لعشيَّةِ الحادي والثلاثين من ديسمبر والأوَّل من يناير وَقْعٌ خاص في دواخل السُّودانيين، يتزامن نهاية السنة الميلادية المجيدة وذكرى خروج المُستعمر من البلاد، وكلتا المُناسبتين عظيمتين، ولنا معهما ذكرياتٌ وطقوس خاصَّة ونحتفي بهما أيَّما احتفاء، بدءاً بتبادل التهاني والتحايا والزيارات وإقامة الحفلات والمهرجانات، وانتهاءً بعرض واسترجاع نضالات الأجداد وبطولاتهم التي أرست قيم ومبادئ الحرية والانعتاق والسيادة والإخاء والمودة والخير. وتأتي هاتين المُناسبتين هذا العام وبلادنا الحبيبة في أسوأ حالاتها، وتشهد احتقاناتٍ وأزماتٍ مُعقَّدة، ما جعلني احتارُ والتقط حروفي التقاطاً لتحقيق التوازُن بين عِظَم المُناسبتين وبين واقعنا المأزوم، سواء على صعيد الوطن (الأرض والكيان)، أو على صعيد أهلي وأحبابي شعب السُّودان الأبي الذي لا يستحق غير الحب والاحترام. فالشعب السُّوداني، يتعرَّض لإجرام وصَلَفْ يفوق بكثير ما واجهه أجدادنا إبان الاستعمار الذي استهدف فقط موارد وخيرات البلاد وقام بتطويرها لتعظيم فوائده ثمَّ تركها لنا (كاملةً) وخرج، بينما يُواجه السُّودانيون الآن القتل بالرُصَّاص والبراميل المُتفجِّرة والأسلحة الكيماوية، ويتعرَّضون للتشريد والتجويع والقمع والاغتصاب والإهانة والإذلال واقتلاع ممتلكاتهم وأراضيهم وإرثهم الحضاري بالقوة (المُشَرْعَنَة)، على نحو ما يحدث ببورتسودان والمنطقتين ودارفور وكجبار وسبتمبر والجامعات والحماداب وشمبات وأم دوم وغيرها. مع مُحاولات حثيثة لتغيير تركيبنا الديموغرافية باستقبال آلاف من الغُرباء والأجانب، ومَنْحِهِم المزايا التفضيلية المحجوبة عن أهل البلاد بما في ذلك المناصب الدستورية والقوات النظامية التي تقتل وتبطش بهم. كما يُعاني السُّودان من نهب أراضيه بعد (تحريرها) بواسطة أجدادنا، على غرار الاحتلال المصري لمُثلَّث حلايب وجميع الأراضي الواقعة شمال وادي حلفا، واحتلال إثيوبيا للفشقة وما حولها وتعدياتها اليومية (المُوثَّقة) على السُّودانيين بالقتل والنهب في المناطق الحدودية بما فيها القضارف، واستخدام الإثيوبيين لميناء بورتسودان دون عوائد معلومة وإقامتها لمشاريع وإنشاءات داخل أراضينا رغم احتلالها السافر، بخلاف استحواذ المصريين على مليون فدان (مشروع الكنانة) بالشمالية، ووعود بالمزيد من أراضينا بالدمازين وسِنَّار، واستباحة جرَّافاتهم لمياهنا الإقليمية بالبحر الأحمر، وسيطرتهم الكاملة على بُحيرة النوبة (السودانية). وهناك الأراضي المُبَاعَة والمرهونة لكلٍ من الصين والإمارات والسعودية وقطر، مما يعني ضياع سيادة السُّودان الوطنية وحقوق أجياله القادمة. هذه النماذج الأزموية المُنتقاة، والتي نشهدها جميعاً واقعاً مريراً مُعاشاً، تُشكِّل (حاجزاً) نفسياً أمام أي احتفاء أو فرحة بالمُناسبتين العظيمتين المُشار إليهما أعلاه (السنة الميلادية والاستقلال)، فكيف أُهنئ أخي المسيحي بالسُّودان وأهله يتعرَّضون للضرب بالبراميل المُتفجِّرة ويحيون داخل الكهوف خوفاً من الموت؟ وكيف أتحدَّث عن الاستقلال أو احتفي به وأنا غريب في بلادي وأحيا في ذلَّةٍ وخوف أو شريداً في الأصقاع؟!.. علينا الإجابة على هذه الأسئلة رغم مرارتها وقساوتها، والتأمُّل فيها على نحو ما نفعل مع الذات بنهايات كل عام، حيث نقوم بتقييم المسيرة ونتحسَّس مواقع الخَلَل ونتعرَّف على نقاط الضعف والقوة، ثم نعمل على التقويم بالتفكير والتخطيط لتعظيم الإيجابيات ومُعالجة السلبيات. إنَّ واقعنا الماثل يُؤكِّد حاجتنا الكبيرة للـتحرُّر (الوطني والذاتي) واسترجاع سيادة بلادنا وأنفسنا المُغتصَبة، وتهيئة دولة تمتلك قرارها بعيداً عن سيطرة أي جهات أُخرى، وترقية وتعظيم أمن وكرامة أهلنا وعشيرتنا بالسُّودان الكبير وحفظ أرواحهم ومُمتلكاتهم، واحترام آدميتهم وعدم إذلالهم وقهرهم واستنزاف مواردهم. فلتكن قراءتنا العكسية للتاريخ واستحضارنا وفخرنا بسيرة كلَّ من ساهم في استقلالنا من المُستعمر أواسط القرن الماضي، دافعاً وحافزاً لتكرار التجرُبة مع المُستعمرين الحاليين الذين يفوقون الاستعمار السابق خِسَّةً ودناءةً وبشاعة، وهو هدفٌ نبيل يُمكن إدراكه إذا توفَّرت الإرادة الحقيقية والقناعة بـ(وحدة المصير) مع التخطيط والتنظيم والأخلاق الحب..
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة