|
Re: للنقاش: منهج تفسير القرآن بالبحث فيه (Re: عبد الوهاب السناري)
|
تطبيق منهج تفسير القرآن الكريم بالبحث فيه
يتميز هذا المنهج بتفسيره للنص من خلال مقارنته بالنصوص المرادفة له، وتفسر مفردات النص بالبحث في تكرار هذه المفردات في القرآن الكريم. ويبدأ التفسير بجمع جميع النصوص التي تتطرق إلى نفس الموضوع الذي يتضمنه النص موضع البحث، ومن ثم يتم تفسيرها جميعاً بحيث تتسق معاني جميع هذه النصوص مع بعضها البعض. وتشبه هذه العملية إعادة تركيب إجزاء الصورة التي تم تقطيعها وبعثرتها. فلا يمكن إعادة الصورة إلى حالتها الأولى إلا إذا أعيدت جميع قطعها إلى موضعها الذي كانت عليه قبل التقطيع، وهو ما يتطلب الكثير من الجهد والمثابرة وفرض الإحتمالات وتكرار إعادة لم شمل هذه القطع.
يعتمد هذا المنهج المعنى الظاهر للنص مع الأخذ في الإعتبار التعابير البلاغية التي يتضمنها. فإذا أردنا البحث عن ماهية أكل آدم وحواء من الشجرة على سبيل المثال لزمنا إتباع العديد من الخطوات بمنتهى الصرامة. ويبدأ بحثنا بجمع جميع النصوص التي أشارت إلى أكل آدم وحواء من الشجرة:
وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلاَ مِنْهَا رَغَداً حَيْثُ شِئْتُمَا وَلاَ تَقْرَبَا هَـذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الْظَّالِمِينَ (35): سورة البقرة (2).
وَيَا آدَمُ اسْكُنْ أَنتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ فَكُلاَ مِنْ حَيْثُ شِئْتُمَا وَلاَ تَقْرَبَا هَـذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ (19): سورة الأعراف (7).
فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ لِيُبْدِيَ لَهُمَا مَا وُورِيَ عَنْهُمَا مِن سَوْءَاتِهِمَا وَقَالَ مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَـذِهِ الشَّجَرَةِ إِلاَّ أَن تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ (20): سورة الأعراف (7).
فَدَلاَّهُمَا بِغُرُورٍ فَلَمَّا ذَاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُمَا سَوْءَاتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِن وَرَقِ الْجَنَّةِ وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَن تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُل لَّكُمَا إِنَّ الشَّيْطَآنَ لَكُمَا عَدُوٌّ مُّبِينٌ (22) سورة الأعراف (7).
فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطَانُ قَالَ يَا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لَّا يَبْلَى (120): سورة طه (20).
فَأَكَلَا مِنْهَا فَبَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِن وَرَقِ الْجَنَّةِ وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى (121): سورة طه (20).
ومن ثم يتم إستخراج جميع التعابير التي إقترنت بالأكل من تلك الشجرة: ("وَكُلاَ مِنْهَا رَغَداً"، "وَلاَ تَقْرَبَا هَـذِهِ الشَّجَرَةَ"، "فَكُلاَ مِنْ حَيْثُ شِئْتُمَا"، "مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَـذِهِ الشَّجَرَةِ"، "فَلَمَّا ذَاقَا الشَّجَرَةَ"، "أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَن تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ"، "هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لَّا يَبْلَى"، "فَأَكَلَا مِنْهَا"). وتسمى هذه التعابير بالدلائل أو الإيماءات أو الإشارات القرآنية للموضوع.
تتمثل الخطوة التالية في جمع المفردات الدالة التي إشتملت عليها هذه الدلائل أو الإيماءات أو الإشارات القرآنية للموضوع: "الشجرة، الأكل، رغد، ذاق". ويمكن تعريف المفردات الدالة بأنها المفردات الرئيسة ذات الصلة بالموضوع موضع البحث، أي ماهية الأكل من الشجرة. ومن ثم يتم البحث في ورود هذه المفردات الدالة وجذورها في القرآن الكريم. ومن ثم تُجمع النصوص التي وردت فيها هذه المفردات الدالة وجذورها، إما مجتمعة (أكل وشجر على سبيل المثال) أو بمفردها. فإذا بحثنا عن الجذر: "شجر" في القرآن الكريم لتبين لنا أنه ورد فيه مرةً واحدة فقط بمنعى التشاجر بين الناس. كما أن الجذر: "شجر" ورد في القرآن الكريم 26 مرة بمعنى الشجرة. الجدير بالذكر أن الجذر: "شجر" لم يرد في القرآن الكريم قط بمعنى الجنس.
أما الجذر: "أكل" فقد ورد في القرآن الكريم 110 مرة، إما بمعنى الأكل الحقيقي أو بمعاني أخرى مجازية. فما ورد للتعبير عن الأكل الحقيقي إشتمل على أكل الناس والأنعام والطير والسبع والذئب والنوق والنحل ودابة الأرض. أما المعاني المجازية فقد تمثلت في أكل الناس للنار، وأكل النار للقربان، وأكل الناس للأموال والربا والسحت والغنائم، وأكل الأزواج لما طابت به نساؤهن لهم، وأكل سبع بقرات سمان لأخرى عجاف، وأكل السبع سنوات عجاف لما إدخره القوم في السنوات السبع السمان. وكما هو الحال مع الجذر: "شجر" فإن الجذر: "أكل" لم يرد في القرآن الكريم قط بمعنى الجنس.
أما الجذر: "رغد" فقد ورد في القرآن الكريم ثلات مرات. وقد إقترن وروده بأكل آدم وحواء من الشجرة المحرمة، وبأكل بني إسرائيل من القرية، وبالرزق الذي كان يأتي لأهل القرية. فالنتيجة الحتمية هنا أن الجذر: "رغد" إقترن في القرآن الكريم فقط بالأكل والرزق. وكما هو الحال مع الجذر: "شجر" والجذر: "أكل" فإن الجذر: "رغد" لم يرد في القرآن الكريم قط بمعنى الجنس.
أما الجذر: "ذوق" فقد ورد في القرآن الكريم 63 مرة إقترن فيها بالشجرة والرحمة والنعماء والبرد والشراب العذب والخزي والوبال والسوء والفتنة والضعف والبأس ولباس الجوع والموت. وكما هو الحال مع الجذر: "شجر" والجذر: "أكل" والجذر: "رغد" فإن الجذر: "ذوق" لم يرد في القرآن الكريم قط بمعنى الجنس.
وإن أصر بعد هذا إنسان أن الأكل من الشجرة المحرمة إقترن بالجنس في القرآن الكريم فما عليه إلا أن يبحث في النصوص التي أمر المولى، جل شأنه، فيها آدم وحواء من الأكل من الشجرة والتي ورد فيها الجذران: "أكل وشجر" في الآية 35 من سورة البقرة والآية 19 من سورة الأعراف، وكذلك في الآية 121 من سورة طه والذي أشار فيه القرآن الكريم إلى أكل آدم وحواء من الشجرة والذي ورد فيه الجذر: "أكل" وأُشير فيه للشجرة من دون التصريح بها. ومن ثم تتم مقارنة هذه النصوص وبين النصوص التي ورد فيها كلاً من الجذرين: "أكل وشجر":
وَشَجَرَةً تَخْرُجُ مِن طُورِ سَيْنَاء تَنبُتُ بِالدُّهْنِ وَصِبْغٍ لِّلْآكِلِينَ (20): سورة المؤمنون (23).
لَآكِلُونَ مِن شَجَرٍ مِّن زَقُّومٍ (52): سورة الواقعة (56).
فإن بينتْ لنا جميع هذه النصوص أن الأكل من أي شجرة كما ورد في القرآن الكريم يدل على أكل حقيقي من شجرة حقيقية، فكيف يجوز لنا القول أن منع آدم وحواء من الأكل من الشجرة دليل على منعهما من ممارسة الجنس؟
يستند هذا المنهج على أسس وقواعد ثابتة لابد من تطبيقها بمنتهى الصرامة وعدم الإنتقائية. يقتضي أول هذه الثوابت الإيمان المطلق بقدسية وقطعية النص القرآني، وبعلو مرجعيته فوق كل مرجعية أخرى. ويجب علينا الإقرار بصحة ومصداقية المعنى الظاهر للنص القرآني، حتى وإن بدا متعارضاً مع التفاسير المأثورة، أو مع ما هو متعارف عليه من قواعد اللغة والعلوم اللغوية المختلفة، أو مع المعارف الحديثة، أو حتى مع روايات الحديث. فقدسية القرآن الكريم هي التي تعصمه من الخطأ، وتضع مرجعيته فوق كل مرجعية، حتى على مرجعية الحديث. ففي كثير من الأحيان قد تختلف روايات الحديث، حتي التي صنفت بالصحيحة، حول تفسير نفس النص. وما نُقِل لنا من الرسول الكريم (ص) قد يكون عرضةً للحذف أو الإضافة أو التغيير المتعمد أو غيره. وقد تخل إضافة أو حذف غير مقصودين في رواية ما بمعني الحديث، خاصة إذا تعلق ذلك بالحقائق القرآنية.
لا تقتصر قدسية القرآن الكريم وعلو مرجعيتة فقط على معاني النص القرآني، بل أيضاً على الإيماءات والإشارات الأخري المتضمنة في النص، من علوم اللغة وقواعدها، ومن سياق الآيات وصياغها وغيرها من بيان ونحو وصرف وبلاغة.
ولابد من الإعتراف بأن آيات الحقائق القرآنية لا تنسخ بعضها بعضاً، بل تتوافق مع بعضها البعض، لأنها تتضمن حقائق مطلقة لا تتغير بمرور الزمن. وعليه يجب التسليم بأنها تفسر وتكمل بعضها البعض، ولا يمكن بأية حال من الأحوال أن تناقض بعضها البعض. وإن عثر الباحث أو المفسر على أي تناقض جوهري بين نصين أو أكثر، فلابد أن يدل ذلك على حدوث خطأ في فهمه لأحد هذه النصوص أو لجميعها.
كما يجب أيضاً عدم الأخذ بأي تأويل أو تفسير أو رأي يتعارض مع أي نص من نصوص آيات الحقائق القرآنية. وكذلك لا يحق لنا إعتماد أي قصة، إلا إذا إتسقت أحداثها مع جميع النصوص ذات الصلة بها.
| |

|
|
|
|
|
|
Re: للنقاش: منهج تفسير القرآن بالبحث فيه (Re: عبد الوهاب السناري)
|
مناهج التفسير التقليدية
إعتمد رواد التفسير ثلاثة مناهج رئيسة لتفسير القرآن الكريم: التفسير بالحديث والتفسير بالرأي والتفسير بالقرآن الكريم. ففي المنهج الأول يتم تفسير النص القرآني بما ورد إلينا من روايات الحديث. لكن سمة الضعف الرئيسة لهذا المنهج تكمن في تناقض روايات الحديث التي تتعلق بنفس الموضوع أو النص مع بعضها البعض، وهو الأمر الذي يضعف إمكانية تفسير النصوص التي إختلفت حولها روايات الحديث تفسيراً قطعياً. كما أن العديد من روايات الحديث تناقض نصوصاً صريحةً. وعليه، فإن إعتماد منهج التفسير بالحديث لا يُمَّكننا من الوصول إلى تفسير جازم لأي نص قرآني، إلا إذا أشارت جميع الأحاديث الصحيحة إلى نفس النتيجة، وهو أمر نادر الحدوث. فأفضل ما يمكن تحقيقه عند تطبيق هذا المنهج هو طرح العديد من الإحتمالات التي يمكن تفسير النص عليها. ولا يمكن إعتبار مثل هذه الإحتمالات تفسيراً جازماً أو قطعي الدلالة لأن نصوص الحقائق القرآنية قطعية الدلالة وتتطرق إلى حقائق قرآنية لا خلاف حولها.
وعندما تختلف روايات الحديث حول أحد النصوص، غالباً ما يلجأ المفسرون إلى منهج التفسير بالرأي، أو منهج تفسير القرآن الكريم بالقرآن نفسه، لحسم خلافاتهم. فعند إعتمادهم منهج التفسير بالرأي، غالباً ما يستدل المفسرون بعلوم اللغة، من معانٍ ونحو وصرف وبلاغة وبيان ونثر وشعر وغيرها، لتأييد هذا الرأي أو لإضعاف ذلك الرأي، على أساس أن اللغة العربية هي لغة القرآن الكريم. ولكن لم يميز متبعوا هذا المنهج بين المعنى اللغوي والمعنى القرآني للمفردة القرآنية، والذي قد يكون محصوراً فقط على بعض المعاني اللغوية لتلك المفردة. ويتم الوصول للمعنى القرآني لأي مفردة من خلال البحث عن تكرار ورودها في القرآن الكريم.
ويأخذ بعض أنصار هذا المنهج بمجازية النص بدلاً من الأخذ بظاهره. فقد يختار الباحث الذي يعتمد منهج تفسير القرآن الكريم بالرأي معنىً بعينه، من بين العديد من المعاني اللغوية لمفردةٍ قرآنية أو تعبير قرآني بعينه بصورة إنتقائية. فهُم، على سبيل المثال، يقولون أن الجن أو الملآئكة جنس متخفي من الناس، أو أن منع آدم من الأكل من الشجرة المحرمة يدل على منعه من ممارسة الجنس. ولكن لم يميز أنصار هذا المنهج التفسيري بين البلاغة في التعبير وبين رمزية النص. فالقرآن الكريم زاخر بالتعابير البلاغية المتعارف عليها في اللغة العربية، والتي يمكن فهمها ضمن صياغ النص. فقد يدرك القارئ على سبيل المثال أن "يد الله" قد وردت في القرآن الكريم من باب المجاز، لأنه جل شأنه، منزه عن التشبيه بمخلوقاته. ولكن ترك المعنى الظاهر للنص جانباً وإستبداله بمعني رمزي من خيال المفسر يفتح باب التأويل على مصراعيه لكل من هب ودب.
إعتمد بعض رواد التفسير الذين فطنوا لهذه الحقيقة منهج تفسير القرآن الكريم بالقرآن نفسه، والذي يتم فيه تفسير النص القرآني بمقارنته بنصوص أخرى تكَّمِله وتشرحه. يتميز هذا المنهج التفسيري بأنه يتخذ من القرآن الكريم مرجعيةً له لتفسير نصوصه. ولكن، طُبِق هذا المنهج بصورة إنتقائية في الماضي نسبةً لعدم وجود حواسيب تسهل عملية البحث في القرآن الكريم. وكان البحث عن تكرار مفردةٍ أو معنىً بعينه يجري بإعتماد المفسرين فقط على ذاكرتهم، وكان ذلك أحد الأسباب الرئيسة وراء قلة شيوع هذا المنهج إلا مؤخراً، حيث سهلت الحواسيب عملية البحث في القرآن الكريم. لكن ما زال معظم المفسرين يطبقون هذا المنهج بصورة إنتقائية، ولم يتم تطويره كمنهج ذو قواعد وأسس راسخة.
| |

|
|
|
|
|
|
|