المدينية لا تكتسب بين عشية وضحاها، المدينية سلوك يتوارث مجتمعياً، وهذا الشعب يحتاج لاكتساب الكثر من مفاهيم المدينية، والتخلي عن الكثير من الهمجية التي تكتنف كل سلوكه الذي ينم عن انانية يحيطها الجهل. لقد قضيت قرابة ساعة لكي أتمكن من عبور الشوارع المستفة بمياه الامطار، وهي مياه تلوثت بالتراب وبالغائط والبول وكل ما يمكن تصوره من عفن، والغريب أن هذه المياه تحيط بها المنازل العالية، حيث لا يكلف صاحب المنزل نفسه جهداً يسيراً لردم ما يلي منزله من شارع ولو برمال خشنة أو حصى. فهؤلاء مهما اغتنوا تظل ثقافة القرى ماثلة في تصوراتهم، فبائع أنكسة النسوان او تاجر الدولار او المسؤول الفاسد أو غيرهم ممن يغتنون فجأة وعقولهم خاوية من التحضر، يعتقدون ان ركوب السيارات الفاخرة تمنحهم قيمة، وهذا ديدن الشعوب القروية والبدوية، فالمال بلا علم يورث الهمجية، والعلم بلا مال تنطع. وقد اجتمع عند الاعراب المال بالجهل، فاورثهم سلوكيات غير مهذبة. ذلك أن ملخص المدينية هو معرفة الأصول في كل شيء وخاصة أصول التعامل مع الآخرين. فالمدينية معرفةل: كيف تفعل ومتى تفعل وماذا تفعل على نحو يُراعي فعلك فيه حقوق الآخرين قبل حقوقك. لو راقبنا الشوارع الممتلئة بالماء لرأينا تلك الهمجية مجسدة في سلوك المشاة والراكبين. ففي وسط الشارع يوقف أحد هؤلاء الجلابة سيارته، معطلاً الطريقة، وفي الأيام العادية شاعت بينهم حركة الدخول "ببوز السيارة" وهم يحسبون أنهم بهذا اذكياء، وأساساً الذي يندفع ببوز السيارة "ليسرق الشارع" إنما يفعل ذلك لأن القادم في الشارع ما أن يرى سيارة أخرى حتى يندفع ليمنعها من العبور. بالله عليكم أي عقل بائس هذا وأي روح بليدة تلك. ومن مجامع التخلف؛ انه إن انقطعت الكهرباء وتعطلت إشارات المرور، تكدسوا في مكان واحد، وكل سائق يغلق سبيل الآخر فيبقوا لساعات متعطلين ببلادتهم، ولو انهم راقبو الطيور لشاهدوها تخرج أسراباً من كوة صغيرة، ولكن هل يملكون روح الطير الجماعية وقلوب الطيور النظيفة ليتمكنوا من معالجة مشكلة بسيطة وهي تنظيم حركة سيرهم بالسيارات في الشوارع الواسعة؟ يطالب الشعب بحكم مدني، ولكنه هو نفسه لا يتمتع بخصائص المدينية، والتي تكتسب عبر قرون من التحضر، ووضع المرء حق الآخر قبل حقه. وهذا مفقود. إن سلوكهم واحد، سواء في الطرق أو في صف العيش أو حتى في الطائرة. ولا أريد أن أضرب أمثالاً لأن ذلك يكمه نفسي ويصيبها بالكآبة. ولكن هذا الشعب يحتاج لأن يتم وضع منهج شعبي له، عبارة عن تعاليم للسلوك المديني قبل المطالبة بحكم مدني. فكيف ستستمر المدنية مع شعب لا مديني. مستحيل.
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة