مدخل: تمثل مدينة المجلد مركز ثقل في ولاية غرب كردفان، وتعتبر من أكبر مدن الولاية، وذلك لأنها تضم مركز الناظر التاريخي الفذ الراحل المقيم، بابو نمر، وحالياً يقيم بها إبنه الناظر مختار بابو نمر، ناظر المسيرية العجايرة، والـذي جلسنا اليه في منزله في حـوار اشتمل على تاريخ المنطقة عامة عبر ذكريات والده الناظر بابو نمر وعلاقاته مع الناظر ً دينق مجوك ناظر دينكا نوك بمنطقة أبيي، ونسبة لضيق الزمن وضيق مساحة الحوار حاولت أن اتطرق لأهم القضايا في المنطقة في الماضي والحاضر، كما اشتمل الحوار على أهم موضوعات الراهن السياسي في البلاد. فالى مضابط الحوار.. *السيد الناظر، حضرنا إليك بغرض اجراء حوار صحفي - مرحبا بــكم، وأنــا "قلبي مـقـاشر إلا الصحفيين ّ والجلابة!". *لماذا تكره الصحفيين؟ -الصحفيين "كضابين"، لأنهم يزيدون الكلام، وقبل فترة هناك صحيفة نشرت بأنني هددت الحكومة وأمهلتها 24 ساعة وإلا سوف ندخل إلى أبيي، وبالرغم من أنني لم أقل هذا الكلام إلا أنني لم أنفه خوفاً من محاسبة الصحفي. *ولكن هل يعني ذلك أن تعمم الأمر على كل الصحفيين؟ -لا بالطبع، ولكنني أردت أن انبه الصحفيين الى ضرورة توخي الدقة في النقل والتزام المصداقية، حتى لا يؤثر ذلك على سمعتهم في المجتمع. *ولماذا أنت غاضب على " َّ الجلابة"؟ -السبب هو عدم اهتمامهم وتفاعلهم مع قضية أبيي، وأذكر مرة أنني كنت في الخرطوم مع أخي الصادق بابو نمر، وقابلنا السفير المصري اسامة شلتوت، وكان أول سؤال له عن منطقة أبيي، وقلت له إن كل السفراء زاروا منطقة أبيي ما عدا السفراء العرب، وكذلك أهلنا " ّ الجلابة" لم يكتبوا عن قضية أبيي ولم يحضر الينا أي وفد منهم للعزاء، ولم يشاركوا معنا في السابق في حرب الجنوبيين، وفي التسعينات عندما أعلن قرنق أنه سيدخل الخرطوم عبر الدمازين، نحن سافرنا الى هناك وقاتلنا وظللنا دوماً نقاتل دفاعاً عن السودان، ولذلك نريد " ّ الجلابة" وبقية أهل السودان أن يكونوا معنا في السراء والضراء. *هل أنت غاضب على المسيرية أيضاً؟ -لا، لأنه ليس هنالك سبب يدعو الى ذلك، والمسيرية أينما التفت أجدهم أمـامي، ولذلك لا يوجد ما يجعلني أغضب عليهم. *أرجو أن تحدثنا عن سيرة والدكم الناظر بابو نمر، وكيف تولى النظارة؟ -الناظر بابو نمر عندما توفى والده كان عمره 14 عاماً، واجتمعت قيادات أهله من العجايرة وأصروا على أن يتولى مهمة الناظر في تلك السن المبكرة، وفي ذلك الوقت كان هنالك مأمور مصري اسمه مختار ابوفريدة، وذهب الى اخوال الناظر بابو نمر وطلب منهم أن يعينوا وكيلاً للناظر ولكنهم رفضوا وقالوا له لابد أن يكون الوكيل من أعمامه، واستقر الرأي على تعيين جبر علي مسار والذي استمر وكيلاً للناظر حتى بلغ سن 27 عاماً، وبعد ذلك أصبح يدير أمور القبيلة من دون مساعدة مباشرة، وقد ذكر الناظر بابو نمر أن ذلك جعله يشعر بالأسف لأنه لم ُيترك ليكمل اللعب واللهو مثل أقرانه من الشباب، حيث تولى المسؤولية في سن مبكرة، ولكن هذه التجربة جعلته ِ يكتسب الكثير من الخبرات والحكمة التي اشتهر بها بين كبار أهل القبيلة، ورغم أنه كان لا يجد وقتاً للجلوس معنا كثيراً إلا أنني كنت أكثر اخواني ملازماً له وجلوساً معه. *كيف كانــت العلاقة بين الناظر بابو نمر والناظر دينق مجوك؟ - كانـــت بـيـنهـما عـلاقـات صداقة قوية، ولذلك عندما أراد والدنا أن يتولى دينق مجوك الـنـظـارة كانــت هنالك عقبة تقف أمام ذلك هي أن الدينكا من عاداتهم أن يتولى النظارة عندهم إبن المرأة الأولى، ولم يكن هذا الـشرط ينطبق على دينق مجوك، وكان عمنا رحمة الفريع يعمل مترجماً للناظر بابو نمر في المحكمة، فقال له إن والدة دينق مجوك تمت خطبتها في الأول وعليه يصبح دينق مجوك هو إبن المرأة الأولى، وبذلك وافق دينكا نوك على أن يتولى النظارة. *ماذا عن ذكريات الناظر بابو نمر مع الانجليز؟ - عندما ذهب الناظر بابو نمر إلى بريطانيا، طلب أن يزور مجلس العموم البريطاني، وحينما شاهد أعضاءه كلهم من كبار السن، قال: "الانجليز غشاشين"، هناك في السودان يحولون كل من تجاوز عمره الـ 60 عاماً الى المعاش وهنا يحولوهم الى مجلس العموم. *كيف ترى الادارة الأهلية حالياً؟ - الادارة الأهلية حالياً "قرفة شرطها عدد"، وهذا المثل يعني أن القرفة والتي تتكون من شقين من اثنية الجلد والـتي تحمل في السفر والمسير، وعندما يقطعها عود من الشجر فإنها تصبح بلا فائدة، وهذا هو حال الادارة الاهلية حالياً، حيث انها أصبحت بلا سلطات، وقديماً كانت للادارة الاهلية هيبة وسلطة؛ فمثلاً الناظر بابو نمر كان يقضي فترة الصيف جنوباً في البحر وكانت المحكمة تتحرك معه، وكان المحكوم يأتي بنفسه من هناك الى سجن المجلد حاملاً معه أمر الحكم ويدخل السجن بكامل اراداته، وكان مرتب الناظر حوالي 125 جنيه وكان يعادل مرتب مدير مديرية كردفان الكبرى، وكانت تخصص للناظر عربة لجمع الضرائب ومال الدية وحل المشاكل والاحتكاكات التي تحدث بين الرعاة وفـروع القبيلة المختلفة، ولكن حالياً لا توجد سلطات، ومثلاً مرتب العمدة 150 جنيها وهي لا تكفي لشراب القهوة، والامير مرتبه 25 جنيهاً، َ والأدهى وأم ْر أن هذه المبالغ الزهيدة لم يتم صرفها منذ ثلاث سنوات، وحالياً المجرم يمتلك المال والسلاح والعمدة أعزل ولا مال له، فكيف له أن يتمكن من حفظ الأمن وهو لا يملك اي سلطات قضائية أو ادارية. *هنالك مقولة منسوبة للناظر بابو نمر، قال فيها حينما وصلت السكة حديد الى بابنوسة، "إن الادارة الاهلية قد انتهت"؟ - ما أعرفه أن هناك مظاهرات كانت تخرج ضد الادارة الاهلية، وفي عام 1971م عندما زار الرئيس الاسبق نميري المنطقة وكان هناك طلاب يهتفون ضد الادارة الاهلية، وكان الناظر بابو نمر معه بعض اقربائه، فقال لهم "اذهبوا اسقطوها معاهم وهي ساقطة بيكم وبلاكم". *قبل التطرق إلى مشكلة أبيي، هلا حدثتنا قليلاً عن الناظر دينق مجوك؟ - الناظر دينق مجـوك كان انسان عظيم وشخصية متفردة، وكان مشبعاً بثقافة وقيم أهلنا المسيرية، وكان لديه منزل في المجلد، وهو على سبيل المثال يختلف عن سلاطين الدينكا في الجنوب، حيث أنه لم يعرف عنه "العرى" وهو أمر شائع هناك، ولم يأكل "الفطيسة"، وكان له اعرابي مختص بالذبائح، واذكر كان هناك احد ابناء الدينكا إسمه منليك، وكان يسكن في المجلد وأراد الناظر دينق مجوك أن يتزوج ابنته مقابل عشر بقرات، ولكنه رفض بشدة وعندما علم بابو نمر بالأمر ذهب اليه وقال له معاتباً لماذا تريد الزواج من ابنتي في الحي من غير مشاورتي، وقابل الناظر بابو نمر والدها وقابلها وبفضله تم الزواج، والآن لديها بنت طبيبة خريجة جامعة الخرطوم. * نرجو أن تحدثنا بالتفصيل عن تاريخ منطقة أبيي ومن أين أتى إليها الدينكا؟ - تاريخياً دينكا نــوك كانــوا يسكنون في يامبيو، وكلـمـة "نوك" عند الدينكا تعني القرقر أو القرقور، وهو نـوع من السمك معروف في السودان، وحينما دخلوا في حروب مع القبائل الجنوبية هناك طرودهم فاتجهوا شمالاً وجــــاءوا الى منطقة أبـيي الحالية، وطلبوا السماح لهم بالسكن شمـال بحر العرب، فوافق أهلنا المسيرية على ذلك ، ثم طلبوا أن يعملوا بالزراعة وأيضاً وافـقـوا لهـم، وكانت لهم حروب مع عدد من القبائل في الجنوب والشمال، ووقعنا معهم اتفاقيات للتعايش وقد تمت الاشارة اليها في بروتوكولات السلام الخاصة باتفاقية نيفاشا، واذكر أننا في فترة مفاوضات السلام ذهبنا الى التشاور في اديس ابابا وكان هناك وفد من المسيرية ووفد من دينكا نوك، وكان يدير المشاورات السفير الامريكي السابق ومبعوث السلام للسودان مستر غريشن، وعندما اتاح الفرصة للناظر كوال دينق مجوك للحديث، قال إن المسيرية عبارة عن رعاة ورحل وليس لهم اقامة في أبيي، وقال نحن الدينكا بيوتنا موجودة في المنطقة ونقوم بتجديدها كل عشرين عاماً لكن المسيرية ليس لديهم أرض ولا توجد لهم آثار في منطقة أبيي، وعندما منحت لي الفرصة قلت له: يا كوال "الضيف بياخد من سيد البيت وليس العكس"، والآن فإن الزي الذي يلبسه الناظر كوال هو زي يخص المسيرية، والعربية التي يتكلم بها الناظر كوال هي تخصنا ولكن هناك مفردات مشتركة نعرفها نحن ودينكا نوك وهي عادات الشلوخ والسنون والدقن، فهل يفعل دينكا نوك هذه العادات بما يشابه عادات الدينكا في الجنوب، أم أنهم تشربوا بعادات المسيرية، ولعل ردي هذا هو ما جعل السفير غريشن يقرر بأن للمسيرية حقوق في أبيي، وأضفت أن الناظر كوال والد دينق مجوك جاء الى جدي نمر الجلة وقال له عاوزين "نعرس لي مجوك"، وبعد فترة جاء دينق مجوك راكب حصان وذهب الى جدي وأعطاه 12 بقرة للمساهمة في زواجه، وذكرت أن الناظر كـوال دينق مسلم واخـوه امـام مسجد أبيي و%40 من دينكا نوك مسلمون، وقـلـت لهــم إن أبناء الناظر دينق مجوك هم زكريا واحمد وعبد االله وعــلي وحـسـن، وعليهم الـذهـاب الى أخــيهــم فـرانـسـيـس دينق وسؤاله هل كان الناظر دينق مجوك يلبس ويـتـبـع عــادة خــتــان الــذكــور مثل الـشمـالـيـين أم مثل الدينكا، وهل للدينكا خيول، فقد كان يركب الخيول، وهل توجد لديكم عادة "الجرتق" في الـزواج أم اخذتموها من العرب؟ وختمت حديثي بالقول: إن المسألة لو كانت مسألة اللون الأسود للبشرة فإن هنالك أحياء في العاصمة يجب ان تتبع الى الجنوب أيضاً..! *ذكرت أن هنالك تعايش كان قائماً بينكم وبين الدينكا في أبيي، كم من الزمن استمر ذلك؟ -استمر لفترة قرن كامل، في الفترة من 1905م الى 2005م، وقد كان للدينكا أيام الحكم الانجليزي أعضاء في مجلس ريفي المسيرية، بل إن الناظر بابو نمر كان قد أصر على أن يتولى الناظر دينق مجوك رئاسة مجلس ريفي المسيرية في إحدى المرات لتأكيد ذلك التعايش. *ماذا حدث بعد ذلك؟ - الــذي حــدث يمثله المثل الشعبي:"الحسنة في الملعون.."، لأن أبـنـاء الدينكا كانــوا يـدرسـون على حساب مجلس ريفي المسيرية ولا يدفعون رسوما للدراسة، وكانوا كذلك معفيين من ضرائب الأبقار، وحالياً لديهم أكثر من مائة طبيب بشري بخلاف التخصصات الأخــرى، وكل هـؤلاء درسـوا على حسابنا وبدلاً من الشكر وتقدير ذلك أصبحوا يناصبوننا الـعـداء، ومنهم وزيــر خارجية جنوب السودان الحالي، دينق الور، والذي درس معنا حتى الثانوي وكان مسلماً وكان اسمه أحمد. *هل كان ديـنـكا نــوك في السابق يتبعون لمديرية بحر الغزال؟ - لم يحــدث ذلــك ولم يتبعوا لهــا ولا يـــوم، وكان المفتش الانجليزي لا يصل اليهم من الجنوب بل من كردفان لدفع ضريبة "الدقنية"، وهي ضريبة مفروضة عـــلى الأشخــــــاص، وكانــوا لا يدفعون ضريــبــة المـــواشي كمـا ذكــرت بسبب اعفائهم من مجلس ريفي المسيرية، وقد وصلوا الى منطقة أبــيي الحـالـيـة في عام 1932م في عهد الناظر دينق مجوك، وقد كانت ولا زالت حدودنا الجنوبية حوالي 65 كلم جنوب بحر العرب، ويرجع هذا الى تاريخ دولة المهدية، والناظر كوال اروب ذهب مع قيادات المسيرية الى ام درمان وبايع المهدي وقيل إنه أسلم، وكان معه احد اخوته وقد اهداه الإمام المهدي "حربة" وعندما رجع سمى احد ابنائه على المهدي. *من أين جاءت تسمية بحر العرب؟ - ٌكل يطلق عليه اسم حسب لغته، ونحن نسمية بحر العرب ولدينا شيخ يسمى ابولقية لديه ضريح جنوب بحر العرب، وهو معروف لكل الدينكا وهم يسمونه بحر كير، لأنهم يطلقون ذلك على الجرف او البحر، ولكن الشاهد أن الدينكا لديهم عادة هي أن السلطان يدفن في منزله والناظر كوال اروب مدفون جنوب بحر العرب بحـــوالي 600 مــتر ولـيـس لديهم سلطان مدفون في أبيي الحالية إلا الناظر دينق مجوك وابنه كوال. إذن ما هي المستندات التي يعتمد عليها الدينكا في أحقيتهم لمنطقة أبيي؟ ليس لديهم أي مستند، ونحن أحضرنا أكثر من 25 مستندا مكتوبا ترجع الى تاريخ الحكم الانجليزي منذ العام 1902م، وباعتماد حاكم عام السودان في ذلك الوقت. *ألا تكفي هـذه المستندات لحسم تبعية أبيي؟ - هي كافية إذا توفر العدل والانـصـاف، وحينما ذهبنا الى محكمة لاهــاي نحن ودينكا نـوك لم تتح لنا فرص الحديث بل كان يتحدث نيابة عنا عدد من المحامين وكذلك هم، ولكن يمكن الرجوع الى شهادة القاضي الاردني عون الحصاونة وهي توضح انه لم يكن هنالك انصاف، ومن بين هذه المستندات ان هنالك رحالة انجليزي اسمه "مستر كرزون" كان قد امضى حوالي سنتين بالمنطقة وكتب أنه لم ير أيا من الدينكا في منطقة القوز أو بحر العرب. *هل تعتقد أن ادعــاءات أبناء الدينكا هذه قد جاءت بسبب البترول أم أن هنالك تدخلات خارجية؟ -أولاً البترول يمثل أهم هذه العوامل لأنهم يظنون أن المنطقة غنية بالبترول، ولكن السبب الاهم هو أنهم إذا لم يتمكنوا من ضم أبيي إلى الجنوب فلن يكون لهم مكان وسط باقي قبائل الدينكا، لأن مسألة الارض أمر حاسم عندهم، ولأن المنطقة في الأصل منطقة مسيرية وقد جاءوا إلينا مطرودين من الجنوب واستضافهم فيها الناظر حسب طلبهم واستقروا في أبيي والتي كانت تسمى النعام دينق مجوك، وقد ذكرها الدكتور فـرانـسـيـس ديــنــق في أحد كتبه.
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة
عمر صديق
فيس بوك
تويتر
انستقرام
يوتيوب
بنتيريست