عاد الي ابني "صراع النخب المتعلمة" وهذا اسمه بعد اربع سنوات امضاها في اقبية بيوت الاشباح تعرض فيها لمختلف اصناف الكبت والقمع والتعذيب. القت سلطات النظام البائد ممثلة في جهاز الامن والمخابرات القبض عليه وتم سحبه من معرض الخرطوم الدولي الى مكان مجهول. كان ذلك في اكتوبر عام 2016م. تملكني يومها احساس بالمرارة والالم والعجز.فالذي سحب ليس مجرد كتاب وانما احد ابنائي سهرت من اجله الليالي وبذلت الجهد والوقت ليخرج الى الناس في ذلك اليوم. وقفت صامتا وكنت اعرف ماذا يحدث لو نطقت بكلمة واحدة. كظمت والاستاذ نور الهدى مدير دار النشر التي طبعت وعرضت الكتاب قيظنا في باحة امام قاعة العرض. كان عزائي ان ابني ينضم الى عشرات سبقوه الى اقبية بيوت الاشباح، بل مئات الكتب والاعمال الفنية التي حظر نظام الانقاذ طباعتها او توزيعها داخل البلاد بدعوى تهديد الامن القومي. فهم يدركون ان الكتب كائنات حيه لها جسد وروح تمشي بين الناس تضيء شموعا في ظلام الانقاذ الحالك وتقول لهم بصوت عال (انظروا الى ملكنا العريان) كيف يتبختر فوق جراحكم. بذلت على مدى الاربع سنوات الماضية كل ما استطيع ووسطت من اعرف ولم اعثر له على اثر. كنت انتقل من مكتب الى اخر من ام درمان الى ما يعرف بادارة امن المجتمع الموكلة بقمع الفكر والرأي المخالف في جاردن سيتي والى رئاسة جهاز الامن والمخابرات. اعدت الكرة بعد ثورة ديسمبر فراجعت اكثر من ثلاث مرات رئاسة جهاز المخابرات العامة ومكتب وزير الاعلام بصفته رئيس المجلس الاعلى للمصنفات الادبية لحماية حقوق المؤلف والحقوق المجاورة دون فائدة. بدأت هذه الملهاة في 18 اكتوبر عام 2015 عندما تقدمت لادارة المطبوعات في الامانة العامة لمجلس حماية حقوق المؤلف والحقوق المجاورة والمصنفات الادبية والفنية احمل مسودة كتابي" صراع النخب المتعلمة: حل مستشارية الامن القومي ومتاهات الحوار الوطني نموذج "طالبا اجازته ليطبع داخل السودان لان المطابع السودانية تتعرض للعقاب اذا طبعت مصنفا دون ابراز شهادة اجازة من تلك الادارة. كان الاجراء سريعا. تم استلام ثلاث نسخ من مسودة الكتاب. ناولني بعدها الموظف ايصالا الكترونيا بعد دفع الرسوم شاملة الضريبة والدمغة الاتحادية. خرجت امشى الخيلاء متوهما ان كتابي الذي يسلط الضوء على فساد الانقاذ وهي في اوج جبروتها وبطشها (2015) ويقدم من خلال دراسات ووقائع وشواهد تاريخية فشلها في ادارة الدولة. ويقترح البديل الذي سينهي حقبة الانقاذ ويفتح الباب امام السودانيين ليختاروا مجتمعين النظام الذي يريدونه لهم ولاحفاهم بعد اعادة هيكلة الدولة السودانية في نسختها الثالثة. والتوافق على ثوابتها وغاياتها العليا. ولم اكن اتوقع ان شهادة وفاة ستصدر من جهة اخرى تكمن مترصدة وراء مجلس مهمته تدمير حقوق المؤلف عبر واجهته الامانة العامة وادارة المطبوعات فيها. امضيت عاما كاملا اساسق بين الامانة العامة لمجلس حماية حقوق المؤلف وبين جهاز الامن وما بينهما. راجعت ثلاثة امناء وثلاثة مداراء لجهاز الامن ومديرين لادارة امن المجتمع. خلال الاربع سنوات سلمت بالبيد سبع رسائل اطلب فيها رفع الحظر عن الكتاب او اعطائي مكتوبا يوضح سبب حظره لقناعتي انه لا يهدد الامن القومي. المرة الوحيدة التي تلقيت فيها اجابة كانت من الاستاذ بشير ادم سهل الامين العام الاسبق. فقد ابلغني في احدى الزيارات ان المسودة تمر عادة بلجنتين فنية وامنية. وان اللجنة الاولى اوصت برفعه للجنة الثانية التي رأت انه "يهدد الامن القومي دون ان تقدم دليلا على ذلك وانه طلب منها اعطائيه ردا مكتوبا ولم يردوا عليه". ثم اخبرني في زيارة اخرى بان الموضوع خرج من يدهم واصبح لدى جهاز الامن ويمكنني مراجعتهم. اتضح لي ان لا جدوى من تلك التوسلات. وفي لحظة ما من شهر سبتمبر 2016 رايت ان ابحث عن ناشر لطباعة الكتاب خارج السودان. اقترح على اصدقاء بان اتوجهة الى دار عزة للنشر فمديرها وصاحبها الاستاذ نور الهدى لا يخلط قناعاته السياسية بمهنيته. ولدية من الشجاعة ما يجعله يوافق على تحمل تبعات الطباعة والتوزيع. زرته في مكتبه واتفقنا رغم انها المرة الاولى التي نلتقي فيها على ان تكون الطباعة في الخارج وان يتم كل شيء خلال شهر ليلحق بمعرض الكتاب في الاسبوع الاخير من شهر اكتوبر. فالكتاب هو الوحيد الذي صدر حتى اليوم عن مستشارية الامن القومي المفترى عليها. كما يوثق من خلالها لحدثين هامين في مسيرة الدولة السودانية. ويناقش قضايا الدولة والهوية ويقول بوضوح ان البلاد في طريقها الى الانهيار لان المسار الذي تسلكه الانقاذ سينتهي الى هاوية. كنت وزملائي في المستشارية التي انشئت وقبرت خلال عام واحد على قناعة بان ما تدعو اليه سيغير مسار السودان ويؤسس عبر حوار وطني استراتيجي يشارك فه جميع السودانيين لبناء دولة مواطنة تسع الجميع. اوفى الرجل بما وعد ووصل الكتاب ليظهر على منصة دار عزة ليلة افتتاح المعرض وفي مساء اليوم الثاني قام مندوبو جهاز الامن بسحبه مع كل الكمية التي كانت في مخازن معرض الكتاب ثم عقبوا على مكتبة دار عزة في شارع الجامعة وسحبوا النسخ المعروضة (لن اتحدث هنا عن ما جرى للاستاذ نور فذلك يخصه هو). في التاسع من هذا الشهر نشرت وكالة السودان للانباء (سونا) ان جهاز المخابرات العامة اعاد للمصنفات الادبية والفنية عددا من الكتب التي صودرت في العهد البائد. كان من المقرر حسب سونا " ان تكون حوالي الفي كتاب لكنها تعرضت للاتلاف بسبب سوء التخزين ونقص عددها بشكل كبير". نشر الامين العام الجديد الاستاذ حاتم الياس الخبر على صفحته في الفيس بوك ونشرته الصحف وقد اعتبر ذلك " من الخطوات المهمة نحو ابراء جراح الوسط الثقافي وتعزيز حرية النشر والكتابة". زرت الامين العام في مكتبة الاسبوع الماضي فبادرني بقوله " تستطيع اخذ كتابك الان" لكنه رأى من الافضل اخذ موافقة دار النشر التي سحب الكتاب من منصتها(كانت قد حُمِّلت مسؤولية ادخاله السودان) واجرى الاتصال بنفسه فردت بالايجاب. جمعت من ارض المخزن من بين عدة عناوين ما تبقى من ابنى ــ كتابي في كراتين وشوال وعدنا معا الى البيت لينضم الى اخ له (الجوع والموت في جبال ووديان البحر الاحمر) سبق ان حظره ربيع عبد العاطي مدعيا " انه يثير الكراهية ويزيد الحقد والنظرة الظلامية " فطلبت عرضه على جهة اخرى وافقت على اطلاق سراحه. اختم بصوت شكر للاستاذ الامين العام والعاملين في الامانة العامة. لقد قال لي الاستاذ حاتم الياس انه "لن يتم حظر اي عمل ابداعي بعد اليوم. ومن يرى نفسه متضررا يذهب الى المحكمة". نتمنى ان تلتزم السلطة الحاكمة بهذا التعهد. فجهاز الامن الذي ورد ذكره في هذا الموضوع لم يكن في رأيي يتصرف من تلقاء نفسه وانما ينفذ سياسة النظام القائم. لن ينتهي الكلام هنا طالما انه بدأ واصبح مباحا. فساستعرض في مقال اخر الاثار السالبة للحظر على الكتاب ومنتجي العمل الابداعي بصفة عامة وانعكاساته على المجتمع. ثم نتوسع في الحديث عن رقيب جديد، هذا التنمر الذي ظهر في الفضاء الافتراضي ( cyberbullying) واصبح يزاحم الانظمة الحاكمة، يحظر ويقمع ويستعدي المتفلتين واجهزة انفاذ القانون على كل مخالف ومعارض او مؤيد.
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة
جبرالله عمر الامين
فيس بوك
تويتر
انستقرام
يوتيوب
بنتيريست