"إنت لازم تدخل مصحة للأمراض العصبية والنفسية يا هود ..!!"
سمعت هذه العبارة مرارا بذات اللهجة الساخرة المشفقة من صديقي ،الدكتور سالم سبيل وهي تعبر عن تجاهله التام لماظللت أحدثه عنه طوال الساعتين الماضيتين وربما هي السبب الرئيسي لدعوته لي للعشاء في هذا المكان المقفر الذي يسميه سالم دوما بالحديقة فهو يتكون من بضع مصابيح على أعمدة موزعة بصورة عشوائية في المكان الواسع الملئ بالزكائب وبقايا أخشاب وسلاسل حديد و أجزاء .معدنية يبدو أنها بقايا سيارات قديمة مما يجعل المكان أقرب للمظلم منه الى المضئ ، وتتناثر فيه كراسي بلاستيكية بيضاء وطاولات من نفس لون ومادة الكراسي ، وشباب من مختلف الأعمار يدخنون النرجيلة وبعضهم يلعب الورق ، وخريجو جامعات من مختلف التخصصات فمنهم المحامون والمهندسون والأطباء والمثقفون وأغلبهم عاطلون عن العمل وبعضهم حديث العهد بالوظيفة وأغلب نقاشاتهم تدور في الوضع السياسي وفي كيفية الهجرة الى أوروبا ولكنهم لا يقوون على فعل شئ من هذا ولا ذاك سوى الحديث المكرور الممجوج حتى صارت أحاديثهم وأمالهم جزء من مكونات المكان،هذا هو المكان الذي يحبه سالم صديقي منذ أن تعرفت عليه عندما كان قادما من إحدى دول الخليج بعد أن نال الشهادة الثانوية وقرر والداه أن يلحقاه بإحدى كليات الطب في السودان ولما خضعت شهادته للمعادلة من قبل وزارة التعليم العالي والبحث العلمي السودانية تراجع تقديره مما اضطر أسرته الى إلحاقه بإحدى كليات الطب الخاصة المنتشرة في الخرطوم ، لم يكن صديقي يعلم أن معادلة الشهادة هي الفخ الذي نصبته الحكومة لأبناء السودانيين العاملين بالخارج للدخول في غيابت التعليم الخاص الذي تدفع رسوم الدراسة فيه بالدولار الأمريكي ، فهم يتعلمون كالأجانب تماما دون مراعاة لحقهم كسودانيين تدفع أسرهم الاف الدولارات كضرائب للدولة دون أن تلقى مقابلها خدمة تساوي جنيها واحدا ظللت أتأمل ملامحه الخشنة وعيناه الضيقتان ووجهه الذي يبدو أكبر من اللازم وكرشه الضخمة المتمددة في إهمال حتى طرف الطاولة البلاستيكية وجبهته الواسعة العامرة بالبثور والحبوب وملابسه صارخة الألوان المتداخلة بإهمال متعمد يسميه المجانين فنا وهي التي تجعله أقرب لفنان فوضوي منه الى طبيب، هو عموما شخص طيب القلب ليس له أي إهتمامات أخرى سوى تشجيع الكرة الخليجية ومتابعتها وهو يحب التحدث عن كل شئ حديث العارف ببواطنه وأسراره ، هذه عادته منذ أن عرفته ،ولأني أؤمن بأن الآخرين أيضا يمكن أن يكونوا على حق ،بت أفكر فيما قاله،ربما يرى ما لم أره أنا في مرآتي التي دائما تعكس إتجاهات الأشياء في عالمي ، أو ربما لم يكن يدري بأنني منهك من هذا العالم الهمجي فالكل فيه يمضي نحو المجهول ويدور في تروس ماكينة ضخمة تعارك الوهم وتغذينا به لنتحرك نحن وتتحرك هي لتفرخ المزيد من المطحونين أبناء الملاجئ والشوارع الذين يعمرون الأرصفة ويرسموا لوحة عالمهم الملون بالبؤس والجهل والأمراض، أنهكني الجوع والتعب والتفكير فيما يمكن أن يكون ومانحلم به ونريد له أن يرى النور في هذا العالم المظلم. يدفعني الطموح وتقيدني تصاريف الدنيا بأغلال لا أقوى علي الفكاك منها، فأنا مكبل بالموروث والمعتقد والتقليد وغير مسموح لي ببلوغ الحلم الذي أرنو إليه ، أنا الذي سقيت الخوف مخلوطا بلبن أمي وجئت هذه الدنيا حافيا لأمشي على درب ترصفه الأشواك ولا أبكي لأن البكاء يجعل القيد يضيق أكثر على جسدي وروحي ويؤلمني وربما يقتل بقية ما نجا من أشيائي البائسة. أمي قالت بأن البكاء يغسل الروح ويجعل العيون أكثر نقاءا بعد تخلصها من كدر الحياة ، أنا لا أؤمن بذلك البته ولكني أراه ضعفا وإستسلاما ربما لأن موروثنا علمنا بأن الرجال لايبكون وحين يبكون فإن هذا يعني هنالك أمر جلل قد حدث ولابد من أن يكون هنالك فعل قوي سيعقب بكائهم ، هكذا يقولون ..!! لم أعد أقوى على التفكير في الحياة ياصديقي، لا أحد يحدثني عنها،فكل يحدثني عن الموت ومابعده ، كل يقول لي أفعل ولا تفعل .. لا تعترض فتطرد ،وإن تخترق تحترق، عشت سنينا خائفا جائعا متعبا مهموما وغبت عن الحياة في خلوتي هاربا من لعنتكم أيها الناس،لأفكر في طريق للفكاك من الفخ المحكم الذي أعيش بداخله ووجدت أخيرا باب الخروج ، خرجت عاريا كما ولدتني أمي مثل أرشميدس حين أكتشف قانون الطفو ،وأنا أردد :وجدتها وجدتها ، إنها لعنة التمرد التي تلاحقنا منذ أن هبط أبونا آدم على سطح الأرض، مسكونون بالقيود والحبس والفرار ونعشق العصيان ، جبلنا على حب الغضب والعراك والخطيئة، ونكره الإستسلام والخنوع منذ الأزل وإلى الأزل،نحن القادمون من الجنة لنعيش في هذا الجحيم،وأعلنت كفري صراحة بكل ما آمنت به القطعان وتلاشت الأغلال من حولي وخرجت حرا مزهوا ومنتشيا فلا شئ يكبلني من جديد ورأيت أني أحمل في دوخلي حلمي وأمضي مهتديا بنوره الباهر متقدما بخطوات واثقة، فالمرء حين يرى أمامه بوضوح لا يخاف ولا يشقى،فقد تخلصت من كل ما يمليه علي إنتمائي للقطيع ،أنا حر أفكر وأقرر كيف شئت ومتى شئت وأنى شئت .شعرت بإرتياح ممتع يغمرني حين وصلت إلى هذه اللحظة وأبتسمت هازئا و.. - ما رأيك فيما قلت يا هود؟ أجبته بلا إنفعال تقريبا : - دعك من جنوني ياصديقي، و أخبرني ما ردك فيما حدثتك عنه بخصوص مشروعي التكنلوجي الذي أنوي تجريبه في الأيام القادمة فقد ظللت لعدة سنوات ابحث في هذا العلم الذي أحبه ، القوى الهيدروليكية القوة المنتجة من ضغط السوائل والغازات وتوجيه الضغط وما يمكن الحصول عليه من توليد قوة دافعة ضخمة بفعل ضغط الموائع التي يسهل الحصول عليها من دون تكلفة مادية تذكر لإنتاج قوة دافعة كافية لعمل العديد من العمليات التي كنا في الماضي ننتجها بكلفة ضخمة للغاية وأنت تعلم أن هذه الكلفة هي تؤثر على أرباح الشركات التي تقوم بالعمليات وتضاف بشكل ضمني أو كلي في سعر المنتج ولكي أمنح حديثي أهمية إستعنت بحركة دراماتيكية وأنحنيت عليه وخاطبته بصوت مغلظ وهامس وأنا أرفع سبابتي نحو السماء: - الطاقة ياصديقي هي مانحتاجه لكي نبني عالمنا الجميل، الطاقة الرخيصة هي حلمت أن أجد إليها سبيلا و.. قام سالم بحركته المعتادة المستفزة إخراج نظارته السميكة من جراب جلدي بني سميك متسخ وإرتدائها مذكرا لي بأنه برغم - تواضعه - بصداقتي فهو طبيب متخصص في الامراض النفسية والعصبية وقبولا مني للتحدي أخرجت نظارتي وارتديتها لأذكره بأنه أمام المهندس هودكمال مهندس الميكانيكا الشهير الذي له العديد من البحوث والتجارب والإختراعات التي نال شهادة براءتها قاطعني بفظاظته المعهودة قائلا: - ياهودأنت تعاني من حالة رفض مزمن لكل ما يتعلق بالمجتمع من حولك مما يجعلك تنتج قوانينك الإجتماعية الخاصة بك وتسير تبعا لها ككائن نشاذ وبالرغم من إبتسامتك التي ترسمها على وجهك بشكل دائم فأنت مكتئب في دواخلك وتشعر بالوحدة وتنهشك وحشة قاتلة مما جعلك تضطر في الآونة الأخيرة الى بناء عالم من التهيؤات والأحلام التي تعيش فيها مما جعلك تعرف أشخاصا وتصفهم بأدوارهم البطولية ومواقفهم وتواريخهم وأسمائهم ولكن هؤلاء الذين تتحدث عنهم ليسوا موجودين في الحياة الواقعية . وحدة ؟ أي وحدة ياصديقي؟ أنا الآن لست لوحدي هنالك الكثيرون معي، لي حريتي في أن أكون كما أفكر أنت المريض المصاب بالخطايا و الفجور والصلوات القسرية خوفا منهم،بشرخ التدين والرغبة المكبوته ،أنت عبد لخوفك ورغبتك ولهم ، أنت ياصديقي تحدثني بصفتك مبعوث القطيع، أنت ذاتك ولا أحد سواك وتتهمني بالجنون، كن صادقا وأتهمني بالعصيان وبالحرية ،فالحرية في عرف القطيع كفر بواح ولكن لا يهم سأحدثك على قدر ما يسمح لك عقلك المكبل بأن تفهم : - كيف هذا يادكتور ؟ فالشخصيات التي أحدثك عنها هي موجودة في تاريخنا ولها فعل حقيقي غير من مجرى حياة أمتنا في عدة نواحي وربما كان له كلمة الفصل في حقبة ما ، حتى أنها تدرس في بعض الجامعات وهنالك الكثير من الكتب التي تتحدث عنهم ،أعطني مثالا لشخصية متوهمة ممن ذكرتهم لك ، إسحق نيوتن عالم فيزياء ورياضيات ،فينسينت فان غوخ رسام معروف، محمد حسين بهنس روائي وأول رسام سوداني تعرض لوحاته في قصر الأليزيه قضى جوعا وبردا في شوارع القاهرة ،محجوب شريف المعروف بشاعر الشعب يسمى أيضا بالشاعر السجين لما تعرض له من إعتقالات في فترات النظم الشمولية المتعاقبة على حكم البلاد، سيدني بواتيييه أول ممثل أمريكي اسود وحائز على جائزة اوسكار ،محمود محمد طه أحد المفكرين السودانيين العظماء نعته أوربا كلها حين مات مشنوقا بأيدي القوادين ولقبوه بغاندي أفريقيا لدعوته لثقافة اللاعنف ،هذه شخصيات من لحم ودم تعيش معنا في هذا الكوكب الملعون ، الكل يعرفهم ،أنت معزول عن العالم لأنك لا تقرأ وليس لك إهتمامات بالمعرفة وما نحو ذلك ياصديقي أنت الذي تحتاج أن تذهب الى المكتبة بدلا من أن ترسلني الى المصحة ، وقاطعني مرة أخرى ببرود مصطنع... - شهاداتك العلمية ومكانتك الإجتماعية الرفيعتين ووضعك المادي الوضيع يخلقان تناقضا لا يمكنك إحتماله فأنت تحاول تجاهل ذلك وتجاوزه بالإنكباب على دراسة النظريات الهندسية المستحدثة ومتابعتها وتقديم الدراسات التي تنشر في المجلات العلمية المتخصصة دون أن يحقق لك ذلك نجاحا في حياتك الخاصة بعائد مباشر لك ، فأنت حتى الآن لا تستطيع تكوين أسرة خاصة بك. شهادتي العلمية الرفيعة هذه، أنت لا تعلم ما عانيته حتى أحصل عليها، لقد كنت أقرأ تحت ضوء فانوس يدوي تتحرك شعلة اللهب داخل أنبوبه الزجاجي السميك فتجعلني أطارد الكلمات المكتوبة بين الضوء والظلام لأسترجعها وأكتبها وأحاول أيجاد الحلول لمشكلات رياضية معقدة ببطن خاوية وليل طويل لا يرحم، لا أنيس لي سوى أمي التي أراها جالسة لتصنع لي شايا نشربه سويا في شتاء قارس قاس وهي تجمع فروع الأشجار من تلك التي تلتقطها من الشارع خلسة حتى لا يراها الجيران في الصباح الباكر لتوقد نارا تدفئنا وتحرص على صنع شاي لي ليساعدني على البقاء يقظا لمواصلة القراءة ، كانت تمنحني قوة ألف جيش وكنت أرقب نظرتها الحانية العاجزة لإخوتي النائمون،آآه يا أمي التي بنبل الأنبياء بعثت فينا لتجمل وجه حياتنا الكالح وتمنحه لونا وبعد آخر للفرح والأمل في مستقبل مشرق ونصر أكيد، فهي التي هزمت كل الموانع وجعلتنا ننجح وتكسب هي رهانها علينا، أمي علمتنا أن ندخر المال لنشتري خبزا وكتب لنقرأ منها، فلا شئ أثمن من لقمة تسد الرمق وكتاب يمنحك المزيد من القوة لمواجهة الحياة، ويمكنك أن تقرأ كتابا وأنت جائع فهذا يملأ جوفك ويمنعك من التفكير في شراء بنطال جديد باهظ الثمن فالإنسان عاري إن لم يعرف وعظيم بعلمه أنت ياصديقي لن تفهم حديثي هذا لأنك لم تجع ولم ترقع بنطالك اليتيم وتذهب الى حجرة الدراسة وتتفوق ، الله يارب..!! حاولت أن أبدو متماسكا ولا أعطيه فرصة ليتهمني فيها بالهذيان فالحديث مع الأطباء النفسانيين ،خاصة الأصدقاء منهم، تجربة صعبة جدا و شبيهة بلعبة عض الأصابع ، تسلتزم المزيد من الصبر والبرود و عدم الحديث بإنفعال حتى لا تؤكد نظريتهم بشأنك، فهؤلاء البشر دائما حريصين على الإنتصار والحصول على ضحية جديدة يجرون عليها تجاربهم ويمارسون عليها جنونهم الخالص أجبته بحيادية علمية: - يادكتور ربما يكون كلامك صحيحا ولكن هذا لا يجعلني في حالة سيئة الى الدرجة التي تستلزم تدخل طبي لعلاجي كمريض فأنا بكامل أهليتي وعلاقاتي ودودة وطيبة مع معارفي واصدقائي وجيراني وأهل بيتي وغيرهم ، صحيح علاقاتي النسائية فاشلة ولكن هذا طبيعي بالنسبة لفقير ومهتم بالدراسة مثلي،وكذلك طبيعة النساء الوثنية التي تؤمن بما هو ملموس وناجز، اليس كذلك؟ لم يرد على سؤالي متجاهلا ببرود وهو ينظر الى عيني مباشرة ويسألني: - أجبني بصراحة لماذا فعلت ما فعلت في حفل منح جوائز الشهيد العلمية ياهود؟ الآن وقع في الخطأ الذي أنتظره منه منذ قدومي هنا، فهو لا يحدثني كممثل للقطيع ولكن كممثل للجنرال قائدنا الضبع. أجبته مسترخيا وبهدوء لم أعهده في نفسي: - أي شهيد ياصديقي ؟ هل تؤمن بنظرية الحرب المقدسة؟ كلهم كلاب ..! ماقمت به ياصديقي يومها كان رائعا، بحق، يجب أن تكون فخورا بي من أجل هذا ياسالم - هل يصل بك جنونك الى أن ترفض مصافحة الوزراء وتصعد في المنصة لتحكي قصص عن الحب وتعليم البنات والشجرة التي ببيتكم ، وجهل الوزراء الموجودين في وفد التكريم وتختم بقولك إنك متضايق من سخونة الجو وتخلع قميصك أمام المئات من البشر وتغادر كأن شيئا لم يكن..؟؟ أجبته: - ياصديقي الجو كان خانقا ثم إني لم ولن أشعر بالخجل من المشي عاريا أمامهم فلا عورة تفوق بشاعة عورتهم المتعفنة على الملأ، والحب وتعليم البنات مواضيع مهمة ثم أن جائزة الضبع نفسها لا تعنيني بشئ لأني ببساطة لا أريدها لأنني لأ أتشرف بأن يمنحني جائزة ضبع، فماذا يفهم هؤلاء من النظريات العلمية كي يفهموا قيمة ما اقول، ثم أنا لا أصافح الأيادة الملوثة لضبع يثري بإسم الله وهذا موقف مبدئي فقد قتلوا أصدقائي آدم يعقوب وخالد الضي وأبكر حامد و... ضحك هازئا ثم انحنى علي حتى كادت جبهته تلامس انفي وهو يقول في إنتصار : - هذه شخصيات غير موجودة أساسا وأنت طوال حياتك لم تتعرف الى أشخاص بهذه الأسماء يا هود.. أرأيت ياصديقي بأنك تهزي ؟ - إحترم نفسك يا سالم !! لايمكنك أن تصنع مني مجنونا لأنك اصبحت طبيب نفسي ،وأعلم بأن الأطباء النفسيين أكثر عرضة من غيرهم للتعرض للهزات النفسية ثم أنني لا أهزي ياصديقي فقد سبق أن أخبرتك بأنني كنت قد إلتقيت بسلمان كنانة في سجن كوبر كان رفيقي في الزنزانة وحدثني كثيرا عن أصدقائي في نبقاية في دارفور وكيف أنهم قضوا بعد أن حرق الجنجويد القرية بمن فيها وما فيها وقد أفرج عنه قبلي وقال لي مودعا ياهودلا تنسى أصدقاءك أدعو لهم بالجنة وإن لم تستطع أن تتبنى قضيتهم فلا تصافح من قتلهم و.....
- لكنك لم تذهب الى سجن كوبر إطلاقا ..!! - نعم؟ ما ذا تقول ؟ أرأيت لقد صرت أنت من يهزي الآن يا سالم ،ياصديقي أنت تعلم بأن الشخصيات هذه موجودة ولايهم الأسماء فلو ذهبت الى زنازين سجن كوبر ستجدهم يتوسدون الأرض ويتحركون وفق ما تأمرهم بها آلامهم ، وأنا لا أريد أن أدخل معك في مغالطة سخيفة بأنني ذهبت الى هناك أم لم أفعل ضحكت بعدها بعصبية مشوبة بالحذر وأنا أنظر إليه متوجسا دون أتنبه الى أن دموعا ساخنة تسربت الى عيني فجأة و... - أنت تحتاج الى الراحة والعناية فأنت مشوش ومصاب بحالة إجهاد حادة وهذا لا يتوافر الا في مستشفى الامراض العصبية والنفسية ، فأنا أنصحك بالذهاب الى هناك وتلقى العلاج وفي حال أنك لم توافق فأنا كطبيب متخصص مضطر الى أخذك بالقوة فهذه مسئوليتي الأخلاقية والإنسانية تجاهك ياصديقي هود
الآن إكتملت فصول المؤامرة وبدت واضحة فهم يحاولون أن يصنعوا مني مجنونا لأني لم أوافق على أن أسير في ركبهم، ففي البداية إتهموني بالإلحاد والكفر مما جعل أولوا الأرداف واللحى يتوافدون الى منزلي واحدا تلو الآخر مستتيبن ويتطوعون بنصحي للعودة الى الله قبل أن أهلك وأخسر الدنيا والآخرة ويذكرونني بأن ذلك هو الخسران المبين وكنت اقابلهم بالنفي وأهتف بأعلي صوتي : لا اله الا الله .. محمد رسول الله .. أنا مؤمن وموحد بالله ظللت اردد هذه العبارات لأؤكد لهم إسلامي واصلي عند كل وقت أمامهم او خلفهم وأذهب الى الجامع عابرا شوارع حاراتنا متخذا أكثرها زحاما ليروني ذاهبا وغاديا الى بيت الله وكنت عندما أجد مجموعة من شباب الحارة تقف في قارعة الطريق اتجه اليهم واخبرهم بأنني ذاهب الى المسجد وأذكرهم ونفسي بحديث الرسول الأعظم صلى الله عليه وسلم : إذا رأيتم الرجل يرتاد المساجد فأشهدوا له بالإيمان ، بعضهم يؤكد لي بأنه سيكون شاهد أساسي معي يوم القيامة والآخرون يقولون لي لا تذهب وسنشهد لك ولن يعلم بذلك أحد ولكني لم أكترث، فقد كان همي الأكبر أن أنجو من حبل المشنقة الذي ربما يودون أن يقودوني إليه. بعد مجهود خرافي كنت ابذله دون كلل سقطت عني تهمة الإلحاد والكفر وصدقوا بأنني مسلم غير مرتد ولا كافر ولا زنديق.. الحمد لله !، وبذلك نجوت من الشنق فهؤلاء المهووسون قتلوا الأستاذ محمود محمد طه بهكذا هرطقات وتهيؤات تحولت الى تهم وسلطوا عليه البهائم الملتحية فتكفلوا بتكفيره وقتله دون وجه حق،قتلوا رجلا يقول ربي الله بتهمة الكفر والزندقة والردة في مشهد تألمت له الإنسانية عميقا وبعدها جاء الفصل الثاني للمؤامرة وهو الإتهام بالجنون وجند لها أعدائي الكثير من أصدقائي وحتى أقاربي .. كانت تجربة مؤلمة بحق !! فلم يكن يؤلمني مشاركة الأعداء في التأمر علي فهذا طبييعي ولكني كنت لا أريد أن المقربون يفعلون ذلك أيضا، فالشجرة لا تؤلمها ضربة الفأس بقدر ما تؤلمها زراعه الخشبية التي تشارك في قطعها،طعنات الأحباب تقتل ألف مرة وتؤلم أكثر، ولكن لا يهم ،هي طبيعة البشر على كل حال،كنت حينما أتحدث إلى أيا منهم يرد علي بإبتسامة ساخرة مشفقة وهو يقلب كفيه : - الله يعينك يا هودي .. الله يشفيك كلهم شاركوا في لعبة الضباع بقصد أو من دون قصد، الله يسامحهم..! والآن صديقي الدكتور سالم سبيل يريد أن ينهي حياتي المهنية العلمية وفقا لما خططوا هم بين جدران المصحة ووسط المخابيل ولكن هيهات له من ذلك قفزت ثائرا في وجهه ومهاجما له : - أنت صدقت أكذوبة أنك طبيب ؟ أنت درست الطب في إحدى الجامعات الخاصة الوضيعة بلا تقدير يؤهلك لمثل هذه الدراسة سوى الرسوم الباهظة التي تدفعها من جيب والدك الثري .. أنت من أطباء الدولار في زمن الأشياء المباعة و وتخرجت من هذه الكلية الوضيعة بعد أكثر من عشر سنوات حاملا لبكالريوس الطب والجراحة لتحصل بالواسطة على العمل في إحدى المستشفيات التي تعالج الفقراء مجانا ليس من باب الإنسانية ولكي لتتعلم أنت وأمثالك من أبناء الأثرياء الطب على أجساد هؤلاء البائسين الناحلة ... كم قتلت منهم لتصبح طبيبا يا سالم ؟ هه خبرني كم بائسا قتلت ؟ صداع كثيف يهاجمني وجسدي يرتجف ولا استطيع الوقوف وأظلمت الدنيا أما عيني ورحت في إغماء طويل طويل جدا ....
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة