إن جهل العوام ممرض لنفس من يلاحظه، وخاصة حين يستخدمه السياسيون لتجييش مشاعر هؤلاء العوام. فلا أكاذيب لجنة التفكيك ولا أكاذيب القحاطة، كافية بالنسبة لهم اذ يزيدون في تجهيل العوام. وليس أكثر جهلاً من أن تجد قاض (سابقاً) يرجو من حكومة قحط الرجاءات، فيدبج مزيداً من الأكاذيب، باستغلال لغة القانون، ليحسبه الناس من القانون وما هو إلا كاشف عن جهالة صاحبه او تجهيل العوام عن قصد. سواء محاكمة البشير أو حتى محاكمة نشال في سوق المواسير، فالضوابط واحدة. والمبادئ ثابتة، فالمحاكمة لكي تكون (شرعية) يجب أن تتوفر فيها عناصر محددة، تبدأ من اكتمال هيئة المحكمة، واكتمال هيئة الدفاع، واستصحاب المبادئ العدلية والتي أضحت محمية بالدساتير؛ بدءً من أصل البراءة (المتهم بريئ حتى تبثت إدانته) وما يتفرع عن هذا المبدأ من ضوابط معاملة المتهم المعاملة التي لا تحط من كرامته باعتبار أن تقييد حريته ينتقص من أصل براءته، وتوفير محامين للدفاع عنه، وتمكينه من تقديم دفاعاته ودفوعه التي يراها محققة لمصلحته، وعدم تعارض مصالحه مع مصالح محاميه، كما يمكنه ذلك من رد القاضي إذا تبين عدم حيدة القاضي ونزاهته، وانتهاءً بمنحه حقوقه في الطعن في قرارات المحكمة التي يجوز له الطعن فيها، والطعن في أحكامها داخل القيد الزمني. لذلك من الغثيث جداً، ان يخرج لنا محامٍ أو قاضٍ سابق ويخاطب الجماهير بشكل عاطفي طاعنا في ما يسميه "تساهل" المحكمة مع المتهمين. هذا إنما يدل على أن هذا الشخص إما أنه غير مؤهل قانونياً، أو أنه ينافق أطرافاً ما ليمنحوه منصباً. في الواقع ليست هذه مسألة جديدة، ففي عهد الكيزان أنفسهم، قامت المحكمة بتوكيل محامٍ للدفاع عن متهم بجريمة اغتصاب طفلة، ولكي يحصل هذا المحامي على رضى الجماهير، أخذ يتهم المتهم ويسوِّء مركزه القانوني، وقد أعجب ذلك الهجوم من محامي المتهم على المتهم الشعب (الجاهل) فاعتبره بطلاً، وأمام هذه البطولة، صمتت المحكمة والتي كان عليها أن تعاقب هذا المحامي بعد توكيل محامٍ آخر أو اعتبار المحاكمة غير متسمة بالشرعية ووقف جلساتها إلى حين إيجاد محام يقبل الدفاع عن المتهم. أيام الثورة أيضاً قامت وكيلة نيابة بمخاطبة الحشود المحيطة بها من الشباب بخطاب استعراضي كاذب، تعلن فيه بأنها ستقوم بإعدام قتلة من فضوا الاعتصام، ولن تقبل بالدية حتى لو قبل بها أولياء الدم. وهذا بالتأكيد كلام فارغ ولا أساس له من القانون، ومع ذلك هلل الشعب وكبر وتصايح صياح الديوك الرومية المثيرة للشفقة. وبدلاً عن زيادة الوعي القانوني لدى الشعب ليعرف الناس حقوقهم، يقوم هؤلاء المتسلقون من القانونيين بزيادة جهالة الشعب، ويصورون لهم الأكاذيب كحقائق، كما فعلوا إبان كتابتهم لما أسموه بالوثيقة الدستورية، ففرح الشعب وفرحت الطيور والنابحات والعناكب في بيوتها القطنية وماما أميرة وعلي كبك. ثم اكتشفوا الحقيقة المؤلمة بعد كل ذلك الفرح العجول وكان الإنسان عجولا... لا زال بعض هؤلاء القانونيين يمارسون تجهيل الشعب بالحديث عن ضعف القاضي في محاكمة البشير، ويطالبونه (والخطاب في الواقع موجه للشعب) بالضرب بيد من حديد، وكأنما هذا القانوني درس من كتاب أبلة نظيرة للطبيخ وليس القانون. هل من الجيد أن نمارس تجهيل الشعوب؟ نعم من الجيد أن نمارس تجهيل الشعوب إذا كنا سنستخدم جهلهم في الحصول على مكاسب شخصية (قاضي، وزير عدل، نائب عام..)..الخ. وليس جيداً إذا كنا نرغب في تحقيق ثورة ثقافية توعوية لننقل الدولة من الفوضى إلى المؤسسية.
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة