يعد اليوم الثاني عشر من يناير ٢٠٢٢م، اليوم الـ (٨٠) على التوالي لحالة الفراغ المطلق التي أحدثها الجيش السوداني في السودان – و لسنا بحاجة إلى تسمية ذلك بالفراغ الدستوري – بعد إنقلابه الأخيرعلى الحكومة الإنتقالية بقيادة الدكتور عبدالله حمدوك المغادر، مضافا إليها ما يزيد عن ٥٣ عاما سابقات من تعطيل الجيش لمشروع بناء دولة مستقرة في السودان، و هي المسئولية الكبرى التي يجب أن تحملها القوى السياسية و كل السودانيين لهذا الجيش الذي تتألف قيادته في غالب الأحيان من الأقارب و الأسر الصديقة التي تقود العمل السياسي في السودان. حيث تأكد بما لا يدع مجالا لأي إلتباس أن الجيش هو الآمر والناهي في جميع حالات القتل و الإغتيال و الدهس و الإعتقال و الإخفاء، بجانب حالة السيولة و الفوضى الإدارية التي يعيشها السودان بينها المتعلقة بعمليات التهريب النشطة و تحدث عنها صراحة مسئولون سابقون منها تهريب الدهب و المعادن عموما إضافة إلى مسألة إستيراد العملات المطبوعة و المخدرات، فضلا عن محاولة إحداث خلل أمني شامل وإلصاق جرائم القتل للشباب الأعزل البريء، أملا في إخماد الحراك الجماهيري المستمر لما يزيد عن الثلاثة أعوام. والغريب في هذا المشهد أن القوى السياسية السودانية – التي تدعي الثورة - لا تزال تتواصل فيما بينها وتحتفظ بعلاقات بينية طيبة رغم وضوح ضلوع بعضها في الجرائم الجارية من خلال دعمها الواضح للعسكر والعمل ليل نهار على غسيل جريمة الإنقلاب الأخيرة وكذلك المجازر المستمرة، كما لسنا بحاجة أيضا للتذكير بدور هذه القوى في إنقلابات الجيش السابقة ومشاركتها السلطات الإنقلابية في أكثر من مرة. وبالرغم من أن الجيش هو المسئول الأول في هذه الحالة والحالات السابقة، نرى أن معظم القوى السياسية ومنسوبيها من الناشطين يركزون بدرجة كبيرة على المليشيات التابعة للجيش أو القوى الصديقة له. فمثلا نجد أن الجميع يركز بصورة كبيرة على قوات الدعم السريع و قائدها محمد حمدان دقلو (حميدتي)، و كذلك على قوات الدفاع الشعبي وكتائب النظام السابق فيما يمتد آخرون إلى ضم قوات الحركات الموقعة على إتفاق سلام جوبا في أكتوبر ٢٠٢٠م ليحملها مسئولية الإنقلاب و كذلك عمليات القتل و الإجرام الجارية الآن، دون الوقوف على حقيقة أن الجيش هو من أوجد وأسس جميع هذه المليشيات وقطع الطريق أمام أي حوار سياسي حقيقي مع قوى المقاومة المسلحة يفضي إلى سلام جاد ينهي حالة الإحتراب السودانية التي تمتد إلى ما قبل إعلان يناير ١٩٥٦م. النهج الذي أتبع في التعامل مع المشكل السوداني على أنه مسألة أمنية بحتة من الجانبين – الجيش و القوى السياسية – منذ إنطلاقة أحداث توريت أغسطس ١٩٥٥م و وصفها بالتمرد و محاولة قمعها عسكريا، هو ذات النهج الذي تعاملت به القوى السياسية وقوى الحرية و التغيير - حاضنة الحكومة الإنتقالية تحديدا - في التعاطي مع إحتجاج بعض مكونات حكومة حمدوك الأخيرة و التقليل من شأنها ودعواتها المتكررة لإصلاح قوى الحرية و التغيير وبناء حاضنة شاملة تضم جميع قوى الثورة، إلا أن التقليل من شأن الإحتجاجات التي قادتها الجبهة الثورية و حزب الأمة لم يوقفها و لم يحدها نهج التجاهل، بل زاد من أوارها و تطورت إلى ما يسمى اليوم بقوى الحرية و التغيير - الميثاق الوطني التي عملت على تنظيم إعتصام القصر أو ما أسمته قوى الحرية و التغيير – المجلس المركزي سخرية بـ (إعتصام الموز)، الذي ساهم في خلق واقع إنقسامي للحاضنة السياسية للحكومة ما برر للجيش إنقلابه بالإدعاء بأن القوى السياسية منقسمة و متشاكسة، مع أنه كان من الممكن لقوى الحرية و التغيير – المجلس المركزي و بإعتبرها الجسم القابض، الإستماع إلى دعوات هؤلاء و معالجة الأمر حتى و لو كان من واقع قطع الطريق أمام الجيش الذي بدا واضحا أنه يتآمر مع القوى المضادة للإنقضاض على الجيش، ولكن إصرار قادة الحرية و التغيير على تجاوز المكون الأخرى لحكومتها أشبه بسلوك الجبهة القومية الإسلامية والقوى الأخرى في التعامل مع القضايا الخلافية طوال العقود الماضية إضافة إلى أن بعضها كان في إتفاق مع الجيش، في الوقت الذي كان يسخر بعض قادتها من رفاقهم بالقول "نحن أولاد بلد و ما بننتظر زول يحدد لينا نعمل شنو"، و هو ما يجعلنا نوصف هذه القوى وقادتها على أنهم محليو التفكير، لأنهم يعتقدون أن تفكيرهم المحلي - حتى و لو كان في الخرطوم التي هي مركز الفعل السياسي في السودان – يمكن أن يحدد مسار العمليج و السياسية و الدولة معا دون إعتبار الآخر أو ما يقدمه من طرح. وبغض النظر فيما إذا كانت دلالة تسمية إعتصام الموز تشير إلى حقيقة طبيعة الصراع المجتمعي في السودان أو حتى حقيقة إستخدام إعتصام القصر من قبل مجموعات القوى المضادة للثورة بقيادة الجيش، فإنه كان من الممكن لقوى الحرية و التغيير المجلس المركزي ممارسة سياسة تمكنه على الأقل من إيجاد توازن يعيق خطة الإنقلاب، إلا أنه و كما أسلفنا فإن الفهم المحلي للسياسي السوداني بصورة عامة و قوى الحرية و التغيير بصورة أدق جعلها تعجز حتى عن التأكد من وضع قدميها وتقييم من كان في صفهم مثل حركة العدل و المساواة بقيادة جبريل إبراهيم حتى قبل ٤٨ ساعة من إعلان ما يعرف بالميثاق الوطني من قبل الشق الآخر لقوى الحرية و التغيير هذا في حال أصرت هي على إبعاد المكونات الأخرى. وأيضا أنها كانت فرصة لقوى الحرية أن تصحح من أخطاءها السابقة – حيث ظل قادتها يكررون الحديث عن أخطاء لهم دون الإفصاح عنها - ولكن يبدو أن القاسم المشترك غير المعلن بين قوى الخرطوم السياسية عموما هو أن السياسة لها ولغيرها فتات المناصب ودون ذلك الحرب والإبعاد. و لكن يظهر أن محاولة إبعاد الجبهة الثورية من قبل الحرية و التغيير كانت مبيتة وبدأت من لحظة نقض الأخير لإتفاقه مع الأول في يوليو ٢٠٢٠م الذي كان من المفترض أن يضمن في الوثيقة الدستورية حسب الاتفاق، ولكن سلوك الحرية و التغيير في هذا الجانب أظهر طبيعة تفكير السياسي السوداني المحلية القاصرة، و هنا تساوت قوى الحرية و التغيير و الجبهة الثورية في أن الطرفين كانا ينظران على أن الاتفاق بين أي طرفين يعني محاولة الإحتكار و الإنفراد بالنصيب السلطوي و الإستحقاقات الناتجة لذلك دون النظر إلى المسألة الكلية، حيث أنه كان من المفترض على الجانب الأخر بأن تنظر الجبهة الثورية لعملية السلام بأنها عملية شاملة، وأن فرصة إزالة البشير يمكن أن تكون مدخل لتحقيق و بناء السلام و التأسيس لدولة مستقرة قوامها قيم الحرية و العدل و السلام. حيث أنه، وبالقدر الذي كانت ترى قوى الحرية والتغيير أنها المعنية بالسيطرة على مجريات الأمور في الخرطوم، كانت الجبهة الثورية من جانبها ترى بأنها معنية بإحتكار عملية السلام، بينما كان بوسعها إشتراط التوقيع على عملية إتفاق السلام مرهون بموافقة كل الأطراف الرافضة لمحتوى إتفاق جوبا بالإنضمام لعملية السلام من خلال إتفاق سلام شامل، وكذلك الإستفادة في ذلك من فشل الإتفاقات السابقة من خلال وضع آليات واضحة وناجعة تضمن عدم التراجع عن كل ما يتفق عليه، أولها مسألة الترتيبات الأمنية وكيفية إنشاء جيش وطني قومي موحد، لكون الجيش الحكومي الحالي هو الآلية التي ظلت تعيق عملية بناء الدولة و زعزعة الاستقرار بشكل مستمر في السودان. تنصل الحرية و التغيير من إتفاقها مع الجبهة الثورية في أديس أبابا من جهة وتجاهلها للقضايا الإستراتيجية مثل الحرب و السلام و العدالة و الهوية و العلمانية و نظام الحكم و الدستور الدائم و الإصرار و التركيز على الوصول إلى تسوية مؤقتة هشة مع كل من يحاول معالجة وضعه الخاص من قوى المقاومة المسلحة كما في الجبهة الثورية التي وقعت على إتفاق سلام جوبا التي جاءت وفق خارطة الطريق الموقعة بينها و بين نظام البشير مارس ٢٠١٦م، ما هو إلا تكرار لمحاولات تنصل الحكومات السودانية السابقة لتعهداها و هروبها الدائم من القضايا الإستراتيجية مثل تحايل الجبهة القومية الإسلامية على وثيقة إعلان المبادئ للإيغاد ١٩٩٤م التي تضمنت قضايا الديمقراطية و العلمانية و التوزيع العادل للثروة والسلطة التي كان من شأنها أن تحفظ وحدة السودان لو تم التوقيع عليها مع الحركة الشعبية، بدلا من الدخول في حملات الجهاد و معارك صيف العبور و قصص ملائكة وغزالات إسحاق أحمد فضل الله التي لم تسجل حضورها للمجاهدين الذين حصدهم الرصاص و الجوع معا في كل من أشوا و الميل ٤٠. أيضا فإن محاولة إقتراب قوى الحرية والتغيير أو إحتكارها للعلاقة مع العسكر من جهة وإبتعادها عن الجبهة الثورية وقوى المقاومة المسلحة الأخرى يظهر ثقتها في العسكر أكثر من قوى ثورية ظلت هي الأخرى توقع معها على إتفاقات وإعلانات مبدئية وتحالفاتات سياسية لمقاومة نظام البشير، وما يثير الإستغراب حقا في طبيعة هذه العلاقة و الثقة من جانب الحرية و التغيير في الجيش بدرجة أقرب إلى قول القيادي الإسلامي البارز د. غازي صلاح الدين "المسيحيين الإثيوبيين أقرب إلينا من المسلمين الجنوبيين"، أكثر من حليفهم الذي ظل يحارب نظام البشير وقاداته الذين هم قادة الجيش اليوم، الأمر الذي يؤكد بوضوح إختلاف الرؤى بين هذه القوى – الحرية و التغيير و الجبهة الثورية - و نظرتها للدولة القائمة و الجيش معا، رغم أن بعض مكونات الحرية و التغيير في وقت سابق كانت لها قوات عسكرية تقاتل في صفوف بعض مكونات الجبهة الثورية ضد هذا الجيش. ومع أنه ليس مبرر على الإطلاق أن تضع الجبهة الثورية يدها مع العسكر على حساب التحول الديمقراطي الذي تنشده في شعارات وطرح بعضها "الحرية، العدل، الديمقراطية، السلام"، إلا أنه يتضح أن الثورية دفعت دفعا للتحالف مع العسكر الذي يعترف بحقها السياسي – ولو ظاهريا بدلا من حليف الأمس الذي يحاول وضعها في إطار جغرافي محدد يشعرها بالعزلة والإختزال. لذا، فإن الإنقلاب الحالي يجب أن يكون فرصة لكل هذه المكونات، سواء أكانت الجبهة الثورية التي أُستغلت شر ما إستغلال وساهمت مع العسكر بطريقة مباشرة في إعاقة مشروع بناء دولة مستقرة في السودان، أو القوى السياسية الأخرى، للنظر بعين شاملة للأزمة السودانية، وأن محاولات فرض رؤى آحادية تحركها دوافع محلية، آيديولوجية كانت أو جهوية ما هي مضيعة للوقت وتأخير لبناء دولة حقيقية في السودان. لأن الذي يجري في كل المحاولات من هذه القوى – في هذه الأيام - هو محاولة فرض رؤى آحادية قاصرة مبنية على إخضاع أو إقصاء الآخر وهو ما فشلت فيه الدولة الرسمية في السودان طوال العقود الماضية، كما أن تركيز قوى الخرطوم على إستقطاب قوى مطلبية مصلحية كما في الجبهة الثورية لن يمكنها من طمس معالم القضية السودانية أبرزها الهوية والتاريخ وقيم إنسان السودان وانتماءه له.
يتواصل..
عناوين الاخبار بسودانيزاونلاينSudaneseOnline اليوم الموافق 01/11/2022
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة