الزيت والماء لا يمكن ان يجتمعا، وكذلك العسكر والمدنيون من الاستحالة بمكان أن يعقدا حلفاً صادقاً يفضي الى تحقيق وانجاز الأهداف المشتركة، اختلف المدنيون الشيوعيون مع حارسهم وفارسهم الذي انشدوا امامه الاناشيد الممجدة والداعمة والمساندة له كقائد لتلك الثورة البوليتارية المزعومة، لكن لم يمض عامان حتى دبّر العقل المدبر عبد الخالق ورفاقه انقلابهم على الرأس العسكري الممسك بمقود الحكومة والدولة، ذات الأمر فعله عرّاب الحزب الاسلاموي الشهير دون أن يتعظ بالفعلة الشنيعة التي فعلها النميري بحق عبد الخالق وزمرته، فانقلب عليه الجنرال الراقص ووضعه في السجن، وها نحن اليوم نشهد تكرار السيناريويين الماضيين في بلاهة بائنة من قبل المدنيين الذين لم يعوا الدرسين السابقين، الدرسان اللذان لقنهما جنرالات الجيش لاعظم مفكرين سياسيين مدنيين على مر العصر الحديث للدولة السودانية - عبد الخالق والترابي، حتى اجاب الاخير على سؤال طرحته عليه احدى مذيعات قنوات التلفزة الاخبارية، حول احتمالية تكراره للاستعانة بالجيش في الوصول للكرسي إن قدر له ذلك، فكان رده الساخر الضاحك كعادته:( لوجاءتني جيوش الدنيا بغضها وغضيضها لما فعلت ذلك). لم يكن أي عاقل يتوقع نتيجة غير التي بين ظهرانينا هذه الأيام، بعد أن اتفق الطرفان على الشراكة المستحيلة وغير الممكنة التي جرت احداثها خلال العامين الماضيين، فالتربية العسكرية تختلف اختلافاً جذرياً عن التربية المدنية والاكاديمية، وهنالك حقد مدفون بين المدني والعسكري منذ دخول كليهما معسكره التدريبي او اكاديميته التعليمية والتربوية، احدهما يُلقّن بأن الآخر لا يسوى الحذاء الذي يرتديه الأول، والآخر يطوف بفصول كتاب الأدب الانجليزي للروائي برنارد شو (الرجل والسلاح)، ليعلم أن الأول موصوف لدى الصفوة المفكرة والمثقفة بأنه رجل الواوات الثلاث (واوات اللغة الانجليزية)، وبعضهم اضاف الى الوصف واو رابعة، هكذا هي منطلقات كل طرف تجاه الطرف الآخر، العامل التربوي والتدريبي والنفسي هو الحاسم في نظرة العسكري تجاه المدني، والعلائق بين زملاء المدرسة الواحدة من هاتين المدرستين قوية متينة لا تتزحزح اركان نشأتها الأولى، وقيل أنه قد نشب خلاف بين ذلكم (المدني) النائب الأول للبشير حينها، وبين العسكري وزير شئون الرئاسة الذي اصبح نائباً أولاً للدكتاتور لاحقاً، فاخذت النائب الأول المدني العزة بالسلطان فنبست شفتاه بمفردة ندم عليها اشد الندم فيما بعد، حين أسر لبعض المقربين منه غير الموثوق فيهم وقال:(دا كلام عساكر ساي)، فما كان من العسكري وزير شئون رئاسة القصر المعلوم عنه ولاءه المطلق للدكتاتور أن قال:(بعد اليوم ما يمشي الا كلام العساكر). العسكر لا أمان لهم، قد غدروا بالديمقراطية ثلاث مرات، ولم يهتموا سوى لبهرجهم الشخصي ونياشينهم البرّاقة على الكتوف، والعالم ببلدانه العديدة من حولنا لم يشهد تهضة صناعية ولا تنموية قادها جنرال في الجيش، كل البلدان الصناعية الكبرى رأس حكوماتها التنفيذية مدنيون علماء في مجالاتهم التخصصية، ماليزيا وسنغافورة ورواندا والامارات العربية وكوريا الجنوبية..... الخ، فحتماً سوف يخيب فأل وظن من يريد أن يتغطى بزي العسكر الأخضر حتى وإن كان رئيس الوزراء ذات نفسه، فالدلائل بائنة والنهايات التي وصلوا إليها بعد أن آلت اليهم الأمور واضحة، وكفانا حجة وعبرة هذه الثلاثة عقود من التدهور المريع التي تسيّد فيها المشهد (مرتدو الكاكي)، لقد شهدت عهودهم في البلدان المجاورة زخماً من دخان نيران الحروب الأهلية المصطنعة ولهباً من حرائق البيوت المقطونة بمواطنيهم، ولن يحصد المتواطئون معهم ممن لهثت السنتهم باتجاه بريق السلطة شيئاً مما منّوا به النفس، فالتاريخ يعيد الدروس ويكررها دائماً لمن لا يريدون أن يروا ضوء الشمس من رمد المكابرة. الحكومة والدولة المدنية هما المقصدان المنشودان اللذان اريقت في جنبات طريقهما دماء الشباب والشيوخ والنساء والاطفال شرقاً وغرباً وشمالاً وجنوباً ووسطاً، ولا بديل للدولة المدنية إلّا الدولة المدنية، وإن طال السفر واحتدمت معارك النضال السلمي الذي اطاح بأعتى الدكتاتوريات الافريقية والشرق اوسطية، والفيصل في هذا الرهان هو وعي الشعوب وضرورات حراك عجلة الحياة الكونية، فما ينطبق على بلادنا هو نفس الاستحقاق الذي ناضلت من أجل تحقيقه شعوب القارة والقارات المجاورة، والامتياز التاريخي في الوصاية على الشعوب السودانية الذي حاز عليه بعض من ضباط القوات المسلحة (المُسيّسون)، قد أفل نجمه وبانت سواعد الشباب المشرئب نحو التقاط القفاز بيده الحديدية التي ارغمت أنف الدكتاتور، وفي آخر مطاف المحاولات اليائسة لخلط الزيت بالماء، سوف تخضع المؤسسات الأمنية المنوط بها حماية المجتمع والدفاع عنه وتأمين حدوده و منشآته لارادة الحكم المدني.
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة