بعد إلحاحٍ وإصرارٍ شديدَين، رضختُ هذه المرة مُلبّياً دعوة صديقي الوحيد، لأرافقه بعد رنين جرس نهاية اليوم الدراسي إلى منزلهم المتواضع الذي لا يختلف كثيراً عن بيتنا الواقع في الجانب الآخر من الحي في ذات القرية التي تتوسط كثباناً من الرمال وسط غابة من أشجار "المرخ" و"الهبيل". استقبلتنا والدتُه الأربعينية بابتسامة مشرقة، وحيّتني بحرارة بعد أن قدمني إليها أبنُها، وتعرّفت على أسرتي فور سماع إسم والدي.. لعله قد كان من المشاهير.. لست أدري. كانت تحدثنا بصوتها العذب عن مواضيع مختلفة أثناء تناولنا وجبة الغداء اللذيذ، بينما كانت تعجن طينا لصنع آنية فخارية، اشتهرت بها وسط أهالي القرية وحتى المدينة التي تبعد عشرات الكيلومترات، بل لا يكاد يخلو بيت من بيوت المدينة من منتجاتها... فهي تصنع آلات الأفراح والحرب والسلام و(أزيِرة) لحفظ وتبريد مياه الشرب، و تعتمد على صناعتها في إعالة أسرتها التي تتكون من صديقي وثلاث بنات جميلات، يكبرنه بسنوات متفاوتة، بعد وفاة زوجها الذي كان يعمل في صناعة الآلات الزراعية البدائية، إثر مشاجرة غير متكافئة مع أحد زبائنه الذي تجرأ على الامتناع عن دفع ثمن صناعة (الطورية)، فدخل معه في عراك إنتهى بضرب الزبون بالمطرقة التى كان يحملها أثناء العراك ، فخرّ الخصمُ مغشيا عليه ، وعندما حاول الهرب لتسليم نفسه إلى الشرطة؛ عاجله بعض الحضور بعدة طعنات أردته قتيلاً مضرجا في دماءه وسط سوق المدينة! هكذا حدثتني والدةُ صديقي قبل أن تنخرط في موجة بكاء مريرة اضطرّتها للتخلي عن ما في يدها من أطيان، مستسلمة للنحيب. فاقترحتُ على صديقي بأن نتولى تكملة ما تركَتْه والدته من عمل، سيما وأن للطين مراحل متعددة من عجن وتخمير وتجفيف قبل أن يُعرض لحرارة الشمس، فيُدفن ويحرق وما إلى ذلك .. مما يعني أن أي تأخير فيه سيكلف أم صديقي البدء من الصفر ، فاستجاب صديقي باستغراب لم أفهم كنهه في تلك اللحظات وحتى الآن... لم تمر علينا في العمل سوى بضع دقائق، حتى أطلّ علينا من فوق الحائط القصير أحدُ السكارى المتطفلين الذين عادة ما يقطعون المسافات الطويلة على ظهور حميرهم والجِمال للوصول الى بيوت الشراب التي تقع مجاورة لمنزل أسرة صديقي.. لكنني لم أكترث لنظراته الطويلة، بيد أنه قد أوقف ناقته التي أخذتت تلتهم من نبتة (الشحلوب) الملتفّة حول جزء من السور الشوكي للمنزل، واستطرد يحدّق فينا مليًا حتى نبّهني صديقي قائلاً : أنظر، لماذا يحدق فينا هذا الرجل هكذا ؟ رفعتُ رأسي ملتفتاً نحوه مرة أخرى، فالتقت عيني بعينيه المُحمرّتين. اعرفُ هاتين العينين جيداً.. نعم أعرفهما، وأعرف الناقة التي يمتطيها.. بل احفظُ حتى عدد السيور الجلدية التي تتكون منها رسن هذه الناقة.. ولكم تذوقتُ من لسان ذاك السوط الذي يتدلى إلي جانب عنق الناقة نازلاً يتراقص طرباً نحو الأرض.. -إنه خالي! -خالُك؟ -قم.. قم فاختبئ حتى لا يتعرّف عليك ! -ماذا ؟ هل جُننت ؟ كيف أختبئ من خالي وأنا أعرف جيداً بأنه لا يؤذيني، بل سيدافع عني حتى الرمق الأخير إذا استدعى الأمر ذلك؟ ألحّ عليّ صديقي قائلاً : اختبئ داخل الغرفة، تحت السرير، أو اهرب خلف الكوخ و اختبئ داخل قنّ الدجاج حتى لا يراك. لا زلتُ غير مدرك لما يرمي إليه صديقي، إلى أن تدخلت والدتُه التي كانت في المطبخ... ثم خرجت لتتفاجأ بوقوف ذلك الرجل الغامض الغاضب خلف السور ممتطيا تلك الناقة الحمراء ذا الوبر الكثيف.. لكنه ما إن رآها حتى غمز ناقته برجله وغادر المكان.
قالت لي بصوتٍ مرتعش : "حان وقتُ العودة إلي البيت يا صغيري". قاطعتُها : "لكننا لم ننتهي من عملنا بعد ولم يتبقى إلا القليل". قالت بنبرة حادة: "لا بد أن تذهب فوراً قبل أن تحترق دارنا بما فيها ومن فيها" . حسبتُها في بادئ الأمر تمازحني، لكن علامات القلق التي أخذت ترتسم على وجه صديقي بدأت تقلقني.. فسألته بكل براءة: ماذا يجري ؟ أجابتني أمه بأن :« ثمة أشياء لا يمكن البوح بها على الصغار.. لكن بما أنك مُصر علي معرفة ما يجري فلا بأس سأخبرك.. شريطة أن تذهب حالاً ، ولا تخبر أحداً بما سأخبرك ». أومأتُ لها برأسي موافقا. فقالت : «يا ولدي.. لعلك قد تظنني أمزح أو أنسج قصصاً من بنات خيالاتي.. لكن أسمعني جيداً، فما أقوله لك هو حقيقة لا مزاح فيها..» ثم استطردت تحكي بينما أعطيناها وصديقي أذنينا الصاغيتين بانصات. قالت :« نحن مجتمع بلا هويه..بلا حرية.. بلا حقوق ..بلا قبيلة.. بلا حلم... » لم أفهم شيئا مما قالت فسألتها : كيف ذلك ؟ فقالت : « كما سمعت يا ولدي، نحن لا زلنا نعيش أوصياء على هوى أسيادٍ مزعومين منذ القدم.. ينتسب كلٌّ منّا إلى عشيرة أسياده الافتراضيين، فيدين بديانتهم، ويُعادي من يعاديهم ويناصر من يناصرهم.. لا حقوق لنا إذا طلبنا، ولا نصير إذا ظُلمنا، لا حرية لنا في اختيار قبيلة غير التي ينتسب إليها اسيادنا..رغم أنهم لا يؤاكلوننا في قصعة واحدة ، ولا يزاوجوننا .. و لا يراقصوننا في الأفراح....". ثم صمتت قليلا، و لم تحرك نظرتها الغاضبة الثابتة نحو الأرض، واستطردت قائلة بعد شهقة عميقة: "لا يصادقوننا.. بل يضربون أبناءهم إذا ما حاولوا بناء أي نوع من أنواع الصداقات مع أبناءنا.. وهو ما يجعلني قلق عليك عند العودة إلي البيت .. خصوصاً بعد أن أبصرك هذا الرجل في بيتنا.....» صمتَتْ قليلاً تحاول التقاط أنفاسها ، فانتهزتُ الفرصة لأسألها : "إذا كان الأمر كما ذكرتين، فلِمَ لا يتمرد الرجالُ على هذا الوضع طالما أن هنالك ظلم؟" أجابتني بابتسامة ساخرة : "الجميع يناضل من أجل الحصول على حريته، بينما رجالُنا يناضلون من أجل الحصول على رضا الاسياد، معتقدين أن لا حياة إلا تحت جلباب السيد الوريث... فنحن ما زلنا موالي وخدم، رغم إبطال قوانين الرق منذ أكثر من قرن، لكن بكل أسف يا إبني لا نزال نحن في قبضة كلابيش العبودية الصامتة.. لا حلم لنا سوى ابتغاء رضا الاسياد الذين ورثوننا أباً عن جد.. وهو ما جعل زوجي يدفع حياته ثمناً لمحاولته الخروج عن المألوف، عندما طلب من أحد الاسياد دفع ثمن أجرته قبل سبع سنوات، ولم يتحرك أحدْ لمسائلة الجناة الطلقاء حتى اليوم ".
خرجتُ تحت هجير الشمس، واضعاً الحقيبةَ المدرسية فوق رأسي، أتخبّطُ في السير عائداً الى منزلنا بعد أن غسلتُ يدي بماء الابريق الجاثي عند باب "قُطية" صديقي.. لكنني لم أعد إلى البيت لوحدي ، إذ اصطحبتني حزمةٌ من الأسئلة الساخنة تداعب مخيلتي كسحلية تسلّلت إلى شرايين دماغي الدقيقة.. يا إلهي ! هل في هذا الكون أوحش من بني البشر ؟ لماذا يصر الإنسان على استعباد بني جنسه ؟ لماذا لا توجد هذه الصفة بالذات وسط الكلاب، والخنازير، و الخيول والجراد، والقمل، والبعوض، والنمل، التي تفتقد إلى العقل الذي نحظى به نحن بنو البشر ؟ أم هل يعني ذلك أنها أعقل مِنّا !؟
النهاية.
سبتمبر 2021 صحيفة أقلام متحدة العدد 31
عناوين الاخبار بسودانيزاونلاين SudaneseOnline اليوم الموافق 30/9/2021
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة