وفي معسكر النازحين، رفع الأب ابنته الرضيعة بسعادة وهو يلاعبها، كانت أصابعه السوداء تمسك بجسدها الأحمر..، لذلك أسموها قُضِّيمَة. والدها مقطوع الساق جراء قذيفة صاروخية، ومع ذلك فقد رمى بقضيمة إلى أمها وهرول بساقه الخشبية خارج السقيفة حين سمع بوصول المساعدات الغذائية. امتدت الخيام لتحتوي قرابة ثلاثمائة وستين ألف نازح، وكان على أبو قضيمة أن يناضل لإقتناص بعض الدقيق من براثن هذه الآلاف. كانت الأتربة قد اختلطت بعرق جبينه وهو يشرأب بعنقه ليعبر بنظره إلى ما وراء تلك الحشود. كانت الصفوف الأولى تنقل للصفوف الخلفية حديث العمدة والضابط لهم، فالضابط لابد أن يلقي خطبة طويلة لا معنى لها قبل البدء في التوزيع. حيث يحصل العمدة وموالوا الحكومة على النصيب الأكبر من السلع الغذائية التي تقدمها المنظمات الدولية. يتحدث الضابط عن مجهودات الحكومة في إعادتهم عما قريي إلى قراهم التي احترقت، وقد استمرت هذه الوعود لعشرين عاماً حتى مات في المعسكر من مات وأصبح الأطفال كباراً وأنجبوا بدورهم بؤساء جدد. تتعاقب الأنظمة، ولا جديد. حصل أبو قضيمة على نصيبه الصغير، وعاد إلى الخيمة. - سيبدأ الرجال في بناء بيت الحاج. تقول أم قضيمة لزوجها، الذي عليه أن يتجه مع الرجال لمساعدة الرجال على بناء منازلهم الطينية الصغيرة، قبل أن يحين دوره هو كذلك ليبني منزله. تهبط الشمس على المعسكر، وترتفع الأبخرة الحارة محملة بالغبار، عاصفة بأسقف الخيام البلاستيكية، ولتطبخ رأس الرضيعة قضيمة في الداخل، فتبل أمها خرقة قماش وتمسد بها رأسها لتبريدها. ثم تضجعها على الأرض لتبدأ في طبخ العصيدة بدقيق المعونة المليء بالسوس. لكن السوس نفسه غذاء طيب في أيام القحط الشديد. خاصة عندما طردت الحكومة المنظمات الدولية التي كانت ترسل بعض الأسلحة كما زعمت الحكوكة وتقوم بجمع بعض المعلومات التي اعتبرتها الحكومة تصرفات إستخباراتية ومعادية. لقد أصيب أبو قضيمة بالملاريا، وجف ضرع أمها، ليتحول الوضع لكارثة محدقة. حاول الرجال التظاهر لدفع الحكومة إلى إرسال مواد غذائية. ورغم الحر والملاريا التي تعصف برأس أبو قضيمة، فقد خرج مع الرجال. كانوا يهتفون ضد الحكومة، وأجسادهم الهزيلة المريضة لا تكاد تمكنهم من المشي. كان أبو قضيمة يتخيل جوع صغيرته فيرفع عقيرته بالصياح. غير أن كل شيء إنقلب رأساً على عقب، فقد تسلل بعض أنصار العمدة إلى داخل الحشود، وبدأت أعمال عنف دموية، انتهت بإطلاق الرصاص الحي وأصيب أبو قضيمة في ساقه السليمة، فسقط مضرجاً في دمائه، لكنه لم يصرخ. تم نقل المصابين إلى خيامهم في المساء، وتفاقم جرح أبو قضيمة ليصاب بالغرغرينا، فأضطروا لبتر ساقه. مع ذلك كان الأوان قد فات. حينئذ ادركت ام قضيمة أن بقاءها في المعسكر بدون رجل يعني نهايتها. فتسللت من المعسكر. كان الليل قد أغرق الأرض بالظلمة، ورغم ذلك فقد إحتضنت أم قضيمة إبنتها وعبرت الصحراء متوجهة إلى معسكرات القوات الدولية، هناك طلبت اللقاء بالضابط هاينز. ولكنها لم تتمكن من مقابلته إلا بعد أربعة أيام. حيث استقبلها في مكتبه. كان وجهه ممتقعاً، وحاول سؤالها بلغة ركيكة عن سبب حضورها، فأزاحات أم قضيمة الخرقة عن وجه الرضيعة وأشارت إليها.. ضاقت عيناه حين رأى الطفلة. وتذكر ذلك اليوم المشؤوم..تذكره بوضوح وأدرك أنه قد وقع في ورطة. ورطة كبيرة جداً.
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة