أشار الفريق عبد الوهاب إبراهيم سليمان في مؤلفه المشار إليه في العنوان إلى أن جدنا محمد يوسف الكردفاني كان قد أنشأ نادي التجديف، وقيل أن الحاكم الانجليزي أشاد به باعتباره متجاوزاً لزمانه في ذلك الوقت. وكذلك الدور الذي لعبه طلعت فريد في إنشاء اتحاد التنس السوداني. وأقول بأن الشعوب التي تفتقر للتراكمات الحضارية هي التي دمرت هذا البلد المدعو السودان وخاصة منها تلك التي مُنحت السيطرة على السلطة والثروة دون التأهيل (الثقافي) -وليس الأكاديمي فقط- اللازم للبناء على التراكمات عبر الحاضر استشرافاً للمستقبل. نحن اليوم نرتد إلى ذات الماضي. فمجموعة مِن مَن لا يملكون أي تراكمات حضارية يعودون لحكمنا من جديد. فالقضية ليست كما يظن البعض متعلقة بالتكنوقراط كمنهج إداري تخصصي، فخريجو الجامعات بالآلاف ومثلهم الحاصلين على الدكتوراه. لكنهم في الواقع يفتقرون للتراكم الحضاري اللازم لاستخلاق واستحداث المعطيات ثم تقييمها واستغلالها. وهذا ما هو غير متوفر. في نقاشي معه؛ يقول بروف يوسف محمد الكردفاني بأن مشكلة السودان نشأت كنتيجة لارتماء الاحزاب في أحضان الخارج وعدم نزولها إلى الواقع، وأنا أتفق معه في السبب المباشر وأضيف بأن ارتماء الأحزاب في الخارج ناتج عن افتقار الشعوب التي كونتها للتراكمات الحضارية التي تمنحها (ابستمولوجياً) مُكنة الوعي المجرد بالواقع والبناء عليه عبر الإبداع. لم تتمتع تلك الأحزاب بل ولا (كل) القوى السياسية (مدنية، عسكرية، دينية، علمانية) بالقدرة الأبداعية. والواقع اليوم هو تكرار لنتائج تلك الهشاشة المستقرة بسبب الانقطاعات التاريخية التي عانت منها هذه الرقعة الجغرافيا في قلب إفريقيا. يكفي أن تاريخها المتداول هو نفسه نتاج لمجهود الأجنبي. إن السودانيين لم يفكروا حتى في تدوين وتوثيق تاريخهم لأنهم مجتمعات كانت بدائية -وربما لا زالت- وبالتالي لم تعِ أهمية التوثيق. ليس نعوم شقير اللبناني وسلاطين باشا النمساوي وونجت البريطاني وإبراهيم فوزي باشا المصري وغيرهم من الأجانب فقط من أصحاب التراكمات الحضارية هم الذين انشغلوا بتدوين (ماضي هذه الرقعة البائسة) بل حتى أن المحاولات السودانية لم تكن سوى اجترار لتوثيقات الأجانب من الإنجليز وخصوصا تلك الثابتة بجامعة درم. حتى الآن يعاني السودان من ضعف التوثيق في كل أقاليمه، بل وهناك لغات اندثرت تماماً، ومعطيات فولكلورية انقرضت، وهذا في عصرنا هذا فكيف بالعصور قبل مائتي عام أو مائة عام؛ لذلك فمن اين ستتمكن تلك الأحزاب من ابتداع مفاهيم من رحم الداخل، لقد كان عليها دائماً ان تبحث عن التميز بتبني أفكار الخارج، إن المهدية نفسها لم تكن بدعة بقدر ما هي استجابة لمهديات خارجية سبقتها في دول أخرى فضلاً عن كونها فكرة عامة خارجية بذاتها. إن هذه الشعوب الواقعة داخل الرقعة الجغرافية التي اصطنعها الإنجليز شعوب بدائية، مهما امتلكت من مال. والأخطر انها تحيط تلك البدائية بقداسة خائفة ومذعورة من محاولة القفز في المجهول فتركن إلى ما بيدها وتورثه للأجيال اللاحقة. كان بإمكان الثورة الأخيرة أن تصنع تلك القفزة، غير أن القوى التقليدية كانت أقوى من الثورة، وبالتالي أعادتنا مرة أخرى للماضي البدائي. وحالت دون توريط مزاياها السلطوية في مغامرة البحث عن الذات عبر بناء الحاضر من أجل المستقبل. ليس من الصعب تأجيج عواطف الشعوب البدائية التي تفضي لتقديس بدائيتها، بل الصعب هو العكس. لقد سمعت قصة قائد بريطاني رأى هنديا يهين بقرة فنزل وضربه ثم شرب من بول البقرة المقدس، إنني أتصور صحة هذا المشهد الخبيث الذي لا شك يسعد كل من يقدس البقر، وهذا ما جعل هذه الشعوب في الرقعة السودانية تقدس فقرها الحضاري. لقد نادى الإسلاميون منذ اول يوم حكموا فيه بالمشروع الحضاري، لكن كيف لمن لا يملك مخزوناً حضارياً أن يقدم مشروعاً حضارياً (فاقد الشيء لا يعطيه)، لذلك منذ رفع ذلك الشعار وحتى سقوط الإسلاميين لم نعرف ما هو مشروعهم الحضاري، لقد تقلبوا ما بين الداعشية أحيانا والليبرالية كلما ضاق عليهم الخناق حتى تبددوا طرائق قددا. لقد كانوا يحلقون دائماً في سماء الأماني، وكذلك فعل الشيوعيون من قبلهم ومالبعثيون من بعدهم. وذلك هو الفرق بين الأماني او ما أسماه الصادق المهدي (الأشواق)، وبين التخطيط الإبداعي الواعي. ولا أعتقد بأن القوى الراهنة قد تخلصت من تلك البدائية الفقيرة. لقد أطلق النور حمد وصف العقل الرعوي، كوصف مزيف، فالعقل الذي حكم هذا البلد كان عقلاً زراعياً لا رعوياً. كان ريفياً وليس بدوياً، منكفئاً على رقعة أرض صغيرة لا في التجوال. لقد حكمنا الزراع وليس الرعويون. اليوم قد يحكمنا الرعويون، وهم أيضاً لن يحققوا الكثير من التطور، إذ المسألة لا تتعلق بالحرفة السائدة بقدر ما يتعلق بالتراكم الحضاري وهو مفتقد عند كليهما. إن السودان يحتاج لتعاليم تردم الفجوة الحضارية في الوعي الجمعي قبل التكنوقراط المفتقرين هم أنفسهم لذلك التراكم. لذلك فالتكنوقراط كلمة جميلة ولكن فحواها استعلائي مزيف.. وهو استعلاء ناتج بدوره عن الفقر الحضاري. (يتبع بحسب المزاج)
عناوين الاخبار بسودانيزاونلاينSudaneseOnline اليوم الموافق 05/06/2022
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة