتها التي تقرحت، و بنكرياسها الذي عجز عن ضبط سكرياتها. جفت منابع إنزيم القاسترين الهاضم تماما كما جف التيالين في ريقها و الببسين و التربستين و حتى حامض الهايدروكلورايد الذي كان يطهرها، فتخمت كرش الفيل عاجزة عن هضم الجثث التي تحللت و كشفت عورة عجزها.
١٦)
حلقت طائرة الطيار حول سماء كرش الفيل فرأى السباح شبه مثلث كبد الفيل متورما بكثرة سُموم العاصمة. تمددت كاف الكبد في قصور كافوري و اضمحلت باؤه في عمارات بحري و تضخمت دالُه في شركات دالِه.
بنكرياس كرش الفيل سوق عماراتها الذي زادت حلوياته عن سيطرة إنزيماته فانفلت السكر و صدم الفيل و كسر عاجه. هناك في السوق العربي، إثنا عشر رهط يفسدون في الأرض برمي فضلات الطعام فيها، و أثنا عشرة عين ليست من سلالة عيون موسى، تتفجر منها مياه الصرف. أزقة أحيائها الضيقة أمعاؤها الدقيقة و شوارع عماراتها الواسعة إمعاؤها الغليظة.
١٦)
الغريب في الأمر أن كرش الفيل لها أكثر من عشرين زائدة دودية، فالقيادة العامة بمناطقها العسكرية المتفرقة زوائد دودية تزايدت بعد أن تركت مواقعها في الحدود لتزاحم المدنيين و تقتلهم بانفجارها أو تحجرها. زوائد دودية في الجامعات التجارية التي زاد عدد دكاترتها بلا علم و الكليات الخاصة التي تخرج خريجين بلا عمل. بل حتى المواطنون الذين تركوا ريفهم الأخضر و استقروا حول زيفها الأغبر زوائد دودية. إنتفخت تلك الزوائد الدودية و التهبت بعد إنسداد مستقيمها المتعرج بالتواء إمعائها الغليظة المتقيح بجراثيم القمامة تحت عماراتها المخططة.
١٧)
هكذا تمدد ظلم الأفيال من غابة الفيل في الشرق لغابة أم بارونا في الوسط و حديقة الحيوان و غابة السنط في خرطوم الفيل لينتهى بهدم و حرق غابات الأسمنت بكرش الفيل.
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة
عاصم الطيب قرشي
فيس بوك
تويتر
انستقرام
يوتيوب
بنتيريست