تعتبر السياسة في الدول الفقيرة كالسودان، مهنة من لا مهنة له، فهي مهنة العواطلجية، الذين يدخلون سوق السياسة كسوق العملة الأسود عبر المضاربات. يعتمد السياسيون على صناعة أرصدة وهمية لاستقطاب الجماهير، فإما رصيد طائفي، وإما رصيد تحفيزي Motivational credit للعته الجماهيري. كاستخدام مفردات إرتدادية إلى المركز :دينية، عرقية، جهوية، أو المفردات العاطفية: عدالة، حرية، مساواة، إخاء، ديموقراطية، علمانية.. والتي لا يفهمها الشعب على نحو عميق. وبدون هذا الرصيد التحفيزي، لا يكون للسلاح أي قيمة، إلا عندما تعتبر المجموعة الحاملة للسلاح نفسها مجرد عصابة إجرامية. ولذلك فأي إنقلاب عسكري، لا يمكن أن يكون منعدماً من أي خطاب ذا رصيد تحفيزي. وهنا يحدث التكامل بين السياسي والعسكري. بغير تعميم، يعتبر التوجيه المعنوي، هو ثروة السياسي، وعندما يفقد السياسي تلك الثروة، ما عليه حينئذٍ إلا الإعتزال. سنلاحظ مثلاً أن محمد أحمد المهدي، كان صاحب خطاب تحفيزي ديني، رغم أنه لم يطرح اي مشروع واضح المعالم، ولم يضع حدوداً لذلك المشروع. فحتى موت المهدي، كانت المهدية سياق ديني رأسي، ولذلك لم يكن أمامها إلا الفناء عاجلاً أم آجلاً. حاول السودانيون البحث عن ذلك الرصيد بشكل دؤوب ومستمر، فظهر الإسلاميون والشيوعيون والبعثيون وغيرهم في مواجهة الطائفية.وتحولوا هم أنفسهم إلى طوائف. ومع انهيار الإتحاد السوفيتي، إنتهى عصر السرديات الكبرى، وأصبحت كل الأحزاب حول العالم تعاني من ضعف الآيدولوجيات التي تتبناها، وتحول السياسي (كالفيلسوف المعاصر تماماً) إلى سياسي شذري. والسياسي الشذري، هو ذلك الذي لا يطرح مشروعاً آيدولوجياً، بل يعتمد على استهداف نقاط الضعف في المنافسين الآخرين والضرب عليها بالمطرقة الحارة، ثم الإعتماد على التعبئة الشعبوية. سنلاحظ أن القوة التي سيطرت على الثورة، عانت من تلك المعضلة، ولم يكن أمامها سوى الضرب على وتر النظام السابق، بأخطائه وجرائمه، لكنها لم تحمل للشعب مشروعاً واضح المعالم، رغم ما تمتعت به من دعم مادي ضخم جداً بحيث سيطرت على الإعلام طوال أشهر الثورة الأولى. اعتمدت هذه القوة على التهويمات الصغيرة، والتلميع شديد التفاهة، والمطعون في شهادته، كالتلميع على أساس وجاهة الشكل، أو التحدث باللغة الإنجليزية، وغير ذلك مما يتوقف على التسطيح بالعقل الجمعي. مع غلق كل المنافذ الإعلامية في وجه أي قوى لديها رؤية، وكان ذلك الغلق بهدف الإستحواذ على منبر التفاوض من أجل المحاصصة. هناك محظوظون ممن لم يشتغلوا بالسياسة، ولكنهم لعبوا بذكاء في تلك الأيام المشحونة بالقلق والتوتر الجماهيري. لكنهم لم يملكوا أي مشروع شامل يمكن استقطاب الجماهير به. تماسيح السياسة (سواء عسكر او غير عسكر)، أدركوا ضعف تلك القوة المصنوعة، فجاروها، بل عززوا حضورها الإعلامي، قبل أن يلقوا بهم إلى المزبلة. كنت قد خاطبت هؤلاء فقيري الموهبة، في مقال قديم، وأخبرتهم بأن حكم السودان أصعب من حكم الإمبراطورية الرومانية، لأن تماسيح السياسة أكثر خبرة وذكاء في اكتشاف الثغرات، ثم النفاذ من خلالها إلى الفرص. وتماسيح السياسة لا يعملون عبر البناء، بل عبر الهدم، والصراع بينهم شديد، فمن لا مهنة له، لا يجامل في مصدر رزقه الوحيد. الشعب السوداني عاطفي وغلبان، وينساق بسهولة خلف التماسيح التي تجره إلى منتصف النهر ثم تنقض عليه وتطبق عليه فكيها القاسيتين بلا فكاك ولا مهرب. والعساكر الذين ظلت الشائعات عن بلادتهم علكة يلوكها الجميع منذ الإستقلال، أثبتوا انهم أذكى من غيرهم. هذا إذا افترضنا أنهم لم يتلقوا توجيهات خارجية مدروسة بدقة. منذ أول يوم وضح أن إسرائيل لا تعترف سوى بالبرهان، وقد قالها رئيس الوزراء الإسرائيلي صراحة، عندما قال: نحن دولة يهودية، وقد التقيت برئيس دولة إسلامية، وهي السودان). وكان ذلك عقب لقائه بالبرهان بخصوص فتح الاجواء السودانية للطيران الإسرائيلي. فإسرائيل إعترفت بالبرهان رئيساً، يملك القرار بشأن مسائل دقيقة ومعقدة كالعلاقات الخارجية. واعترفت بالسودان دولة إسلامية وليست علمانية. لقد ذكرت كثيراً أن يهودية إسرائيل تمثل مشكلة للإسرائيليين انفسهم كدولة دينية وسط دول علمانية (مصر، الأردن، سوريا) على وجه التحديد. وأنها اليوم هي الناشز الوحيد عن المنظومة العالمية التي تبنيها أمريكا في منطقة الشرق الأوسط، والتي تعتمد على علمنة الدول الشرق أوسطية بالكامل. وفوق هذا فإسرائيل، قامت على بروتوكولات الصهيونية الإلحادية، لا الصهيونية الدينية، لذلك فهي دولة مضطربة الهوية الثيولوجية. وداخلها صراعات محتدمة حول هذه النقطة، إذ لا يمكن لإسرائيل ان تكون دولة علمانية، وكل مصدرها التاريخي الوحيد هو التوراة. فحتى الآن ثبت تماماً لكل علماء التاريخ، أن كل قصص التوراة لم تجد لها دليلاً أركيولوجياً تصديقياً واحداً داخل اورشليم وما حولها، بل هناك الآن إتجاه عام عند علماء التاريخ والآثار لمراجعة تاريخ الشرق الأوسط بعيداً عما قام أسلافهم بإدخاله من أكاذيب لتتفق مع السرد التوراتي. لذلك تعاني إسرائيل ليس من عزلة دولية بل من فجوة تأسيسية ثقافية كبيرة جداً، تتعمق يوماً بعد يوم. ولذلك فإقامة علاقة مع دولة السودان كدولة ذات هوية دينية إسلامية، أكثر فائدة من إقامة علاقة مع سودان علماني، مثله مثل أغلب دول إفريقيا، لذلك كان إصرار نتنياهو على استخدام كلمة (إسلامية) في خطابه، رغم إدراكه بأن التوجه العلماني الآن هو الذي يوجد بالقوة والفعل، وانه اضحى خياراً أوسع انتشاراً رغم المقاومة الضعيفة التي يجدها من بعض التيارات كلاسيكية الروح. كان خطاب نتنياهو، وبالتأكيد الرسائل متعددة الجهات من دول عربية أخرى، حافزاً أساسياً للعسكر بقيادة البرهان للإستمرار في اللعبة بمفاهيم جديدة. وهي تلك التي تعتمد على المرونة القصوى في التعاطي مع الشأن المحلي والخارجي. لذلك خرجت إتفاقية السلام كترضية لا كاتفاقية عانت من مفاوضات حقيقية. وكانت صياغتها توجيهية ركيكة إلى حد بعيد، وممتلئة بالثغرات. لذلك وقع عليها التماسيح الآخرون، رغم علاتها. ثم ما حدث بعد ذلك مع التفاهم مع المحكمة الجنائية الدولية. ويبدو أن كل الملابسات تقود إلى حكم عسكري بلا ادنى شك بتحالفات مع التماسيح الكبيرة، وهناك تحت المائدة، السقنقورات (التماسيح الصغيرة)، تفتح أفواهها لتلتقط بعضاً مما يتساقط من فم التماسيح الكبيرة.
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة