|
Re: سيرة الخرطوم والدم .. (Re: يوسف الطيب احمد إدريس)
|
الحلقة الثانية
Quote: سيرة الخرطوم والدم .. من قتل مهدي الحكيم؟الحلقة الثانية عزمي عبد الرازق يوم الحادثة أنفق عمر نور الدائم وزير الزراعة حينذِ جل ساعات النهار في مكتبه، وكان يتهيأ لافتتاح مؤتمر الزراعيين العرب المنعقد بالخرطوم، تحديداً في فندق الهيلتون. بعد مغيب الشمس يكتظ المكان بالسفراء والوزراء، قليل من رجال الحراسة غير المسلحين، ووجودهم مُدخر لحماية ضيوف البلاد، بالطبع ليس من بينهم محمد مهدي الحكيم، الأخير هو ضيف مؤتمر الجبهة الإسلامية، لكنهم وللمفارقة "سينكرونه ثلاث مرات قبل صياح الديك" . سوف يشهد شيخ العرب عمر نور الدائم الجريمة من مسرحها الدامي، وسيكون مطلوباً بعيد ذلك للإدلاء بشهادته ، استرعى انتباه عمر نور الدائم في تلك الليلة بعض أصحاب النظارات السوداء وهم ينتشرون في فناء الهيلتون الخرطومي، كان عددهم لافتاً، وأحدهم يتخفى بعيداً، وكانت هنالك سيارة (مرسديس) دبلوماسية رابضة بالخارج، السائق يغطي وجهه (بطربوش) أبيض تعبره خطوط رمادية، قبيل ذلك بدقائق توقف ضيف البلاد الكبيرة جوار موظف الاستقبال وطلب مفتاح غرفته، مشى قليلاً في السجاد الفارسي، مشى بثقة عمياء، وهنا حدثت الكارثة. يحكي شيخ العرب ويقول : " والله العظيم ما رأيت أشجع من مهدي الحكيم قط، فعندما صاح أحدهم: من فيكم الشيخ الحكيم، رد عليهم بصوت لا زال يرن في أذني : نعم أنا الحكيم" .. إنه النداء الأخير والعمر يمضي إلى نفاد. نعود إلى لندن، المدينة الغارقة في الضباب، والتي سُيفتح فيها بعيد شهر تقريباً ملف سفر الحكيم الغامض إلى الخرطوم بعد مقتله، أوما عرف بسجلات اسكوتلنديارد، السماء ليست صافية والرؤية شبه مستحيلة، مما يجعل سيارة سعيد محمد تتخبط في الطرقات، لقد كان سعيد رئيس تحرير صحيفة (العالم) اللندنية يتأبط خطاب الدعوة، ويبحث من بين الأصدقاء عن اسم محمد باقر الحكيم الشقيق الأكبر لمهدي، يا لها من عائلة مفجوعة، لقد قضى أبناء المرجع الشيعي الأسبق آية الله محسن الحكيم التسعة اغتيالاً على يد أجهزة المخابرات، مستثنين من ذلك النجل الأكبر للحكيم، يوسف، الذي توفي في النجف بصورة طبيعية، ومحمد الذي أجله الموت كان مدعواً لمؤتمر الجبهة عوضاً عن مهدي الحكيم، وتم استبداله في اللحظة الأخيرة، قضى هو الآخر بانفجار في سبتمبر (أيلول) 2003 عند بوابة ضريح الإمام علي في النجف، أما مهدي، فسوف يستدرج ليقضي نحبه في فندق الهيلتون، وسيكون لتلك الجريمة تداعيات مجلجلة، لكون الرجل عالماً وشيخاً يمثل رقماً مهماً وخطيراً في الحسابات العالمية، معارضاً شرساً لنظام البعث، ووريثاً محتملاً للثورة الخمينية، بعيد تعريبها في بغداد، كما أنه ظل يمهد بقوة لطي الفوارق بين السنة والشيعة، ليأخذ الحوار بين الطوائف منحىً ايجابياً، وهذا ما جعله يقفز على بطاقة دعوة المؤتمر الإسلامي في الخرطوم، هنا سيجد كل رموز العمل الإسلامي، وفي هذا الأجواء كان الشقيقان بارعين، وكانا بنفس البراعة في عجزهما عن فهم ما تخبئه لهما الأقدار داخل الهيلتون، أو لأحدهما بالأحرى .
في ذلك اليوم الموعود كانت الخرطوم على موعد مع حفل الفنان شرحبيل أحمد، سوف تسهر حتى الصباح وترقص على وقع ضربات الجاز، بينما تتهيأ الجبهة الإسلامية لمؤتمرها، المنعقد في الفترة من 14 الى 16 يناير 1988م بمقر صالة الألعاب المغلقة، كان عدد المؤتمرين يتراوح ما بين الألفين والثلاثة آلاف، أما البيان الختامي، سوف يتلى في ميدان المولد جنوبي الخرطوم .
الجبهة كانت الواجهة السياسية للإخوان، ولكن التطورات كانت أسرع وأضخم وأكثف من أن تستوعبها الأجهزة التنظيمية، وكان الدكتور الترابي يحاول تداركها بجهد جهيد، وبصورة أخرى فإن الجبهة الإسلامية هى المرحلة التي تمكن فيها شعور الحركة بأنها تحولت من جماعة إلى مجتمع، ومن دعوة إلى دولة، ولذا يعتبر هذا المؤتمر العالمي تدشيناً لسياسة الإنقاذ الخارجية إلى حين، كل الثوار من شتى الأنحاء، ومن ضمنهم الحكيم، وبحسب رواية القيادي الإسلامي النور زروق فإن الحكيم لم يطلب حضور الجلسة الإفتتاحية، وكل ما ترجاه منهم هو مقابلة الترابي، دون تحديد طبيعة الأجندة التي سيناقشها معه، ولكنها غالباً تنحصر في كيفية التعايش بين السنة والشيعة، أكثر ما يؤرقه كرجل عراقي طامح في السلطة، وعندما أخطر الترابي بذلك قال لهم " إكرموه فهو ضيف السودان ولا يحضر المؤتمر" كان الوقت ليلاً، وكانت الساعة تجاوزت العاشرة بقليل، وهى الساعة نفسها التي كان مقرراً أن يلتقي فيها الحكيم كلاً من محمد يوسف المحامي والنور زروق، وسيقدمان له الدعوة لتناول الغداء في منزل محمد يوسف .
بعد الحادثة بسنوات قليلة يسافر الباحث في الشئون الإسلامية صلاح الكامل ضمن فوج سياحي إلى طهران، يتوقف ركبهم عند الحوزة العلمية في قم، ويلاحظ صلاح لافتة غريبة منتصبة على قبر السيد الحكيم الذي وري الثرى هنالك، الشاهد مكتوب عليه بالفارسية " هذا قبر الشهيد الحكيم الذي استدرج وغدر به في السودان، ولم يراع السودانيون أنه ضيفهم" لكن، ويا الدهشة بعد ثورة الإنقاذ، والانعطافة المشهودة في العلاقة بين البلدين توجه الحكومة الإيرانية بإزالة تلك اللوحة تماماً، ومما هيج الظنون أن الحكيم قتل بصورة غادرة، وبرز قصور بائن في شكل الحماية الغائبة، ما أدار كؤوس التلاوم المتبادل بين الجبهة الإسلامية وحكومة الصادق المهدي، والمثير في الأمر أن محمد الباقر الحكيم شقيق القتيل، والضيف الذي طاشته الدعوة، حضر إلى الخرطوم من إيران عبر طائرة خاصة لحمل الجثمان، وقال قولته التي أقضت مضجع المسؤولين في الدولة " دم الحكيم في أعناقكم حتى تقبضوا على الجناة وتحاسبوهم وتحاكموهم" لكن شيئاً من ذلك لم يحدث، أبداً، لقد فر الجناة على نحوٍ سينمائي .
بدت الشوارع عارية ومذعورة، الصحف دلقت زيت المطابع تحت وميض العيون، وما أثار دهشة رئيس قسم التحقيقات والمباحث الجنائية اللواء شرطة جعفر طلحة أن الترابي لم يخطر الحكومة بمقدم الحكيم، ولم يخطر الحكيم نفسه بدرجة خطورة وجوده في السودان، خاصة وأن الحكومة العراقية ممثلة في وزير الأوقاف شهدت ذلك المؤتمر ! بل أن الترابي حينما كان نائباً عاماً ذهب إليه طلحه وسلمه ملف القضية، وبدا له أن موقفه كان ضعيفاً وغامضاً وليس بحجم الحادثة المروعة، هنالك أيضاً رواية متداولة تشير إلى أن الإمام سعى للاتصال بالجبهة الإسلامية لتقديم الحكيم لها وحمايته بعد تسريبات أمنية عن تهديد حياته، وقيام الحكيم بوساطة بين الترابي والمهدي . تمضى الوقائع بشكل درامي هائل يشوبه الغموض، الجميع ينفون صلتهم بالحادثة، وتختفي الخيوط بمرور الأيام، لكنها سرعان ما تتكشف شيئاً فشيئاً، إذ أن العراقيين بصورة خاصة فوجئوا بالسفير حامد السعدون يطل عليهم من شاشة (فرانس 24) قبل أعوام قليلة، وفي الوقت نفسه تلسعه مكالمة من شخص مقيم في باريس يقول له «أنت مجرم وقاتل وأنت من قمت باغتيال آية الله السيد مهدي الحكيم في السودان قبل أكثر من ٣٠ عاما" لكن السفير درأ عن نفسه التهمة وألقاها بعيداً، واعترف لأول مرة أن العصابة التي اغتالت الحكيم يعمل معظم أعضائها في وزارة الخارجية الحالية، منهم سفير وقنصل وسكرتير أول دون أن يسمِ أحداً، وأشار إلى أن المنفذ الرئيس لـ «العملية الدنيئة» لم يعود للعراق وتم تعيينه قبل أربع سنوات ولازال سفيراً في إحدى الدول . ندنو الآن من اللحظات الأخيرة، اللحظات الشكسبيرية المعقدة، حيث يتولد الشر، كأن هاملت يتربص بضيوف النيلين، شيء نتن يحدث هذه المرة في غير دولة الدنمارك، يحدث في الخرطوم، وهو ذلك المزيج الغريب من الكراهية والرغبة في الانتقام وتوطين السلطة بأي ثمن، حتى ولو على حساب دم ابن أخيهم المهدور، وكان ثمة اجتماع يجب الإشارة له، تم في مكان ما بين الراحل الترابي والحكيم، استمر حتى الساعة الثامنة وعشر دقائق، ليعود الحكيم إلى الفندق بعد ربع ساعة فقط وهو مرهق جراء يوم طويل، يقترب من الفندق، يقترب من حتفه، يعبر البوابة الخارجية، يتوغل إلى البهو، لقد كان في انتظاره شخصان يبدو أنهما عراقيان، وفي لحظة يلوح ذلك الفتى ذو الملامح الغامضة بسلاحه فيشتت الانتباه، ينسل آخر من الخلف ويسدد طلقات مميتة إلى صدر الشيخ الحكيم، الرعب يبتلع المكان، الضربة الثانية تأتيه من حيث لا يحتسب، ولذا كانت قاتلة، بينما تصيب مرافقه في ساقه، بغرض شل حركته، حتى لا يفتدي سيده، ورغماً عن ذلك يتدحرج المرافق نحو الشيخ، لقد سددوا نحو أكثر من رصاصة، وبللت الدماء لحيته، لقد مات! بينما فر الجناة بسيارتين، الأولى حمراء مرسيدس والأخرى مرسيدس بيضاء مسجلات بأرقام دبلوماسية ، ولكن ما الذي حدث بعيد ذلك، بل من الذي قتل الحكيم؟ نطالع ونحكي .
|
| |

|
|
|
|
|
تعليقات قراء سودانيزاونلاين دوت كم على هذا الموضوع:
at FaceBook
|
|