عندما تثار ظاهرة التماسيح بين الناس تقفز من الذاكرة على الفور حكاية تمساح حاج الماحي والقصيدة المشهورة التي نظمها لمناهضته ومطلعها: يا رحمن ارحم بي جودك ..... دلي الغيث ينزل في بلودك.. وفيها يسأل الله أن يطلق سره عبر أوليائه ليقضوا على التمساح: يا رحمن ارحم بي برك .... يا حافظ في بحرك وبرك في وليانك أطلق سرك .... خل نيشانن اليتحرك.. وقد ذكر عشرات (الوليان) الأولياء الصوفية في توسله.. وتقول الرواية أن التمساح وجد مقتولا بعد هذه القصيدة.. ومهما يكن من أمر فإن ما حدث أيام حاج الماحي هو نفس الذي حصل هذا العام فالتمساح تعني قبيلة التماسيح وليس تمساحا واحدا كما قالت الرواية.. أشرنا في المقال الأول إلى التغيير الذي حدث في البيئة الطبيعية لمشروعات الإعاشة بسبب البستنة.. وقلنا إن البستنة غيرت البيئة من زراعة محاصيل إلى غابة متشابكة من أشجار الفواكة والنخيل.. ونتيجة لهذا التغيير ظهرت كائنات حية جديدة تسيدت المسرح واختفت أخرى كانت منتشرة قبلا.. ومن أمثلة الحيوانات التي اختفت وصارت نادرة: الثعلب (الصبرة).. فقد كان هذا الحيوان مزعجا للبيوت وحاضرا يأكل الدجاج ويقتل كل الموجود في الأقفاص خنقا.. وصياحه مسموع وهو يتكاثر في الجناين ويربي صغاره بلا مشاكل من الحيوانات من حوله ويتمتع بقدرة فائقة على الوصول الي فريسته.. ويمكنه أن يحفر تحت حظيرة الدواجن إلى أن يخترقها في جنح الليل وبهدوء!! جميع الحيوانات الصغيرة التي في حجم الثعلب صارت نادرة كالكلاب والقطط والضفادع....الخ.. الحيوان الجديد الذي برز بوضوح وأضعف وجود تلك الحيوانات هو (الأصلة).. (الأَصَلَةُ فصيلة غير سامة من الثعابين العاصرة المنتشرة في شمال أفريقيا، وفي مناطق أخرى في العالم. ويتراوح طولها الناضج من 1.5 متر إلى 5.5 متر وينتمي هذا النوع من الثعابين إلى عائلة البُويدا، وبالرغم من حجمها تعتبر أفاعي هذا النوع في المراحل البدائية من تطورها مقارنة بالأنواع الأخرى، لكنها تتميز أيضا بولادتها لصغارها بدون أن تضع بيضا، بالإضافة إلى مقدرتها على تسلق الأشجار بالرغم من ثقل وزنها.. ثعابين الأصلة غير سامة، وتسمى أحيانا بالأصلة العاصرة وذلك لأنها تقتل فريستها بالعصر بعدما تلف جسمها حولها مما يؤدي إلى خنقها، ومن ثم تقوم بابتلاعها دفعة واحدة. غالبا ما تكون إناث الأصلة أطول من الذكور.. وأطول افعى بالعالم من أنواع الأصلة طولها 10 م.) ويلاحظ أن جميع الحيوانات مجرد ما تقبض على الفريسة فإنها تتجه لتغلق القصبة الهوائية وفي الحال يموت الحيوان اختناقا والأصلة تفعل نفس الشئ بالعصر الشديد.. وهناك أفراد سودانيون مهرة في اصطياد الأصلة وقتلها فهي ليست في خطورة التمساح.. وعندما تشاهد منتفخة مبتلعة لحيوان يمكن اخراج الحيوان كاملا بعد تمزيق جلدها ولكنه يستحيل أن يكون حيا لانها تقتله عصرا اولا قبل ابتلاعه.. لم أسمع بأن أصلة قتلت انسانا من التجربة المعاشة ولكن الاحتمال وارد خاصة للاطفال.. الشاهد في الأمر أن بداية نشأة الحياة كانت في الغابة بين الماء والطين بحيوان الخلية الواحدة.. (وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ) ولا تزال الحياة تستمد من هذا المصدر.. ثم تعقدت هذه الخلية مع حركة التطور الطويلة الوئيدة فبرزت الكائنات المتنوعة.. ولذلك تتجدد الكائنات الحية تلقائيا حسب حاجة البيئة الطبيعية تحت توجيه إرادة الله وهدايتها..الإنسان هو قمة هرم مملكة المخلوقات فإن المملكة مكونة هكذا: في القاعدة الغازات ثم السوائل، والجمادات بما فيها وفي قمتها الطين والماء.. ثم النباتات، ثم الحيوانات، ثم البشر (بنو آدم) ثم الإنسان.. نحن البشر المعاصرين لدى الدقة لسنا قمة الخليقة وإنما مرحلتنا هي مرحلة (بنو آدم).. وبنو آدم إنما هم مرحلة من مراحل تطور الخليقة نحو مرحلة الإنسان.. والإنسان بالمعنى الحقيقي لم يجئ بعد ونحن متطورون باستمرار نطلبه بمحاولتنا التخلص من صفات الحيوان فينا.. فبنو آدم بالنسبة للإنسان كالحيوان بالنسبة لبني آدم.. وبهذا المعنى العرفاني يتضح اننا لا زلنا في مرحلة حياة الحيوان في طرفها الذي يلي مرحلة الإنسان حين يقع الحيوان الأعجم في طرفها الذي يلي بني آدم.. ويحدثنا الأستاذ محمود عن التمييز الدقيق لمرحلتنا الحاضرة بمقاييس سلوكية محددة وواضحة يمكن لكل واحد منا أن يعرف هل هو لا يزال في مرحلة حياة الحيوان أم ترقى إلى إنسان حقيقي!!؟؟إذن نسمع: (الإسلام يقسم الحياة إلى درجتين، بينهما اختلاف مقدار، لا اختلاف نوع: الحياة الدنيا، والحياة العليا.. فأما الحياة الدنيا فهي حيوانية، وأما الحياة العليا فهي إنسانية.. فالإنسان، ما دامت مسيطرة عليه صفات الحيوان، خضع لها، أو قاومها، فهو في الحياة الدنيا.. فإذا تخلص من صفات الحيوان، بفضل الله، ثم بفضل المجاهدة المستمرة لدواعي هذه الصفات، فقد أصبح في الحياة الأخرى، أو الدار الآخرة، كما يرد عنها التعبير في بعض الأحيان. وقد جعل الموت الحسي فاصلاً بين الحياتين. فكأنه، ليدخل الإنسان المجاهد لدواعي صفات الحيوان فيه، في الحياة العليا، لا بد له من تجربة الموت الحسي.. ولكن الموت المعنوي يحقق طرفاً من هذا الدخول، والموت المعنوي يعني أن تسكن دواعي صفات الحيوان في الإنسان تحت قهر العلم في مستوى علم "حق اليقين" ولذلك فقد قال المعصوم "موتوا قبل أن تموتوا" يشير إلى هذا الموت المعنوي.. فالحياة الدنيا، أو حياة الحيوان هذه، هي التي يشدد القرآن عليها النكير، ويصفها بالفناء، والزوال، ويندب الناس ليزهدوا فيها، ليرتفعوا إلى إنسانيتهم في الحياة العليا ــ الحياة الإنسانية.. فالإسلام لا يقول بالإنكار المطلق لقيمة الحياة، وإنما يميز بين قيم الحياة، ويجعل وكده تسيير الناس إلى الحياة الإنسانية بتزهيدهم، وإزعاجهم عن الحياة الحيوانية.. ومعنى فناء الحياة الدنيا إفضاؤها، رضي الإنسان أم لم يرض، إلى الحياة العليا: "يَا أَيُّهَا الْإِنسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَىٰ رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلَاقِيهِ".).. من كتاب أسئلة وأجوبة الأول.. إذن يمكن لكل واحد منا أن يلاحظ: هل فيه شئ من صفات الحيوان؟؟ فإذا كانت موجودة، وهو الواقع الحقيقي بيننا كمجتمع بدون أدنى ريب، فهو لا يزال يحيا حياة الحيوان في مستوى من المستويات.. وعبارة خضع لها أو قاومها واضحة في التحديد.. وصفات الحيوان هي: الشره والحرص والشراسة في العنف والبخل وكراهية البشر من حولنا بسبب الخوف من الرزق والحقد الدفين على الآخر.......الخ ولاشتراكنا مع الحيوان في حياته المتسفلة هذه يحدث الصراع في البيئة.. فكما نأكل الحيوانات المسكينة التي لا حول لها ولا قوة أمامنا كذلك تأكلنا حيوانات كالتمساح لا نملك إلا أن نقول أمامها: لا حول ولا قوة إلا بالله!! هل معنى هذا الكلام إذا بلغنا مرحلة الإنسان الحقيقي فلن تأكلنا الحيوانات!!؟؟ الجواب: نعم.. فالإنسان المتخلص من صفات الحيوان روحاني بمعنى أن جسده ليس ماديا يؤكل.. الأنبياء المرسلون كانوا نماذج فردية للإنسان المنتظر ليعم الأرض السلام.. فالنبي إبراهيم الخليل لم تأكل النار منه غير وثاقه.. والنبي يونس بن متى لفظه الحوت لأنه فشل في هضمه والسبب أنه كان من المسبحين.. والمسبحون معناها الذين عمروا اجسادهم بروح الله (فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ).. وفي حوار مع الأستاذ محمود حول مقامات تحقيق العبودية المترقبة تحقيقها في الإنسان قال:(الإنسان إذا حقق العبودية لدرجة ان صار كالميت بين يدي الغاسل فإن جسده يصير روحاني عامر بروح الله.. ولذلك لا يستطيع أي مخلوق أن يتصرف فيه.. وإذا ضربت في جسده مسمار ما يمشي فيه!!) عزيزي القارئ: هل عرفت لماذا تأكلنا الحيوانات!!؟؟
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة
د. محمد محمد الأمين عبد الرازق
فيس بوك
تويتر
انستقرام
يوتيوب
بنتيريست