بين الدين والإلحاد-بقلم:عمار سليمان...

مرحبا Guest
اخر زيارك لك: 04-23-2024, 07:11 AM الصفحة الرئيسية

منتديات سودانيزاونلاين    مكتبة الفساد    ابحث    اخبار و بيانات    مواضيع توثيقية    منبر الشعبية    اراء حرة و مقالات    مدخل أرشيف اراء حرة و مقالات   
News and Press Releases    اتصل بنا    Articles and Views    English Forum    ناس الزقازيق   
مدخل أرشيف للعام 2019م
نسخة قابلة للطباعة من الموضوع   ارسل الموضوع لصديق   اقرا المشاركات فى شكل سلسلة « | »
اقرا احدث مداخلة فى هذا الموضوع »
08-19-2019, 02:19 AM

سيف اليزل برعي البدوي
<aسيف اليزل برعي البدوي
تاريخ التسجيل: 04-30-2009
مجموع المشاركات: 18425

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
بين الدين والإلحاد-بقلم:عمار سليمان...

    02:19 AM August, 18 2019

    سودانيز اون لاين
    سيف اليزل برعي البدوي-
    مكتبتى
    رابط مختصر



    في إنتاج الرؤية للعالم ومعرفة غاية الوجود

    يهرع الإنسان في هذه الحياة المكثفة بكافة أنواع البلاء إلى نظرٍ يأوي إليه، يطلب منه ما يعالج توتر نفسه، وما يؤسس ليقين قلبه فالإنسان يمضي طالباً للمعنى ولا معنى دون الإقرار بوجود (الحقيقة)، وأي عملية منتجة للمعنى وللحقيقة لابد أن تمر عبر منهجٍ ورؤية.
    يقول الدكتور الطيب بوعزة مبيناً أهمية حضور هذا المفهوم للإنسان: "يشكل المعنى في حياة الإنسان خصيصة تميز نمطه في الكينونة إلى درجة يصح معها تعريفه بأنه كائن رامز أو كائن منتج للرمز والدلالات _أي أنه كائن منتج للمعنى_". -1-

    ومن خلال أهمية الرؤية للوجود والبحث عن المعنى يتشكل مفهوم الغاية الذي يعتبر من أخص خصائص هذا الكائن؛ فالإنسان الوحيد الذي يسأل عما بعد مماته ويتجه نظره نحو المقابر كما يتجه نحو حياته وملذاته، إذ لهذه الأسئلة طابع الحكم القهري على حياته فلا ينفك منها إنسان، وإن رام التخلص منها زادت من حضورها على عقله وقلبه.

    هناك نظرتان_منهجان_ تتصارعان على الإنسان من زاوية تكوين رؤية للعالم، النظرة الدينية والنظرة الإلحادية، وفي هذا المقال وما يليه سأحاول أن أتفحص أيهما أقدر على إنتاج رؤية تتناسب مع طبيعة الإنسان من جهة ومنحه غاية لوجوده من جهة أخرى، وعليه سيباشر المقال بسؤالين منهجيين:

    1. أيهما أقدر على إعطاء معنى للوجود الإنساني وتوجيه سلوكه، النظرة الدينية أم النظرة الإلحادية؟
    2. أهمية الغاية للإنسان وأي النظرتين أقدر على إنتاجها بما يكفل ديمومة مغزى السعي البشري؟

    إشكالية التأسيس الإلحادي

    في الإجابة على السؤال الأول، من المعلوم أن الإلحاد بصورته الجديدة يتجه لحصر مصادر المعرفة في العلم التجريبي والذي كان نتاجاً لتطور تم عبر ملايين السنين؛ ومن الطبيعي والمنطقي والحال هذه أن ينحصر إنتاج المعنى داخل هذا السياق المادي الدارويني.
    ولنفرض ونسلم جدلاً أن الإنسان هو نتاج لتطور مادي تم ضمن آلية التطور الداروينية، بناء على ذلك نحن أمام معضلة حقيقة استشعرها تشارلز دارون Charles Darwin نفسه حيث قال:

    "ينتابني دائماً شك فظيع حو ما إذا كانت قناعات عقل الإنسان، الذي بدوره تطور من عقول كائنات أدنى، لا تتمتع بأي قيمة أو تستحق أدنى ثقة". -2-

    ولقد طور الفيلسوف ألفن بلانتنجا Alvin Plantinga من هذا الشك برهاناً يضع الداروينية والإلحاد في مأزق حقيقي حيث يقول: "إذا كان العقل_ والذي هو الدماغ المادي_ قد طورته الطبيعة لتحقيق غاية بقاء النوع كما تفترض الداروينية في صورتها المعيارية، فإن هذا يعني أن أحكام العقل الأخرى إما ثانوية أو لا وزن لها، مثل حكم كون الفكرة "حقاً" من عدمها". -3-

    وبشكل مختصر بما أن العقل تطور من كائنات أدنى فكيف سيكون ما تطور عنها (العقل) له قيمة ذات مغزى؟!، وما دام العقل من الزاوية الأخرى تطور ضمن خطة _البقاء للأصلح_ التي لا تُعطي معنى الحقيقة والمعيار أي اهتمام = فكيف نثق بهذا العقل الذي تطور ضمن هذه الآلية العابثة!، بالإضافة إلى أن البقاء للأصلح ممكن دون عقل،بل الأعجب وكما سنرى في السلسلة القادمة من المقالات أن العقل سيقف ضد البقاء للأصلح باعتبار معناه الأخلاقي.

    وعليه نحن أمام انهيار لأداة من أهم الأدوات الأساسية لإنتاج المعنى والرؤية للوجود وهي إمكانية الإقرار بوجود الحقيقة عن طريق العقل، وباتخاذ هذه النظرة الداروينية ستنهار الرؤية الناظمة للحياة البشرة وينهار معنى الوجود ثم يسود ما أطلق عليه الدكتور حسام الدين حامد (وثوقية العدم).!

    لننظر للجانب الآخر الذي يؤسس لرؤية للعالم وغاية الوجود وهو الدين.

    لا ينظر الدين إلى الإنسان ككائن أحادي لا يمتد نطاق وجوده خارج السياق المادي، بل يوسع نطاقه فيجعله بدناً ونفساً وروحاً وبهذا تتفتح لنا مسارات أوسع وأكبر لمصادر المعرفة.

    في أول هذه المصادر (الفطرة).

    يقول شيخ الإسلام ابن تيمية:" فإن كون الحادث يحدث نفسه من غير محدث يحدثه من أبين الأمور استحالة في فطر جميع الناس، والعلم بذلك مستقر في فطر جميع الناس، حتى الصبيان، حتى أن الصبي إذا رأى ضربة حصلت على رأسه، قال: من ضربني؟ من ضربني؟ وبكى حتى يعلم من ضربه.

    وإذا قيل له: ما ضربك أحد، أو هذه الضربة حصلت بنفسها من غير أن يفعلها أحد، لم يقبل عقله ذلك، وهو لا يحتاج في هذا العلم الفطري الذي جبل عليه إلى أن يستدل عليه بأن حدوث هذه الضربة في هذه الحال دون ما قبلها وما بعدها، لا بد له من مخصص، بل تصور هذا فيه عسر على كثير من العقلاء، ذاك بهذا، من باب بيان الأجلى بالأخفى". -4-

    ويقول العالم التطوري جستن باريت Justin Barrett المتخصص في دراسة الأديان من منظور علم النفس المعرفي:

    "فيما يتعلق بقدرة الله المبدعة، يبدو أن أطفال سن ما قبل المدرسة قادرون على إدراك أن الله هو خالق الأشياء الطبيعية لا الأشياء المصنوعة، وأن الإنسان يصنع الأشياء المصنوعة لا الطبيعية". -5-


    فالإنسان لا يُخلق صفحة جرداء بيضاء كما يقرر جون لوك، بل يولد ولديه القدرة والأساس الذي يبني عليه باقي علومه، وبعد هذه الفطرة يقرر الدين أن للإنسان عقلاً هو مناط التكليف والتفكير، عقل يستطيع معرفة الخير والشر _وإن لم يكن بشكل مطلق _ يترقى من خلاله في اكتساب المعارف والعلوم وأيضا ينضج العواطف. -6-

    المصدر الثاني (العقل الذي هو مناط التكليف)

    يرفع الدين من قيمة الإنسان ويقر له بعقل هو مناط التكليف وبه كُرم، يتحسس الإنسان من خلاله وجود الحقيقة ويعلم وجودها وإن لم يحط بكليتها، ثم يترقى ويرتفع على سلم العلوم، ويكتسب فيها المعارف والأعمال ويستقبل به الشهوات ويحاربها، وفي هذا المعنى يقول الشيخ عبد الحليم ابن تيمية _والد شيخ الإسلام_:

    "الصحيح أن العقل لا يمكن إحاطته برسم واحد لكن المختار أن العقل يقع الاستعمال على أربعة معان إما بالاشتراك أو على أقل الاشتراك، ثم بعضها يطلق على ما تتم به الأربعة بالتواطؤ أو على بعضها مجازا.
    الأول: ضروري وهو الذين عنى به الجمهور من أصحابنا وغيرهم أنه بعض العلوم الضرورية لكنهم لم يجمعوا العقل بل ذكروا بعضه .

    الثاني: أنه غريزة تقذف في القلب وهو معنى رسم المحاسبي والإمام أحمد فيما حكاه عنه الحربي وهذا هو الذي يستعد به الإنسان لقبول العلوم النظرية وتدبر الأمور الخفية، وهذا المعنى هو محل الفكر وأصله وهو فى القلب كالنور وضوؤه مشرق إلى الدماغ، ويكون ضعيفا في مبتدأ العمر فلا يزال يربى حتى تتم الأربعون ثم ينتهي نماؤه فمن الناس من يكثر النور في قلبه ومنهم من يقل وبهذا كان بعض الناس بليدا وبعضهم ذكيا بحسب ذلك.

    الثالث: ما به ينظر صاحبه في العواقب وبه تقع الشهوات الداعية إلى اللذات العاجلة المتعقبة للندامة وهذا هو النهاية في العقل وهو المراد بقوله إذا تقرب الناس بأبواب البر فتقرب أنت بعقلك .
    الرابع شيء يستفاد من التجارب يسمى عقلا". -7-

    وهذا معنًى بديع للعقل وإن كنّا لا نستطيع الجزم أن اكتمال نمو العقل يكون في سن الأربعين، وأما باقي التعريف ففي غاية الروعة والدقة في مقاربته.

    المصدر الثالث (الوحي)

    على أهمية العقل الإنساني فإنه ليس جوهراً مفارقا لكيان الإنسان لا يعتريه نقص،بل فيه من النقص ما في الإنسان وهذا لا يلزم منه انهيار مفهوم الحقيقة إسلامياً لسببين:

    1. أن الدين يقر أن العقل يعي وجود الحقيقة والكثير من تطبيقاتها لكن ليس بشكل كلي،فهو يعي مثلاً أن الصدق حق والكذب باطل ولكن لا يستطيع معرفة بعض دقائق الحق والباطل كبعض دقائق التشريع وما بعد الموت، وصفات الخالق؛ لأنها تحتاج إلى وحي.
    2. لأن الدين لا يحصر مصادر المعرفة بالعقل وحده أو بالدماغ كما تفعل الداروينية، بل يربطها مع الفطرة والوحي فلا يلزم من قصور العقل في بعض الجوانب انهيار الحقيقة نفسها لأنها تعتمد عليه وعلى غيره.

    والعجيب أن العقل يعي قصور نفسه في معرفة (عين الحق) فيتجه نحو الخبر معتمداً على معيارية صدق المخبر (النبي) وهنا يأتي الوحي (عن طريق هذا النبي) ليحسم المناطق التي لا يستطيع العقل البت فيها ككيفيات العبادة ودقائق الأخلاق، وغاية الخلق و التعريف بالخالق، وبهذا تكتمل الصورة الدينية في تأسيسها للمعنى الوجودي للإنسان ومنها نحلق إلى أعظم غاية وهي غاية التعرف على الحق سبحانه.
    نسترجع ما كنا قد أسسناه في المقال السابق من أن الدين يوسع نطاق الوجود الإنساني، فلا يختزله بمادية لا تاريخ لها، ولا يسجنه في المعمل كما يسجن الحجر والبكتيريا تحت مقصلة العلم التجريبي، وقلنا أن أول المصادر التي يستند إليها الدين هي مصدر الفطرة ؛ الفطرة في إمكانية المعرفة، الفطرة في معرفة الأخلاق "فلقد دخل الإنسان التاريخ برأس مالٍ أخلاقي مبدئي هائل، لم يرثه من آبائه المزعومين من الحيوانات"(1).
    ثم بعد الفطرة يقرر الإسلام أهمية العقل للإنسان وأنه مناط التكليف مع إمكانية تحسسه للحقيقة واستيعاب وجودها وإن كان لا يستطيع تعيينها في كل حالة؛ لأن هذا خارج قدرته.
    ثم ننتهي لجبر هذا النقص في العقل الإنساني بتسليمه للوحي لوعيه بقصور نفسه= فتكتمل الصورة على أنسق ما يكون.

    ونأتي هنا لنفحص وجهة النظر الدينية من خلال السؤال المنهجي الأول (أيهما أقدر على إعطاء معنى للوجود الإنساني وتوجيه سلوكه، النظرة الدينية أم النظرة الإلحادية؟) ، فهل يلزم الدين ما يلزم النظرة الإلحادية من حيث القدرة على إعطاء المعنى للوجود وتشكيل رؤية للعالم يستظل بها الإنسان محتمياً أمام قوة أسئلته الوجودية؟

    من خلال التحليل السابق يتضح بشكل جلي أن من أهم محاسن الدين هو قدرته على تأسيس رؤية متناسقة مع الطبيعة الإنسانية دون أن يواجه تلك المعضلة التي يوجهها الإلحاد؛ فالدين لا يحطّ من قدر الإنسان وعقله ويجعل طلبه للحقيقة هامشيا ً كما يقضي به التطور، بل الدين مبناه الأساسي على رقي الإنسان وعلو مكانة عقله وأهمية طلبه للحقيقة، والدين لا يحبس الإنسان في كوة ضيّقة داخل المعمل، بل ينظر له ككيان قادر على استشعار الحقيقة والبحث عنها، و ككيان واعٍ بقصور نفسه فيتجه تسليما للوحي لتكتمل تلك الصورة من الجمال والإبداع الإلهي. وليكون القصور دافعاً لاستكمال طبيعته الكامنة واستثارة تقديره لأهمية الحقيقة، فإنه لولا القصور المذكور لكان الإنسان شيئاً آخر لا ندري ما هو أو لكان إلهاً.

    الدين وأهميته في تأسيس المعنى للوجود على المستوى التاريخي.
    ويضاف إلى هذه المحاججة في إنتاج المعنى بين الدين والإلحاد أنه على مر التاريخ" لم يسبق أن انتظم الوجود البشري دون بلورة رؤية دينية أو ميتافيزيقية ينهض عليها ذلك الوجود؛ الأمر الذي يبين أن الإنسان لا يستطيع أن يعيش في الوجود دون أن يستفهم عن معناه و يفكر في مدلوله".(2)

    وكمثال على هذا الانتظام يطرح عالم الأنثروبولوجي لويس مورجان وصف عجيب للعشائر القديمة فقد كانوا:

    - يحرمون العلاقات الجنسية خارج نطاق الزواج.
    - العضو الجديد كان يُقبل عن طريق احتفال ديني.
    - حسن معاملة أسرى الحرب واحترام إنسانيتهم.(3)

    وفي هذا المثال وفي غيره الكثير تتضح الجناية الأنثروبولوجية التي تنعت الإنسان الأول بأنه إنسان بدائي قريب للحيوانات من الناحية السلوكية، لا يعي وجوده ولا ينظم مملكته وفق معايير دينية وأخلاقية كبيرة، وطبعاً هذه العلاقات التي تبين الحق من الباطل في الزواج ومعاملة الأسرى تستند إلى أصل ديني ناظم لهذا الوجود.

    مثال تطبيقي على عدم إمكانية تأسيس المعنى للوجود بمعزل عن الدين (الفلاسفة الطبيعيون).

    الكثير من الدراسات بل وكتب التأريخ لحقبة فلاسفة الطبيعة يجزمون بأن طاليس وإنكسيمندريس وإنكسيمانس أسسوا فلسفتهم بناءً على نظرة طبيعية مادية ليس لها علاقة بالدين ومن ضمن قال ذلك المؤرخ يوسف كرم في كتابه (تاريخ الفلسفة اليونانية) وكذا زكي نجيب محمود وأحمد أمين في كتابهما(قصة الفلسفة اليونانية) ومن الغربيين: هيجل وراسل وهايدغر وغيرهم ممن اعتقدوا أن العقل اليوناني أسس تفكيره دون سند مسبق من دين أو اتصال بحضارة أخرى.!

    ولتفنيد هذه النظرة التي تدعي إمكانية تأسيس رؤية للعالم دون سند ديني يطرح الدكتور الطيب بوعزة قراءة نقدية في غاية الأهمية فيها تأويل جديد بوصل هذه الفلسفة مع ما قبلها بحيث تنطلق فلسفته من المثيولوجيا الدينية، حيث قد لاحظ كثير من الباحثين القرابة بين المبدأ الطاليسي والفكر الديني اليوناني، فعند أيتيوس نجد توكيداً على القرابة بين التصور الطاليسي للماء و التصور الميثولوجي الأوقيانوس_والأقيانوس هو إشارة للمحيط وإشارة إلى إله يوناني وطبعا _.(4)

    وأما مفهوم الأبيرون عند إنكسمندريس حيث يقول عن هذا المبدأ:

    "إلى الأصل الذي ولدت منه تعود الأشياء, حسب الضرورة؛ لأنه يجب أن يعوض بعضها بعضاً عن ظلمه تبعاً لتعاقب الزمن.

    هذه المقولة تحمل مفاهيماً أخلاقية ودينية من أمثال (ظلم وتعويض) ومفهوم العودة كل هذه المفاهيم تؤكد الطبيعة الإلهية للأبيرون لأن الإله هو الذي يعوض ويُعيد."(5)

    أكتفي بهذا القدر، ومن خلال هذه الأطروحة التي قدمها الدكتور الطيب بوعزة يتضح لنا أن فلاسفة ما يسمى بالطبيعيين لم يستطيعوا التخلي عن الأصل الديني_ بغض النظر عن صحة هذا الدين من عدمه_ لتكوين نظرتهم للحياة والوجود؛ مما يعزز وجهة نظرنا في هذا المقام: أنه لا يمكن أن ينفك الإنسان عن البحث الديني مادام يبحث عن أصل وجوده ومعناه، وما دام يبحث عن سبب تميزه بين هذه الكائنات وعن غايته في هذا الكون الشاسع البديع.

    وأخيراً
    نستطيع القول أن الدين أقدر على تأسيس الرؤية وإنتاج المعنى من حيث:
    1. نظرته المتسقة مع طبيعة الإنسان روحاً وجسداً ونفساً، ومن خلالها وسع نطاق مصادر المعرفة له لتتسق مع الفطرة والعقل والوحي.
    2. من خلال التأكيد التاريخي على أن الإنسانية الأولى لم تكن بربرية بل كانت تحمل أنظمة دينية واجتماعية في غاية الجمال، وممكن أن نختصرها بالمقولة الشهيرة المنسوبة بلوتارك: لقد وجدت في التاريخ مدن بلا حصون، ومدن بلا قصور.. ومدن بلا مدارس.. ولكن لم توجد أبدا مدن بلا معابد.
    3. تبيان عدم قدرة ما يسمى بالفلاسفة الطبيعيين من إنتاج رؤية للوجود دون النهل من المنبع الديني الموجود في ثقافتهم وثقافات الحضارات الأخرى.

    وبهذا يتجاوز الدين _والدين الإسلامي خصوصاً_ العقم الإلحادي الذي يحاول في البداية البحث عن المعنى ثم ينتهي بقتل مفهوم المعنى نفسه، ويكون أقدر على تأسيس رؤية متسقة بين الكون والوجود تنتظم فيها العلاقة بين كتاب الله الكوني وكتابه الشرعي.
    ننطلق في هذا المقال من حدث غريب حصل مع الجيش الأمريكي حيث وجد أن عدد المنتحرين من أتباعه فاق عدد المقتولين بالحروب حسب تقريراتهم -1-، وفي دراسة العلامات التي تظهر سبباً للانتحار عند الجنود كان عامل ضعف أو غياب القيم الروحية وغياب المعنى والغاية من الحياة عاملاً مؤثراً من عوامل الانتحار.

    و الحاصل أن أول نقطة يجب التنبه لها عند فحص أهمية الغاية داخل المنظومة الإلحادية هي تلك الحالة من القصور النفسي التي تنتاب الملحد عندما يعتقد أن الكون وجد عبثاً؛ فكيف لا يعتل وهو يجد نفسه مكبلاً في أفعالٍ لا معنى لها؟ وكيف لا يتجه للانتحار وهو متلبس في أحوال لا تشبع روحه التي قتلها عندما اعتقد أنه ورقة مهملة في شجرة الكون، يزرعها العبث ثم يحصدها الضياع.

    يقول الملحد الشهير نيتشة: "من عنده (لِمَ) يستطيع العيش تحت أي (كيف)".-2-

    إن ظروف الحياة تتشكل ضمن سلسلة من الضغط والتوتر؛ فتارة يخسر حبيباً فيدخل في دوامة اكتئاب تسحق القلب وتفتت الوجدان، وتارة أخرى يفقد ماله فتسحقه الحاجة وقلة ذات اليد، وتراه يسد الحاجة تلو الحاجة حتى يمل ويدخل في الضجر }لقد خلقنا الإنسان في كبد {( البلد:4)، فماذا يفعل الملحد أمام كيفية الحياة المرة؟ هل يتبع قول نيتشة ويبحث له عن (لِمَ) تعينه على تحمل مرّ الحياة وألمها؟ لندع الملحد الشهير ريتشارد دوكنز Richard Dawkins يخبرنا حيث أجاب عندما سئل عن سؤال لماذا فقال: "هذا سؤال لا معنى له بل إنه سؤال سخيف". -3-

    لقد حُلت القضية التي تؤرق حياة البشر منذ أن حطت رحالهم على هذه الأرض، لنهمل سؤال الغاية وتعليل ذلك _ركز أن إجابته إجابة تعليلة!_ أن سؤال (لماذا) لا معنى له، ولنتجه لتعميق البحث أكثر لماذا هذا السؤال لا معنى له إلحادياً؟

    يكمن الجواب فيما أشرنا إليه في المقالات السابقة حيث أن الحاصل في المنهج الإلحادي أن المعنى لا يتشكل خارج أسوار المعمل التجريبي، فلكي يكون سؤال لماذا له معنًى لابد أن يمر تحت أدوات الرصد والملاحظة.!
    العجيب أن إبطال مركزية سؤال لماذا في حياة البشر سينفي العلم التجريبي نفسه، فكيف ذلك؟

    "إن الأصل التي تبنى عليها أصول العلم الطبيعي التجريبي نفسها هي مسلمات غير مبرهنة تجريبياً!، ولا يناقش في وجود هذه المسلمات عاقل، منذ قدماء اليونان وحتى فلاسفة العلماء المعاصرين، قد يختلف رجال العلم الطبيعي وفلاسفته في اتساع دائرة هذه المسلمات الأولية، وقد يختلفون في ضرورة موافقتها للواقع من عدمها، لكنهم لا يزعمون أبداً أن العلم قد يُطلب من غير هذا العنصر الغيبي _اللاتجريبي_!.

    في ورقات بعنوان (طبيعية العلم الطبيعي والطريقة العلمية) أعدتها الجمعية الجيولوجية الأمريكية،استفتحت بذكر الافتراضات التي يقوم عليها العلم الطبيعي والمعرفة المبنية عليه منها:

    1- أن العالم له وجود حقيقي خارج حواسنا.
    2- أن الإنسان يستطيع فهم هذا الوجود الخارجي _الفيزيائي_ بدقة". -4-

    فكيف نثبت بأدوات العلم التجريبي أن العالم خارج حواسنا موجود؟ الجواب لا يمكن إلا استناداً للخبرة والفطرة البشرية، والخبرة والفطرة البشرية أدوات غير معترف بها تجريبياً، وكيف نثبت أننا نستطيع فهم الوجود والاستفادة منه؟ الجواب كالسابق، ولشدة حضور هذه الفرضيات الفطرية تعجب منها العالم الشهير آينشتاين حين قال: "إن أكثر الأمور غير المفهومة في الكون، أنه قابل للفهم". -5-

    الغاية من الوجود ملمح فطري.

    يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: "الصبي إذا رأى ضربة حصلت على رأسه، قال: من ضربني؟ من ضربني؟ وبكى حتى يعلم من ضربه.

    وإذا قيل له: ما ضربك أحد، أو هذه الضربة حصلت بنفسها من غير أن يفعلها أحد، لم يقبل عقله ذلك، وهو لا يحتاج في هذا العلم الفطري الذي جبل عليه إلى أن يستدل عليه بأن حدوث هذه الضربة في هذه الحال، دون ما قبلها وما بعدها، لا بد له من مخصص، بل تصور هذا فيه عسر على كثير من العقلاء". -6-

    يظهر في هذا المثال جلياً أن الأمر المحكم عند الطفل أن لكل سبب مسبب، فإن قلت له: أن هذا الفعل لم يفعله أحد بحكم أنه لم يرَّ الفاعل= لم يقبل عقله هذا التعليل ورد الأمر لفطرته وطلب الفاعل.

    والحاصل هنا أن مفهوم العلة يبدأ مع الإنسان منذ الطفولة ثم ينتقل معه شابا وكهلاً ييسر عليه طريقه ويخفف عنه كدر هذه الحياة؛ "فالإنسان فيه نزوع طبيعي نحو التعليل، حتى وإن جهل العلل الحقيقة للأحداث". -7-

    جمالية البحث عن الغاية.
    إن قيمة الجمال تنبع من ذاك الشعور بالاندهاش الذي يسيطر على الشخص عندما يظهر أمامه ذاك النظام الخلاب داخل بيت النحل أو حول قرى النمل، تظهر هذه الجمالية في تأمل العاملات والحارسات والملكة والخادمات راسمة لوحة الإبداع الرباني في تلك المملكة الصغيرة التي تُنتج عسلاً فيه شفاء ومنافع للناس لذة للشاربين!، وتتجدد هذه الصورة الجمالية على مداخل وادي النمل الذي بُني بصبر جميل لا يفتر ولا يلين، فتنبهر كيف لهذا المخلوق أن يشيد الممالك داخل منافذ التراب، فإن كُشفت تعجب الناظر واندهش.

    مملكة النمل ومملكة النحل
    والآن يأتي السؤال المهم: ما علاقة هذا الكلام في جمالية الغاية في الإلحاد؟

    نستعيد هنا إجابة الملحد الشهير ريتشارد دوكنز Richard Dawkins حين قال عن سؤال لماذا أنه سؤال سخيف، وبناء عليه لا يحق لنا أن نسأل أو نندهش من هذه الإبداعات، لابد أن نقتل حسنا الجمالي؛ لأنه يرشدنا مباشرة للاعتراف بأن هناك غاية وراء هذا الجمال، وأن هناك مبدع أبدع في خلقه من بداية الذرة إلى نهاية المجرة.

    والحاصل أن الإلحاد يحاول إسكات الحس الجمالي في حياة البشر؛ لأنه حس غائي، فعندما نرى هذه البيوت العظيمة من كائن صغير يتجه تفكيرنا رأساً لسؤال ملح بيانه: لماذا هذا الجمال ومن أبدعه؟ هذه الأسئلة يضيق الملحد بها ذرعاً؛ لأنه لا يجد داخل منظومته الإلحادية الطبيعية جوابأً عن هذا السؤال، بل خير ما يفعله هو قتل هذا السؤال في مهده لأنه سؤال سخيف ومن بعدها تكميم الاندهاش الإنساني لأنه لا يمكن تعليله بأدوات المعمل، فأي حياة هذه التي تسلب من البشرية أجمل ما فيها، وأي حياة بائسة تلك التي تغتال الأمل وتنحر النظر.!

    ملخص نظرة الإلحاد للغاية ونتائجها:
    1. أن الإلحاد يُنحي مفهوم الغاية لعدة تعليلات، من بينها أن مفهوم الغاية مفهوم سخيف، أو أنه لا يمكن فحصه مادياً فوجب عدم الالتفات إليه.
    2. بعد تنحية مفهوم الغاية يتم قتل الحس الجمالي، فلا معنى لهذا النظام المحكم في جميع مظاهر الكون، فعندما تنظر لتفتح الزهور عليك أن لا تندهش أو تسأل أو حتى تعلل، فهذا لا يتسق مع النظرة العلمية الجافة.
    3. وإذا تحرك هذا الحس الجمالي يوماً بسبب ما أُودع بالإنسان من فطرة، علينا حسب وجهة النظر الإلحادية أن لا نلتفت لهذا النداء العميق الذي ينبعث نوره داخل نفوسنا؛ فالفطرة لا دليل تجريبي عليها بل هي معنى غيبي لا يعول عليه.
    4. بعد قتل الحس الجمالي وإسكات نداء الفطرة يكون الجو مهيئاً لليأس والانتحار في حياة لا غاية فيها ولا هدف.
    5. وآخر هذه النتائج لتلك النظرة العقيمة للحياة نتيجة متناقضة، فبينما يعظم الملاحدة العلم التجريبي فإذ به يقوم على مسلمات لا تجريبي مرتكزة على مفهوم الغاية والغيب.
    وفي ختام هذا المقام نجدد السؤال الذي طرحناه في المقالات السابقة: أيهما يستطيع تكوين رؤية متسقة للإنسان وحياته الإلحاد أم الدين؟
    هكذا استعرضنا قدرة الإلحاد على تأسيس رؤية لمفهوم الغاية وفي المقال القادم نستعرض قدرة الدين ونظرته لهذا المفهوم المهم.
    عمار سليمان-إسلام ويب...


    هوامش المقال:

    1. . http://www.theguardian.com/world/2013/feb/01/us-military-suicide-epidemic-veteran
    2. Frankl VE. Man's Search of meaning: an Introduction to Logotherepy (I.Lasch Trans). Fourth edition . Beacon Press. P:84.
    3. https://www.youtube.com/watch؟v=LSZ_fsG5uMghttps://www.youtube.com/watch؟v=LSZ_fsG5uMg
    4. الإلحاد وثوقية التوهم وخواء العدم، حسام الدين حامد، صفحة 44-45.
    5. "Physics and Reality" in Journal of the Franklin Institute (March 1936).
    6. درء التعارض، شيخ الإسلام ابن تيمية، ج8-305.
    7. الدفاع عن الأفكار تكوين ملكة الحِجَاج والتناظر الفكري،د. محمد بن سعـد الدكـان ن مركز نماء للبحوث والدراسات، ص 184.








                  


[رد على الموضوع] صفحة 1 „‰ 1:   <<  1  >>

تعليقات قراء سودانيزاونلاين دوت كم على هذا الموضوع:
at FaceBook




احدث عناوين سودانيز اون لاين الان
اراء حرة و مقالات
Latest Posts in English Forum
Articles and Views
اخر المواضيع فى المنبر العام
News and Press Releases
اخبار و بيانات



فيس بوك تويتر انستقرام يوتيوب بنتيريست
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة
About Us
Contact Us
About Sudanese Online
اخبار و بيانات
اراء حرة و مقالات
صور سودانيزاونلاين
فيديوهات سودانيزاونلاين
ويكيبيديا سودانيز اون لاين
منتديات سودانيزاونلاين
News and Press Releases
Articles and Views
SudaneseOnline Images
Sudanese Online Videos
Sudanese Online Wikipedia
Sudanese Online Forums
If you're looking to submit News,Video,a Press Release or or Article please feel free to send it to [email protected]

© 2014 SudaneseOnline.com

Software Version 1.3.0 © 2N-com.de