كانت جدتي حرم السني أوّل امرأة تولت سودنة الوظائف النسوية بعد الاستقلال، ولكن لأنها كانت -كحالنا جميعاَ- مستقلة ولا تنتمي لأي حزب، لم تنل إدنى اهتمام، رغم أنها سبقت فاطمة ابراهيم في العلم والعمل، إذ كانت حاصلة على الماجستير من بريطانيا وتتحدث العربية والإنجليزية والفرنسية بطلاقة. ولو كانت شيوعية للعلع باسمها الشيوعيون كما يفعلون دائماً. حكت جدتي كلاماً غريباً، وقالت بأنها أثناء سودنة مهنة التمريض، قالت لها المرأة البريطانية بأن تحصر العمل في هذه المهنة على النسوة الشماليات، حتى لا يستنكف الناس العمل فيها. يعني باختصار وبدون مواربة، ترى الخواجية أن مهنة التمريض لا يجب أن يعمل بها الزنجيات أو ما يطلق عليهم الشماليون (الخدم). غير أن جدتي لم تكترث بكلام الخواجية، واليوم مهنة التمريض لا تقبل العربيات العمل بها، والسبب معروف. والاستعمار البريطاني هو من أدخل في رؤوس الشماليين هذه الوهمة باعتبارهم جنوده في الداخل، وبدأها بالمناطق المقفولة، في الجنوب شاملاً جبال النوبة ومناطق من كردفان. ظل الشماليون عملاء لمن يحميهم بدءً من الاستعمار التركي ثم الإنجليزي وانتهاءً ببعثة حمدوك. وغالباً ما يوفر لهم الاستعمار حرية الحركة، ولذلك فكل ثورة لا بد أن تبدأ من الغرب، حتى المهدي الدنقلاوي لجأ إلى الغرب، ثم الترابي البديري الدهمشي لجأ إلى الغرب، والبديرية امتداد شمالي معروف. لأن الشماليين يحبذون التماهي مع القوة المهيمنة لا المقاومة، لذلك يكونون دائماً مع الاحتلال وقد يعملون كجند له، مثل ما حدث من الشوايقة الذين تحولوا إلى سناجك في الجيش التركي. منذ أول مشهد من مسرحية تجمع الوهميين (الموجه إماراتياً) علمت أن التوجه القادم هو توجه نحو الشمال، لقد كان هناك اهتمام باللون والشكل في كل الدعاية لهذا التجمع الوهمي، وقد بدأ بالأصم، الذي خرج في يوم واحد، كأحد قيادات التجمع، ثم تم الإعلان عن اعتقاله واختفى بعدها حتى سقوط النظام ليخرج لنا كبطل..(صناعة اليوم الواحد تماما كحمدوك). وقال أحد المسؤولين الإماراتيين بعدها بأن السودان يتجه نحو (العصرنة)، ولذلك سنجد أن كل فيديوهات التجمع والفيديوهات الخاصة بحمدوك تتجه نحو أمرين: (شكل من سيمثل في الفيديو + الخلفية البرجوازية في الإخراج). سنجد مثلاً (طفلة تنزل من سيارة فارهة وتلتقي بحمدوك)، (فتاة سمراء جميلة (هجين شمالي اوروبي) بلسان (يخلط اللهجة السودانين بشوية عوجة اوروبية) لفتاة تتحدث عن نجاحات حمدوك، (الأصم في فيديو عشر ثواني وهو يجيب على سؤال بالإنجليزي)، ..الخ. لقد تم الابتعاد تماماً عن أي شكل مقشف أو قبيح وبائس يعبر عن حقيقة غالبية الشعب الذي يعاني من الفقر والجوع والمرض منذ الاستقلال وحتى اليوم. وهذا هو توجه الإمارات نفسها (العصرنة). لا تعني العصرنة (التطور)، بل تعني (ملاحقة الموضة)، فالإماراتيون لم يتطوروا فكرياً لكنهم يلاحقون سطح الحداثة، ويضيعون مليارات الدولارات في الوهم المسمى بالعصرنة. لكننا دولة لا تملك المليارات لتلاحق العصرنة بل نحن في أمس الحاجة لدولار واحد يجعل سعر الجنيه يرتفع بنسبة هامشية. ونحن فوق هذا لسنا دولة صغيرة كالإمارات، بل دولة ضخمة المساحة، ولن يكفينا شراء نسخة مزيفة من متحف اللوفر لنعتبر أنفسنا عصريين. فالعصرنة ليست سوى تفاهة عقلية، لم تكن هي التي صنعت أوروبا، بل ما صنع أوروبا حقاً هو (سرقة الاختراعات الصينية ونسبتها إلى نفسها) والصراع الدموي بين البرجوازية والارستقراطية. أي أن القشور التي تحصل عليها الإمارات اليوم تخلقت من عمق المعاناة الأوروبية حينما كانت رائحة أوروبا لا تطاق. ولذلك فهي اصيلة وليست زائفة. التوجه نحو البعث هو اتفاق بريطاني إماراتي لخلق موديل اجتماعسياسي sociopolitical معين، يؤسس للتقنين المناطق المقفولة من جديد. ولذلك فالبرهان -البعثي القديم- يمثل دور السيد الذي يحمل (الكرباج). هذا كله وهم في وهم، لأن واقعنا أكثر تعقيداً من هذا التصور السطحي والساذج. اللهم إلا إن كانت هناك رغبة حقيقية في تقسيم السودان، وحتى في هذه الحالة ستكون هناك قضايا شائكة جداً وأسئلة صعبة يجب الإجابة عليها أولاً. ليست المسألة بالنسبة لي تتعلق بإسقاط العروبة من المعادلة، ولكن بأسقاط ذلك البرنامج الأوروبي الإماراتي، كضرورة لوضع خطط نابعة من الواقع لإعادة تنظيم الدولة برمتها ببرنامج قومي حقيقي وليس عبر محاصصات تافهة وفيديوهات قحط المزيفة.
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة
أمل الكردفاني
فيس بوك
تويتر
انستقرام
يوتيوب
بنتيريست