|
Re: المجلس العسكري: جرجرةٌ وهفواتٌ وزلَّاتُ ل (Re: النصرى أمين)
|
المقال مرة اخرى فى صورته الاصلية:-
سايكوباثولوجيا الحياة اليوميَّة للمُتشبِّثينَ بالحُكم: جرجرةٌ وهفواتٌ وزلَّاتُ لسانٍ مُجَلجِلة إذا اعترفتم بالجُرمِ أمام القضاء، حسبما يُمليه ضميرٌ اِستيقظَ بغتةً، فبِها؛ وإلَّا، فسوف يُلاحِقكم العقلُ اللَّاواعي، بإملاءاتِه اللَّاإراديَّة، على رؤوسِ الأشهاد
بدأ القرنُ العشرون بدايةً مُبشِّرةً بتطويرٍ حاسمٍ لعلمِ الفيزياء؛ ففي عام ١٩٠٥ - "عام المعجزات" (أنَس ميرابيلِس) - نشرت مجلَّة "حوليَّات الفيزياء" أربعَ أوراقٍ من إعداد عالم الفيزياء الألمانيِّ الأشهر، ألبرت آينشتاين؛ من بينها الورقة التي صاغ ضمنها ما بات يُعرَفُ بـِ"النَّظريَّة النِّسبيَّة الخاصَّة"، التي لم تشمل تناولَ الجاذبيَّة. وفي عام ١٩١٥، تمكَّن آينشتاين من وضعِ "النَّظريَّة النِّسبيَّة العامَّة"، وصياغتِها رياضيَّاً في عام ١٩١٦، لِتشملَ الجاذبيَّة، وتتجاوزَ بذلك ما رَسَخَ في الأذهانِ بشأنِها على يدِ إسحق نيوتن؛ غير أنَّ إثباتَ تلك النَّظريَّة لم يتم إلَّا في عام ١٩١9، في أعقاب الحرب العالميَّة الأولى، تحت إشراف ثلاثةِ علماءَ فلكيين، أشهرهم الفلكيُّ البريطاني آرثر إستانلي إدنجتون. كان نيوتن يعلمُ أنَّ الضَّوءَ ينحني وينعطفُ عن مسارِه بالقرب من الأجرام السَّماويَّة الضَّخمة، كالنُّجوم على سبيل المثال، (ومن ضمنها شمسُنا المعروفة). إلَّا أنَّ آينشتاين قد تنبأَ بانحناءٍ مُضاعَفٍ للضَّوء، وأنَّ ذلك يحدُثُ - حسب نظريَّته - ليس بسبب الأجسام الضَّخمة، كما يبدو من أوَّلِ وهلة، وإنَّما بسبب انحناءِ البنيةِ المُدمَجةِ للزَّمانِ والمكانِ ذاتِها أو ما باتَ يُعرَفُ بالزَّمكان. ولم يكن من سبيلٍ إلى إثباتِ ذلك، إلَّا بحدوثِ كسوفٍ كُلِّيٍّ للشَّمس وفقَ ترتيبٍ فلكيٍّ مؤاتٍ؛ وهو ما تنبَّه له الفلكيُّ البريطانيُّ، فرانك واتسون دايسون، في حينه في عام ١٩١٦؛ وهو ما حدث بالفعل في عام ١٩١٩، وفق مسارٍ فلكيٍّ تمَّ رصدُه عبر كلٍّ من سوبرال، في شمال البرازيل؛ وبرنشيبي، قبالة ساحل غرب أفريقيا. ففي ذلك العام، وأثناء ذلك الكسوف الكُلِّيِّ الشَّهير، كانتِ الشَّمسُ رابضةً في قُبالةِ القلائص “هايديز" (وهي عنقودٌ نجميٌّ مفتوح في كوكبةِ الثَّور، يقعُ على مسافةٍ قصيرة بالحسابِ الفلكي من الشَّمس، تبلغُ 153 سنةً ضوئيَّة)؛ وهو عنقودٌ يمتليءُ بالنُّجومِ المتباعِدةِ والشَّديدةِ اللَّمعانِ والبريق، ممَّا يُسَهِّلُ عمليَّة تصويرِ اِنحناءِ ضوئها وتسجيلِها في شرائحَ فوتوغرافيَّة، تمهيداً لحسابِ درجةِ الانحناء؛ وكلُّما كثُرت النُّجوم الشَّديدةُ اللَّمعان، كلُّما زادتِ العيناتُ، وارتفعت نسبة الدِّقة في الرَّصد والتَّسجيل، ومن ثمَّ الدِّقة في تقدير حجم الانحناء. وقد تبيَّن ممَّا تمَّ رصدُه في أفريقيا، وهو ما تمَّ تأكيده في كسوفاتٍ كليَّةٍ لاحقة، أنَّ درجة الانحناء هي ضِعفُ ما ذكره نيوتن، الأمر الذي أثبت صِحَّة تنبؤ آينشتاين؛ علاوةً على أنَّه رَسَّخَ شُهرتَه، بينما رأى فيها البعضُ فألاً حسناً، جاء في أعقابِ حربٍ مدمِّرة، لِيشهدَ على عهدِ تصالحٍ بين خصمينِ لدودين؛ فصاحبُ النَّظريَّةِ عالِمٌ ألماني، ومُثبِتُ النَّظريةِ فلكيٌّ بريطاني، كانت تدورُ بين بلديهما رُحى حربٍ لا تُبقِي ولا تذَر. في عام ١٩٠١، كتب عالمٌ ذو صلةٍ بألمانيا كتابه الأكثر رَواجاً وشعبيَّةً؛ وهو كتاب "باثولوجيا الحياة اليوميَّة"، لمؤلِّفِه مؤسِّسِ التحليلِ النَّفسي، الطَّبيبِ النَّفسيِّ النِّمساوي، سيجموند فرويد. وتتلخَّص فكرة الكتاب في أنَّ نسيان الأسماء المعروفة، والكلماتِ الأجنبية، وترتيبِ المفردات في الجملة الواحدة؛ وهفوات التَّعبير الشَّفهي، وزلَّات اللِّسانِ والقلم، لا تتمُّ كلُّها بمحضِ الصُّدفة، وإنَّما يتحكَّمُ فيها منطقٌ صارم، يلعبُ فيه العقلُ اللَّاواعي دوراً حاسماً في إظهارِ ما ظلَّ مكبوتاً رَدَحاً من الوقت أو تمَّ إخفاؤه حديثاً خَشيةً من اِفتضاحِ أمرٍ جلل. إلَّا أنَّ نظريَّة فرويد في هذا الشأن لم تحظَّ بقبولٍ كاملٍ في أوساط المُشتغِلين بعلمِ النَّفس، واعتبرها البعضُ مجرد تكهُّناتٍ تفتقرُ إلى إثباتٍ علميٍّ - في تجربةٍ حاسمة - شبيهٍ بذلك التي لقيه تكهُّن آينشتاين بشأنِ اِنحناء الضَّوء، وإنْ لم يرقَ إلى مستواه في الأهميَّة العلميَّة. نحنُ هنا لا نُقدِّمُ إثباتاً حاسماً لرأيِّ فرويد، ولكنَّنا نطرحُ سانحةً للتَّأمُّل؛ ففي المؤتمرِ الصَّحفيِّ، الذي عقده النَّاطقُ الرَّسميُّ باسمِ المجلسِ العسكريِّ الانتقالي، محاولةٌ افتراضيَّة للتَّستُّرِ على جريمةٍ نكراء، وسعيٌ مظنونٌ لتشتيتِ الأذهانِ بالجرجرةِ والمماطلةِ وإنقاق السَّاعاتِ الطِّوال في الحديث المُمِلِّ لإحباطِ الثُّوَّار وكسرِ عزيمتهم، والتَّشكيكِ في وحدتِهم، بغرضِ النَّيلِ من قيادتِهم والتفافِهم حولها، لتمهيدِ الطَّريقِ لبقائهم في السُّلطة، وتشبُّثِهم بالحُكم. كما أنَّ المؤتمرَ الصَّحفيَّ يُوفِّرُ فرصةً نادرة للحُكمِ على مرتكبي الجريمة، في ضوءِ ما أدلى به النَّاطقُ الرَّسمي، على مرأًى ومسمعٍ من الصَّحفيين ووكالاتِ الأنباء، وشاشاتِ التِّلفزيون المحلِّيَّة والإقليميَّة والعالمية؛ وعلى خلفيَّةِ ما طرحناه حول نظريَّة فرويد بشأنِ الأخطاءِ المُرتكَبة وزلَّاتِ اللِّسان. لم يكن في الأمرِ زلَّةٌ واحدة، بل مهرجانٌ محضورٌ من الهفواتِ المُرتكَبة عن طريقِ اللِّسانِ والعلاماتِ غيرِ اللُّغوية؛ لكنَّنا سنُركِّزُ هنا على الأخطاء وزلَّاتِ اللِّسان، باعتبارِها ذاتَ صلةٍ بما أوردناه بشأنِ فرويد. ذكر النَّاطقُ الرَّسميُّ أنَّ المجلسَ العسكريَّ اجتمع وقرَّر فضَّ الاعتصام (بالرَّغم من أنَّه كان يرمي إلى إقناع المشاهدين والمستمعين بأنَّ المقصودَ من الفضِّ هو "منطقة كولمبيا"، مع ملاحظة أنَّه لجأ إلى ما يُسمَّى بلٌطفِ التعبير "يوفيميزم"، باستخدامِ كلمة "تنظيف"، التي لم تُفلِح في إزالةِ اللُّؤم عن فحوى كلامِه)؛ ولم يرعوِ النَّاطقُ في توريطِ كلِّ المتواطئين في ارتكابِ الجُرمِ المشهود، من رئيسِ المجلسِ إلى رئيسِ القضاء (الأمر الذي أسقط عنه أحقيَّة الاضطلاعِ بالتَّحقيقِ المطلوب مع المتَّهمينَ بارتكابِ الجريمةِ النَّكراء). كما أشار النَّاطقُ الرَّسميُّ إلى الضبَّاط الذين ساندوا الثَّوار ودافعَ عنهم، بالقولِ إنَّهم "تجاوزوا" (بالرَّغم من أنَّه كان يرمي إلى القول بأنَّهم "انحازوا"). من جانبٍ آخر، حَفِلَ كلامُ عضوٍ آخرَ بالمجلسِ العسكريِّ بالتَّهديد الصَّريح والمبطَّن، ولم يخلُ حديثُه أيضاً من الهفوات؛ وقال إنَّ السُّودان ليس هو فقط "قوى الحرِّيَّة والتَّغيير"، وليس هو "تجمُّع المِهننِّين"؛ فحزبُ الأمَّة والمؤتمر السُّوداني لديهم كوادرُ يُمكِنها تشكيل حكومةٍ انتقاليَّة؛ وبما أنَّ هذَيْنِ الحزبَيْن هما من ضمن "قوي الحرِّية والتَّغيير"، فهل يكشفُ هذا الخطأ دافعاً مُبَيَّتاً لشقِّ الصَّفِّ أم يُنبئُ عن مغازلةٍ لِخَصمِيْنِ معروفَيْن؛ أمِ الاثنينِ معاً. أمَّا إذا تركنا زلَّاتِ اللِّسان جانباً، واعتمدنا رواية النَّاطق الرَّسمي بالقولِ إنَّ المقصود من الفضِّ كان "منطقة كولومبيا" وإنَّ الغارةَ العسكرية تحوَّلت عن طريق الخطأ في تنفيذ التَّعليمات إلى حملةٍ غادرة على ساحة الاعتصام - إذا اعتمدنا هذه الرِّواية المهزوزة، فإنَّ ذلك لا يُخلِّصهم من الشَّرك الفرويدي الذي التفَّ حول أعناقهم بإحكامٍ شديد؛ فمؤسِّسُ التَّحليل النَّفسي، سيجموند فرويد، يري في نفسِ الكتاب المذكور أنَّ زلَّاتِ اللِّسانِ والقلم، إضافةً إلى الهفوات، والأعمال التي يتمُّ تنفيذُها عن طريق الخطأ، كلُّها توشي عن رغبةٍ دفينة في إخفاء الدَّوافع ووضعها تحت رادار العقل الواعي، إلَّا أنَّ العقل اللَّاواعي يكشف على الدَّوام عن الرَّغباتِ المكبوتة. في الختام، يُمكِنُ القول: بما أنَّ عدداً من الزَّلَّاتِ والهفواتِ قد حدثت في مؤتمرٍ واحد، وأنَّ قفاها المُدَّعاةَ كان هو الآخرُ خطأً فظيعاً، ومراميه الدَّفينةُ أسوأ وأفظع، فلا مناصَ لهم من تحمُّلِ تبعاتِ ذلك الفعلِ الشَّنيع، ولا مكانَ هنا للمتشكِّكينَ في قولِ فرويد، فهُم مُدانونَ برأسِ قولِه وقفاه؛ فإذا اعترفتم بالجُرمِ أمام القضاء، حسبما يُمليه ضميرٌ اِستيقظَ بغتةً، فبِها؛ وإلَّا، فسوف يُلاحِقكم العقلُ اللَّاواعي، بإملاءاتِه اللَّاإراديَّة، على رؤوسِ الأشهاد.
| |
|
|
|
|