يبدو أننا قد عدنا إلى مربع العظماء في السياسة في السودان أمثال الزعيم اسماعيل الأزهري بذكائه الحاد، والإمام الصادق بأدبه الجم وفكره المتقدم، والمحجوب حينما قال: (تعالج أزمات الديمقراطية بمزيد من الديمقراطية)، والشيخ علي عبد الرحمن بفكره اليساري برغم رئاسته لحزب الشعب الديمقراطي الطائفي- (الختمية)- وعبد الخالق محجوب بطرحه المبسط المقنع لنشر الوعي عبر الفكر الشيوعي المعقد، إذ عندما سأله جعفر نميري قبيل إعدامه في محاكمات الشجرة الشهيرة عقب انقلاب هاشم العطا عام 1971- سأله نميري في تهكم: (ماذا قدمت للشعب السوداني) رد قائلاً: (الوعي بقدر ما استطعت)، هذا الوعي الذي ذكره عبد الخالق هو الذي قاد ثورة الشباب في ديسمبر 2018 تحت الشعار القوي (حرية سلام وعدالة)، والإلتزام بسلمية حركة الجماهير التي اكسبت السودان تقديراً واحتراماً على مستوى العالم، خاصة بعد تحقيق النصر وإزالة نظام عاتي آيدلوجي عالمي حكم ثلاثين عاماً كأطول فترة حكم في تاريخ السودان. حمدوك سيكون امتداداً لتلك الأجيال من العظماء الذين عملوا في تجرد ونزاهة وعفة يد ولسان منذ الاستقلال، تحت رعاية محترمة من أبوين كان لهما الأثر في مسيرة التحول إلى الحكم الذاتي والاستقلال، هما الزعيم الهيبة والحكمة الإمام عبد الرحمن محمد أحمد المهدي، والزعيم الذيك اللّماح الملهم السيد علي الميرغني. حمدوك أعاد قطار الحراك السياسي السوداني إلى مساره الصحيح، حينما بدأ تصريحاته بمؤشرات إيجابية قيِّمة نذكر منها: بالرغم من ترشيحه بواسطة قوى الحرية والتغيير إلا أنه رئيس لكل السودانيين، الديمقراطية هي الشيء الوحيد الذي لا يمكن تعلمه، بل هي تأتي عبر الممارسة، وهو بهذا الفهم يقارب ما ذكره المحجوب عن أزمات الديمقراطية، ذكر أيضاً عملية السلام كإحدى الأولويات، ثم دلف إلى الوضع الاقتصادي وتحديد أن له برامج عاجلة إسعافية وأخرى طويلة الأمد، تبنى على تجويد الإنتاج، والاستغلال الأمثل لثروات السودان الهائلة، ثم تحدث عن ضرورة محاربة الفساد ومحاسبة المفسدين، وتحدث أيضاً عن ضرورة إعادة مجانية التعليم والعلاج كما كانت في السابق، وأخيراً إعادة الخدمة المدنية إلى سابق عهدها، وذلك بتطهيرها من كل التعيينات السياسية السابقة المعتمدة على الولاء قبل الكفاءة، وإبدالهم بشخصيات ذات كفاءة ونزاهة وخبرة عالية. يبدو من التلميحات في تصريحات السيد حمدوك في الشأن الاقتصادي، أنها ستفرز في البداية مؤشرات قد تبدو قاسية مثل تعويم سعر العملة حتى تستقر في معدل حقيقي عملي، مما يعني ارتفاع قيمة الدولار بعد أول سبتمبر إلى معدل عال كبير غير مسبوق، مما يؤثر على أسعار كل السلع والخدمات وهو علاج مؤلم لأمراض الاقتصاد، والتي خلفها النظام السابق، ولكن بمزيد من الصبر الثوري سوف تستقر الأوضاع الاقتصادية وتصبح الأسعار متوازنة مع دخول الغالبية العظمى من أفراد الشعب، وفي هذا الصدد نرجو أن نشير إلى السيد حمدوك بالابتعاد تماماً عن المخاطبة العاطفية غير العلمية والعملية، بالوقوف في الحياد بين المحاور الإقليمية حفاظاً على كرامة وعزة السودان. المصالح المشتركة هي التي يجب أن تحكم انحياز السودان إلى محور السعودية والإمارات وأمريكا ودول الغرب الأخرى- السعودية والامارات تعلمان أن مصلحتهما في السودان في العمالة المليونية من السودانيين لديهما، وهي عمالة تتمتع بكل الميزات والخصال والقيم غير المتوفرة في العمالة الأخرى، عندهم من السودانيين أكفأ الأطباء والمهندسين والإداريين معهم منذ عشرات السنين، وحتى العمالة الأخرى في مستويات أقل مشهود لها بالأمانة والنزاهة والشهامة والعزة والرجولة والصدق، إضافة إلى أن السودان أزال عنهما حرجاً بالغاً وقدم رجالاً من قواته المسلحة في كل جبهات القتال في اليمن.. سحب هذه القوات من اليمن سيكون ثمنه فادحاً للدولتين، أهم من كل ذلك أن السودان به ثروات هائلة في الزراعة والإنتاج الحيواني والتعدين، يمكن أن تستغلها الدولتان في مشاريع ضخمة مشتركة تعود الفائدة منها على الدول الثلاث السودان السعودية والامارات، إذ أن هذه الاستثمارات إذا مُنحت ميزات تفضيلية للدولتين يمكن أن تزيل حرج الهبات والمنح المجانية التي سوف تستبدل بمقدمات دفع لتنفيذ المشروعات. آخر تقرير من منظمة الأغذية العالمية أشار إلى أن السودان واحد من ثلاث دول في العالم مؤهل لحل مشكلة الغذاء، التي سوف تتفاقم في السنوات القادمة. أخيراً يجب على الحكومة المدنية عدم الالتفات إلى التصريحات والتهديدات المتواترة منذ إعلان الاتفاق الدستوري، لأن التحول الديمقراطي يعني وجود حكومة ومعارضة.. وفي هذا الصدد نقول للمعارضة الجديدة المتمثلة في المؤتمر الشعبي والجبهة الثورية أن ما حدث في السودان من تغيير أتى عبر مسيرات مليونية واعتصام مليوني غير مسبوق في العالم، وشهداء قرابة الألف، ومفقودين وجرحى، وبذلك يكون ما حدث في المقام الأول انقلاباً عسكرياً كاملاً بضغط جماهيري مستدام ومتواصل، فشلت فيه كل محاولات النظام السابق في إبطاله عبر مسيرات مناوئة أو قمع وحشي، لم تتدخل فيه قوات الجبهة الثورية في أي منطقة بعمليات تدعم الثورة الشبابية وتخفف عنها ضغط القوة المفرطة التي مُورست من النظام المباد. يجب أن تدرك المعارضة الجديدة أنه انقلاب عسكري لا يسمح بأي شكل أو جهة خارج عناصر الإنقلاب- تحديداً الجيش وقوى الحرية والتغيير- بالمشاركة في فترة انتقالية تُؤسس فيها دولة مدنية جديدة عبر انتخابات حرة نزيهة المشاركة فيها مفتوحة للجميع. لذلك على المعارضة الجديدة أن لا تثير غباراً في معركة من غير معترك، عليهم بالسمو والتحليق فوق الممارسات الموروثة منذ ثلاثين عاماً، المعتمدة على الابتزاز والتهديد الذي سوف يقابل- إذا وصل حد المواجهة- بمليونيات أقوى من شبابٍ لا يخشى الموت، ومؤمن بقضية وشعارات الحرية والعدالة والسلام، وتقابل بقوات مسلحة وقيادات فيها اتخذت الموقف السليم بالوقوف مع الثوار، وأصبحوا في خندق واحد من المصير المدمر لها حال تفاقم الأحداث ومحاولة وأد الثورة الظافرة بإذن الله.
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة
شوقى الفقس
فيس بوك
تويتر
انستقرام
يوتيوب
بنتيريست