كان يظن بشدة أن اليوم الذي يخرج فيه من السجن هو ذلك اليوم الذي يمثل العيد والفرحة الكبرى في حياته ،، وبعد الخروج والابتعاد من ساحة السجن ركب في تلك الحافلة المتوجهة لمناطق سكنه ،، ولما طقطق الكمساري أصابعه طالباً من الركاب أن يدفعوا أجرة المشوار أخرج صاحبنا من جيبه عملة ( نقدية ) فئة واحد جنيه سوداني ،، ثم مد تلك العملة للكمساري طالباً منه أن يخصم أجرة التوصيل واسترجاع الباقي ،، فنظر إليه الكمساري في دهشة وتعجب ثم قال له : ( ما معنى ذلك النوع من الهزار السخيف ؟؟؟ ) ،، وفي نفس الوقت نظر إليه كافة الركاب في دهشة شديدة واستغراب ،، والبعض من هؤلاء الركاب بدأ ينظر لتلك العملة النقدية فئة الواحد جنيه سوداني بنوع من التشوق لأيام الماضي ،، ذلك البعض الذي بدأ ينظر لتلك العملة النقدية التي قد أصبحت نادرة للغاية في هذه الأيام ،، ومعظم ركاب الحافلة بدئوا يتذكرون فجأة تلك العملة النقدية التي كانت صاحبة الصيت في يوم من الأيام ،، وفي خضم تلك الأحداث والمجريات ظن الجميع في الحافلة بأن ذلك الرجل يعاني من خلل في عقله ،، حيث لا يعقل إطلاقاً أن يدفع الرجل مبلغ واحد جنيه سوداني ثم يطلب من الكمساري أن يسترجع له الباقي !!! ،، ولكن ذلك الرجل كان يؤكد للكمساري وللركاب بأنه بكامل عقله وسلوكياته ،، وعند ذلك أوضح له أحد الركاب بأن أجرة الترحيل لذلك المشوار هو مبلغ ( 150 جنيه سوداني ) ،، وحين سمع الرجل ذلك المبلغ انتفض مسعوراً ومبهوراَ ثم قام واقفاً وطلب من الكمساري أن يوقف الحافلة فوراَ وفي الحال ،، وعندما توقفت الحافة نزل الرجل من الحافلة على عجالة شديدة وهو يظن أن تلك الحافلة في طريقها إلى الفاشر ونيالا بمناطق غرب السودان!! ،، وكان يجهل كلياَ بأن ذلك السعر مبلغ ( 150 جنيه ) يعد أقل الأسعار بين فئات الأسعار للمواصلات داخل العاصمة السودانية ،، وحين نزل من الحافلة فجأة وجد نفسه يقف أمام إحدى بائعات الشاي والقهوة في الأرصفة ،، فجلس في مقعد من المقاعد بالقرب منها ثم طلب كباية شاي باللبن ( مدنكل ) كما يقول في الماضي عندما كان حرا طليقاَ ،، وبعد أن فرغ من شرب كأس الشاي أراد أن يدفع قيمة الشاي للمرأة ،، فأخرج من جيبه مبلغ العملة النقدية فئة الواحد جنيه سوداني ،، ثم أعطى ذلك المبلغ للمرأة وطلب منها أن تخصم قيمة الشاي وأن تدفع الباقي له !!! ،، فنظرت إليه المرأة في دهشة مقرونة بعلامات الغضب والسخط ،، ثم قالت له : ( بالله يا أخونا نحن لا نقبل إطلاقاً ذلك النوع من الهزار السخيف !!! ) ،، فقال لها : ( أنا لا أمزح إطلاقاً ولكنني غريب في هذا البلد ولا أعرف تلك الأسعار في هذه الأيام !! ) ،، فأوضحت له المرأة بأن قيمة كأس الشاي العادي بمبلغ 100 جنيه سوداني ،، وأن قيمة كأس الشاي ( المدنكل والمضبوط ) بمبلغ 150 جنيه سوداني ،، وحينها سألها في دهشة قائلاَ : ( ويا ترى إذا أردت أن أتناول وجبة الإفطار في مطعم من المطاعم فكم ستكلفني تلك الوجبة ؟؟ ,, فأوضحت له بأن أقل وجبة سوف تكلفه مبلغ في حدود 400 جنيه سوداني ،، وعند ذلك أدخل الرجل يده في جيبه ثم أخرج من جيبه كافة مدخراته من الأموال في السجن خلال العشرين عاماً الماضية فوجدها تعادل مبلغ 600 جنيه سوداني ! ،، فدفع مبلغ 150 جنيه لست الشاي ،، ثم عاد أدراجه بسرعة شديدة لناحية السجن ،، واطرق باب السجن بقوة وشدة .. وعندما فتح الحراس باب السجن ركض نحو الداخل بسرعة شديدة وجنونية وهو يردد عبارات ( السجن أحب إلينا مما تدعوننا إليه !!! )،، وقد أدرك الرجل أن داخل السجن أفضل من خارج السجن ألف مليون مرة ،، ولسان حاله يقول : ( على الأقل في السجون تتوفر تلك الوجبات والشراب دون مقابل من الأموال !! ) ،، وذلك الرجل السجين الذي كان يحلم بالحرية لأكثر من عشرين عاماَ قد أدرك أخيراَ بأن حياة السجون أفضل وأريح من الحياة خارج السجون ألف مليون مرة !!! ،، وتلك الحقائق في أرض الواقع تؤكد بأن الناس في خارج السجون يعيشون حياة السجون ،، وأن السجناء في داخل السجون يعيشون حياة الهناء وراحة البال !!!!
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة