كانت ملحمة بطولية بكل ما تعنيه العبارة، التحم فيها الشيب المكافح بالشباب المناضل فامتزجت فيها دماء كل الاجيال، فقدم الرجل السبعيني نفسه فداء لنصرة معركة الكرامة، وبذل فيها المراهقون الصغار الغالي والنفيس اجلالاً لقدر هذا الوطن المارد، فكان لقاءًا ثائراً ومثيراً بين جيل البطولات وجيل التضحيات، لقد ارعبت الشجاعة الباذخة لثوار نوفمبر بغاث طير الانقلابيين المعتلين لاسقف المنازل، الصائدين لرؤوس وقلوب بنات وابناء الوطن الجريح بطلق الجبن والعار الغادر، فلم تثني هذه العيارات النارية الغبية القاتلة ابطال معركة العزة والإباء عن طريق استرداد الدولة المختطفة، من قبل المنقلبين على الشرعية في ذلك الليل المظلم الكئيب، الرسالة الأولى التي وصلت لمسامع كل من شهد وقيعة جسارة السيول الهادرة من الرافضين لعودة عهد الظلام، هي أن هذه البلاد لم يولد بها من يقدر على تركيع شعبها، ولن يستطيع العملاء أن يمرروا اجندة مستعبديهم على ارضها، والرسالة الثانية تكمن في بروز الصلابة البائنة ورباطة الجأش التي تحلى بها حرّاس حياض الوطن، والقوة والارادة والتصميم والتمسك بالهدف المقدس، فمن بعد هذا اليوم المنصور سيعلم الانقلابيون على أي جنب سينقلبون. من سؤ حظ هؤلاء الانقلابيين أن السنتين اللتين اعقبتا اسقاط الدكتاتور، استنشق فيهما الشباب نسيم الحرية، ووعوا أن الخبز يأتي بالدرجة الثانية لهذه الحرية، فشاهدوا بثاً تلفزيونياً جميلاً غير متزمت ولا كهنوتي، وسمعوا لأول مرة عبر قناة بلدهم الأولى حواراً ديموقراطياً لايعتريه تشنج، ولا يقتحمه تهديد ووعيد ولا قطع للبث بتعليمات رجل أمن لا يعي قيمة هذا الحق الانساني الأصيل، في العامين الماضيين السابقين لجريمة الانقلاب رأى السودانيون رئيس حكومتهم يحتفى به في المحافل الدولية بعد انقطاع دام عقود من عهود الظلام الدامس، وبعد ليال ملبدات بغيوم سحب التعتيم والتجريم لهذا البلد العظيم، لقد عرف الشباب الفرق الكبير بين الماضي المظلم والحاضر المشرق، وعلموا أن حقبة الطاغوت كانت سنين عجاف من الكبت والقهر والارهاب والخوف والتوجس، ما أدى لبروز بطولات منقطعة النظير بالمليونيات التي اعقبت جريمة الانقلاب العسكري، خاصة مليونية السابع عشر من نوفمبر، هذه الملحمة الثورية التي جعلت الجبناء يرتجفون، فمن تذوق طعم الحياة الحرة البريئة المبرئة من عسف العسكر والخالية من ارهاب التكفيريين لن يرضى بغير ثورة التحرر والانعتاق. كما روى احدهم عن الشهيد محمود محمد طه أنه ومن داخل المعتقل، طلب من رفاق السجن من مشاهير رموز العمل السياسي آنذاك، بأن يستمسكوا جميعهم بالصمود في وجه الطاغوت المايوي، تماشياً مع الحكمة الصوفية القائلة بأن اثنين - الطاعون والطاغوت - لن يذهبا إلّا بذهاب رأس كبيرة في المجتمع، وكان الاستاذ محمود يعني أن يقدموا هم رقابهم فداءً للشعب من طغيان الدكتاتور الثاني، فجبن الرفاق ومنهم من تخاذل ولعق حذاء الطاغية ولاحقاً برر ذلك بأنه ضرب من فنون لعبة البولتيكا، وارتكز الاستاذ ومد عنقه ليفدي بني وطنه ويرحمهم من قهر الطغيان، وقد كان، لقد تم اقتلاع الطاغية النميري بعد أقل من شهرين من استشهاد الاستاذ، وكما درج الناس ببلادنا على تقديم الذبائح قرباناً للرب وخلاصاً من الكرب، يجب أن يؤمن الثوار بأن الدماء الطاهرة الذكية التي لوّنت طرقات المدن السودانية لن تروح هدراً، بل هي قرابين من أجل اجتثاث الظلم وارسال الطغاة للمقاصل والقبور، وأن هذه الارواح الصاعدة الى بارئها في تؤدة وطمأنينة هي الكرامة الوحيدة المؤدية لاستقرار ورفاه الشعب. الملحمة النوفمبرية العزيزة وضعت الجميع امام المحجة البيضاء التي لا يمكن ان يحيد عنها ثائر، وبها تخطت الثورة السودانية المجيدة محطات التشكيك والتخزيل والنكران، الى حقيقة وجوب الاستجابة لداع الوطن، ثم الاختيار ما بين الوصول الى العلياء وتخير المجد بخوض معارك تحديات العبور الملغوم بالاشواك وتخطي شائك الاسلاك، واما البقاء في سفح هرم الوطن الذي يعتلي قمته الانقلابيون، وهو ثامن مستحيلات وعجائب هذا الزمان، وهذا الدرب الدال على الخروج الكامل من نفق الانقلاب هو الرضوخ لرغبة هذه الجماهير الكافرة بحكم العسكر، وهذا الدرب لم يتحدد كخيار اوحد للمقهورين الا بعد أن جرّب هؤلاء المقهورون هذا المجرّب خمسون عاما حسوما، فاستخلصوا هذه الخلاصة التراكمية الواعية والمدركة لعدم جدوى استنساخ عبود والنميري والبشير مرة ثانية.
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة