من الطبيعي أن تُسيطِّر الأحلام الوردية على (خيالات) الذين كانوا طيلة حياتهم يتمنَّون ويترقَّبون سقوط الإنقاذ البائدة وعودة عهد الحريات والسلام والعدالة ودولة المؤسسات ، ومن الطبيعي أيضاً أن يُسيطر الإحباط عليهم بعد إنتصار ثورة ديسمبر المجيدة إذا كانوا من الذين لا يُحسنون (تقدير) حجم الخسائر التي وقع فيها الوطن وإنسانهُ المنهك بالظلم الجور والعدوان طيلة ثلاثون عاماً من النهب والتخريب والخبل السياسي ، صحيح أن أغلبهم لم يكٌن يتوقَّع أن تزدهر الحياة وتينع ثمارها بعد يوم أو يومين من تولي الحكومة الإنتقالية مهامها ، لكن ما لم يخطر على بالهم أن تستغرق مسيرة الإصلاح وإعادة البناء سنوات عدة ، من وجهة نظري الشخصية أنها لن تكون مُجدية بأية حالٍ من الأحوال إذا قلَّت عن العشر أعوام ، حتى تطمئن القلوب على قُدرة الحزب أو الأحزاب الفائزة في الإنتخابات المُرتقبة على إدارة بلاد فيها قدر (معقول) من المؤسسية والشفافية والموارد الإستراتيجية القابلة للتطوير والإنماء والقادرة على حماية البلاد والعباد من الأطماع الإقليمية والدولية التي لم يشجعها للتدخُّل في بلادنا سوى إتساع رقعة الفقر والجهل وغياب البنيات التحتية اللازمة لإنطلاق التنمية المُستدامة.
في علم النفس هناك أنواع عُدة من (الفوبيات) أو الإضطرابات النفسية المُتعلِّقة بما يُعرف بـ (الخوف الرُهابي) ، ومن ضمن هذه الفوبيات التي تُعُد مرضاً نفسياُ مُشخَّصاً ولهُ الكثير من العلاجات ، ما يعرف بفوبيا (إحباط ما بعد تحقيق الأهداف) ، فالمبالغة في تصوٌّر أشكال ومضامين لما يمكن أن يحدث من (تغييرات سعيدة) بعد الحصول على (الأماني) ، يقودُ إلى حدوث حالة من الإحباط المودي إلى الإكتئاب ، والتي على ما يبدو الآن أنها أصبحت حالة مرضية (جماعية) أصابت كل الذين يقعون تحت نفس الظروف والملابسات ويُعانون من ذات (الخيالات) المُسرفة في التفاؤل ، هذا النوع من الفوبيات تم تشخيصهُ عبر حالات فردية كثيرة ، من ضمنها ما يُعرف (بفوبيا إحباط ما بعد الرجيم) ، فكثيرٌ من المرضى الذي كانوا يعانون السِمنة وزيادة الوزن عندما إلتزموا نظاماً غذائياً صحياً ومارسوا الرياضة بعزيمةٍ وصبر حتى حققوا أمانيهم ووصلوا إلى وزنهم المثالي ، أُصيب بعضهم بإكتئاب إحباط ما بعد الرجيم ، لأنهم كانوا قد (بالغوا) عبر تصوُّراتهم في (تخيُّل) أشكال ومضامين (غير واقعية) للسعادة المُتحصَّلة ولحجم التغييرات الإيجابية التي ستحدث في حياتهم حال حصولهم على ما يتمنَّون ، غيرأنهم تفاجأوا بأن تلك السعادة كانت أقل من تصوُّراتهم بكثير ، فإصيبوا بفوبيا إحباط ما بعد ارجيم ، فإمتنع بعضهم عن تناول الطعام حتى أُدخلوا المشافي وأطلق بعضهم العنان لشهيتهم نحو الطعام فعادوا إلى ما كانوا عليه من سِمنة وأسوأ.
علينا أن نقي أنفسنا من فوبيا إحباط ما بعد الثورة ، بتناول المزيد من جرعات (واقعية التعامل مع الأحداث) ، وأن نؤمن بأن اليوم بلا شك أفضل من الأمس ، وأن غداً أكثر إشراقاً وعطاءاً وأملاً ، فكل الشعوب التي أعادت بناء بلدانها بعد الحرب العالمية الثانية مثل ألمانيا ، ما من شواهد في مسيرتها التنموية ما يدل على توقُّفهم للنظر إلى (الخلف) أو إلى الجزء الفارغ من الكوب بالنظر إلى حجم التحديات التي كانت تحيط بمسيرة نضالهم ومثابرتهم من أجل إعادة بناء دولة لم تُخلِّف فيها الحرب شيئاً سوى الرماد والأنقاض والجثث المُكدَّسة في الشوارع.
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة