عَتُودُ الدَّوْلَة ،،، ثَوابِتُ الدِّينِ أَم مُتَحَرِّكاتُ التَّدَيُّن؟! بقلم كمال الجزولي

مرحبا Guest
اخر زيارك لك: 04-19-2024, 07:59 PM الصفحة الرئيسية

منتديات سودانيزاونلاين    مكتبة الفساد    ابحث    اخبار و بيانات    مواضيع توثيقية    منبر الشعبية    اراء حرة و مقالات    مدخل أرشيف اراء حرة و مقالات   
News and Press Releases    اتصل بنا    Articles and Views    English Forum    ناس الزقازيق   
مدخل أرشيف الربع الاول للعام 2010م
نسخة قابلة للطباعة من الموضوع   ارسل الموضوع لصديق   اقرا المشاركات فى شكل سلسلة « | »
اقرا احدث مداخلة فى هذا الموضوع »
10-30-2009, 08:00 AM

الهادي هباني
<aالهادي هباني
تاريخ التسجيل: 06-17-2008
مجموع المشاركات: 2807

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
عَتُودُ الدَّوْلَة ،،، ثَوابِتُ الدِّينِ أَم مُتَحَرِّكاتُ التَّدَيُّن؟! بقلم كمال الجزولي

    العَتودُ كما أورده أستاذنا الجليل كمال الجزولي في حاشية الحلقة
    الأولي من الموضوع نقلا عن ""لسان العرب لابن منظور مادة "عتد""
    ((هو الجَدْىُ الذى اسْتكْرَشِ، وقيل ، هو الذى بلغ السِّفاد، و قيل هو
    الذى أجْذعَ. والعَتودُ من أولاد المَعَز: ما رَعَى وقَوِىَ وأَتَى عليه حَوْل،
    وهو هكذا فى غالب عاميَّة المستعربين السودانيين)) ،،،
    هذا هو معني العتود أما عتود الدولة، المقطع الأول من عنوان مقال
    كاتبنا، فهو مستوحاة من قصة طريفة حدثت مع أحد القضاء من أصدقائه
    بإحدى محاكم الأرياف السودانية النائية ،،، إلي نهاية ما جاء من
    القصة في نفس الحلقة المذكورة ،،، و التي جعلها مدخلا لمقاله الذي
    يناقش فيه بفكر مستنير و عقل مفتوح و منهج علمي و تحليل موسوعي
    عميق و جهد علمي و نظري جدير بالإحترام و التقدير قضية الدين و
    الدولة ،،، و بجانب هذا الفكر الأصيل فقد قدم كاتبنا كعادته و بأدب
    رصين أسلوبا جديدا للحوار الفكري البناء و الهادف بعيدا عن التعصب
    و التشدد نتمني أن يكون مثالا يحتزي به في تناول مختلف قضايا بلادنا
    الفكرية و السياسية و الإجتماعية ،،،
    و علي الرغم من أن هذه الحلقات قد نشرت في عدد من المواقع الألكترونية
    و أن كثير من الأعضاء و القراء قد طالعها في بعض تلك المواقع إلا أنني
    رأيت أن أقدمها لأعضاء و قراء سودانيز أون لاين في موقعهم العامر كما هو
    في أربعة عشر حلقة لثراء هذا الموقع و تنوع الأفكار و الإتجاهات و
    الثقافات التي تتلاقي فيه ،،، و نرجو من الباشمهندس بكري أبو بكر أن
    يوليه قدرا من الإهتمام و أن يجعله من العناوين الرئيسية الثابتة ،،،

    هذا البوست ليس تبشيرا بالفكر الذي قدمه الأستاذ كمال الجزولي في مقاله
    علي الرغم من إعزازي به و قناعتي و إتفاقي معه في جوهره و في عمومياته ،،،
    و لكنه تبشيرا بمبدأ الحوار الفكري الجاد البعيد عن التعصب و التشدد و
    التعالي و إلغاء أفكار و وجهات نظر الآخرين ،،،
    و تجسيدا لهذا المبدأ سننشر أيضا الحلقات التي نشرت في موقع سودانايل
    بعنوان (قراءة نقديّة في رؤى "كمال الجزوليّ" الإسلاميّة!) بقلم الأستاذ صلاح
    عبّاس فقير و التي لا تقل تأدبا و رصانة و ملاءة بروح الحوار الفكري الجاد
    و المثمر ،،،
    و سنقوم بنشر أية حوار و نقاش جاد يتناول هذا الموضوع غض النظر عن
    كاتبه و عن الفكر السياسي الذي ينتمي له ،،، فبلادنا علي إتساعها و ترامي
    أطرافها لن تسعنا لو لم نتحمل بعضنا و نحترم تنوع ثقافاتنا و أعراقنا و
    أفكارنا و إنتماءاتنا

    (عدل بواسطة الهادي هباني on 10-30-2009, 08:13 AM)

                  

10-30-2009, 08:09 AM

الهادي هباني
<aالهادي هباني
تاريخ التسجيل: 06-17-2008
مجموع المشاركات: 2807

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: عَتُودُ الدَّوْلَة ،،، ثَوابِتُ الدِّينِ أَم مُتَحَرِّكاتُ التَّدَيُّن؟! بقلم كمال الجزولي (Re: الهادي هباني)

    عَتُودُ الدَّوْلَة (1)
    ثَوابِتُ الدِّينِ أَم مُتَحَرِّكاتُ التَّدَيُّن؟!

    الحلقة الأولي


    (مَا أَمَرتُكُم بِشَئ مِن دِينِكُم فَخُذوه ، أمَّا مَا كانَ مِن أَمْرِ دُنياكُم فأَنْتُم أَدْرَى بِهِ)

    رواه مسلم وابن ماجه وابن حنبل

    (1)


    شغلتني سفرة طارئة إلى كمبالا، في بعض شأن الهمّ المدني الأفريقي، من الوفاء بموعد الرزنامة الأسبوعي بالإثنين الماضي، فلزمني أن أعتذر، ابتداءً، لأصدقائها الأعزاء، وأن أشكرهم على صدق حدبهم عليها، وحرارة سؤالهم عنها.
    ثمَّ إن نفس الظرف قد حال، أيضاً، دون متابعتي لتداعيات الحادثة الأبرز في ذلك الأسبوع، وأعني فتوى تكفير الحزب الشيوعي (السوداني)، الصادرة في 20/8/2009م، عن (الرابطة الشرعية للعلماء والدعاة) التابعة لـ (المجمع الإسلامي) بالجريف غرب، وإمامه محمد عبد الكريم، وذلك بمناسبة افتتاح دار الحزب هناك، حيث اقتحمتها، بغتة، مجموعة من شباب الرابطة المتحمّسين يرومون توزيع بيان الفتوى أثناء حفل الافتتاح، ويحسبون أنهم، بذلك، إنما يحسنون صنعاً للإسلام، وربَّما للوطن أيضاً، وما تبع ذلك من بوادر صدام مع شباب الشيوعيين كان محتوماً أن يفضي، بكل الحسابات، إلى كارثة حقيقيَّة، لولا أن عناية الله سبحانه وتعالى، وحنكة العقلاء، قد تداركتاه!
    ولأنه كان حريَّاً بتلك الحادثة الخطيرة أن تشكل مركز القلب من مفاكرة تلك الرزنامة الغائبة، فقد اعتزمت، فور عودتي، أن أوليها اهتماماً خاصَّاً. ورغم أن أكثر من مدخل قد لاح، وشتى زوايا التناول قد تبدَّت، إلا أن كمَّاً مقدَّراً من رسائل أصدقاء الرزنامة ما برح يستحثني، عبر الهاتف والبريد الإلكتروني، لإعادة طرح موضوعة (عتود الدولة)، يقولون إنه طال الأمد عليها، وانطوت سنوات طوال مذ نشرت، لأوَّل وآخر مرَّة، في الصحافة الورقيَّة، بحلقات متباعدة صعَّبت متابعتها، علاوة على كونها غير متوفرة، بنصّها الكامل، في أيّ موقع على الشبكة العالميَّة، وبالحقّ لم تكن علاقتي أنا نفسي بالشبكة قد توطدت أوان ذاك، ممَّا جعل المادَّة غير ميسورة بالمرَّة.
    نبَّهني تساوُق هذا الحثّ من مصادر مختلفة، فضلاً عن وجاهة تبريره، إلى أننا قد نقرأ، بالفعل، نصَّاً معيَّناً، ثمَّ ننساه، ثمَّ ما يلبث أن يعيده إلى ذاكرتنا وقوع حدث ما، فنعود نلتمس قراءته مجدَّداً؛ فإن توفرت مصادره، فاق مستوى مقروءيَّته، هذه المرَّة، مستوى المقروءيَّة السابقة بما لا يقارن. ولعلَّ هذا، بالتحديد، هو ما حفزني للاستجابة.
    أما لجهة التنفيذ، فقد استلزم الأمر، بعد التشاور مع السيّد رئيس التحرير، وبالنظر إلى حجم المادَّة وأهميَّة الحدث، أن يتصل نشر هذه الرزنامة، على خلاف العادة، اليوم والأيام التالية تباعاً، عسى ما تبقى من الشهر الفضيل يهيّئ لها عامل مقروءيَّة إضافي.

    (2)

    وبعد، حدَّثني قاضٍ خرطوميٌّ جليل، قال: على أيام عملي الباكر بإحدى محاكم الأرياف النائية عُرض أمامي نزاع بين راعيين على ملكيَّة (عتود) ٭. لكن ما أن وضع المدَّعى كفه على (مصحف المحكمة)، ويسمونه (الاريقط)، شارعاً فى أداء اليمين المعتادة، حتى قفز المدَّعى عليه كالملدوغ يقاطعه، طالباً أن تكون اليمين على (مصحف آخر) تعهَّد بجلبه من (الحِلة)! قلت مندهشاً: "ما الفرق؟! هذا مصحف وذاك مصحف"! قال: "يا مولانا، يحلف على ذاك فأسلم له بملكيَّة العتود"! وافقت على مضض، طالما أن ذلك يحسم المشكلة، فشدَّ المدَّعي وأهله حميرهم، وإن هي إلا بعض ساعة حتى عادوا بمصحف مخطوط، بائن الثقل، ينوء بحمله ثلاثة منهم يساعدهم الحاجب! أنزلوه على منصّتى نزولاً له دوىٌّ وغبار. وعلى حين انكببت أتفحصه، غرقت المحكمة، فجأة، فى زئبق رهبة لا تتسرب منه نأمة، ولا يندُّ عنه صدى. ولم يعُد ثمة ما يبلغ مسامعى، فى تلك المحكمة الريفية الضاجَّة، عادة، سوى دقات القلوب الواجفة، وتردُّد الأنفاس المبهورة. كان المصحف المجلوب بالغ الضخامة كما صندوق خشبي، عتيقاً كضريح وليّ سناري، متآكل الأطراف كراية من زمن غابر، يضوع حبر حروفه الباهت بعبق العصور، وتكاد صفحاته حائلة اللون تتقصَّف كما ورق الشجر اليبيس. غير أننى، حين فرغت من تفحُّصه، والتفتُّ إلى المدَّعي آمره بالاقتراب لأداء اليمين، فوجئت بالرجل زائغ النظرات وقد تصمَّغ داخل نعليه يتصبَّب عرقاً، ويجاهد كى يحرِّك شفتيه الطبشوريَّتين، ولسانه الرمليَّ، وحباله الصوتيَّة المرتجفة، ليطلق، بالكاد، صيحة متحشرجة مذعورة:
    ـ "أفو .. يا حضرة القاضى إتْ ما بتخاف الله؟! دحين أمانة فى ذمتك هسَّع ده مصحف عتود"؟!

    إستغرقتني المفارقة في نوبة من الضحك المجلجل، فلم أعد أذكر كيف انتهت القضيَّة، بل لعلَّ مولانا نفسه لم يحفل بإكمال القصَّة، لكنَّ شيئاً من مغازيها العميقة رسَبت عميقاً فى قاع ذهني، حين بدا لى أن وجهاً أساسياً من وجوه أزمة الإسلام فى بلدنا إنما يكمن فى كوننا، نحن غالب مسلميه البدو الرعاة، وإنْ عمَّرنا المدن الحديثة، ما ننفكُّ نمحق، بلا هوادة، (صحيح الدّين) الذي هو كلمة الله في مطلق عليائه، وجلال الكمال سمته الأعم، لحساب (مُتخَيَّل التديُّن) الذي هو بعض كسبنا البشري المشوب بالقصور، كطبيعة متأصّلة. وبالنتيجة لا نخلص، في لا وعينا الجمعي، سوى إلى رفع (مصحف الحِلـَّة) عتيق الحبر والصحائف درجات فوق (مصحف المحكمة) حديث الطباعة والتغليف، فيصير لدينا مصحف لـ (العتود) وآخر لسواه، دونما أدنى سند عقليّ، أو عماد من صحيح الإيمان، إذ هما وجها الحقيقة الإسلاميَّة الواحدة. وما أكثر ما يصادفك مَن يتجهَّمك بقول قديم مجتزأ من فقيه أو مفسر يعضّد به مصلحة (خاصَّة) يطلبها، أو موقفاً (دنيوياً) يتخذه؛ والويل لك إذا ما بدا هذا القول غير سائغ لديك فى ميزان فهمك لأغراض الدّين أو مقاصده الكليَّة؛ فالمطلوب هو استرهابك فترضخ، حتى لو كان ثمن ذلك لجم تفكيرك، واستلاب وعيك، وغلُّ إدراكك!
    فهل نحن مأمورون، حقاً، باستخدام (عقولنا) في إحسان التسليم بالعبوديَّة المطلقة لربّ هذا القرآن؟! أم بالانكفاء الوجل على (كلّ) رموزيات (التاريخ الإسلامي) بلا فرز ولا تبصُّر، وتجميدها فى الزمان السَّرمدي دونما جدارة أو استحقاق، خصوصاً حين ترتبط بأقوال وأفعال البشر، وبالأخصّ كلما أوغلت نأياً إلى الوراء عن عصرنا، فنتوهَّم فى قِدَمِها وتعتقها قداسة وعصمة مخصوصتين من الزَّلل، وننتهى، من ثمَّ، عملياً، إلى نمط من (التديُّن)نتعبَّد فيه، لا بـ (ثوابت الإسلام) نفسه، قرآناً وسُنّة، في المقام الأوَّل، وإنما بـ (تاريخ الدَّولة الإسلاميَّة)، وكلّ ما يذخر به من صراعات (دنيويَّة) محضة حول سياسات المعاش والاجتماع، وهي أمور (متحرّكة)، بطبيعتها، خاضعة لتقديرات البشر، ولا قداسة أو عصمة فيها، وإن تلبَّست (تعبيرات دينيَّة) بغرض الظفر الآني، والكسب الخيدع، والعياذ بالله؟!

    (3)

    ولعلَّ من أخطر مآلات هذا (التقديس) لـ (التاريخ) ما انتهينا إليه ، فى راهننا، من وضع ديني وفكري نكاد لا نميِّز فيه بين ما هو نصٌّ قطعي الورود والدلالة في القرآن الكريم أو السنة المطهَّرة، وبين ما هو محض فقه، أي محض رأي قائم على اجتهاد بشري تسيّجه مشروطيَّات أبستيمولوجيَّة تاريخيَّة محدَّدة، وخاضعة لمعايير الخطأ والصَّواب، بصرف النظر عن مدى ثقل حمولته من الشُّحنات المصطلحيَّة الدينيَّة. وإنه لمن المدهش، بل من المحيِّر حقاً، أن يحتاج المسلم للتدليل على كون المشروعات الفقهيَّة الضخمة نفسها في التاريخ الإسلامي، بما فيها أعمال وفهوم الصحابة الأجلاء ذاتهم، وفيهم الخلفاء الراشدون، دع عنك الحواشى والشروحات والتفاسير التى ترد على المتون المرجعيَّة الأصليَّة في القرآن والسنة، إنما هي من قبيل هذا الاجتهاد الذي نهض بعبئه، وراكمه، بشر مسلمون كانوا بمثابة مفكري ومثقفي عصورهم، بالمصطلح الحديث، وخلاصة مستوى الوعي الاجتماعي الاسلامي زماناً ومكاناً. فابن رشد، على سبيل المثال، جابه، من موقعه كمفكر وفقيه وفيلسوف مسلم، أسئلة عصره الكبرى، خلال القرن الثانى عشر الميلادي، فلم يقف متردِّداً ينظر إلى الخلف في وجل، بل مضى يقتحم، بتجرُّؤ واقتدار، كافة أسوار المعضلات الشائكة، مستنهضاً فرضيَّته الأساسيَّة القائمة في عقلانيَّة الإسلام الفلسفيَّة والعلميَّة، فخلص، بالنتيجة، إلى رفد الفكر العالمي بأسره بعناصر تنويره وتفتحه. هكذا، لم تكتف (الرُّشديَّة) بأن تتمأسس كمرجعيَّة يستحيل تجاوزها على صعيد الفكر العربي الاسلامي، فحسب، بل وعلى صعيد الفكر اللاتيني المسيحي أيضاً. والإمام الشافعي تصدَّى، من جانبه أيضاً، كعالم إسلامي، لإشكاليات التشريع والقضاء في عصره، فوضع رسالته الشهيرة في أصول الفقه، مستهدفاً ".. أن يخلع على الفقه والتشريع نوعاً من التماسك والانضباط والوحدة لمواجهة قضايا العصر والمسلمين آنذاك .. كان يريد خلع نوع من التماسك والجديَّة على العمل (العقلي) للقاضي و .. الفقيه، عند .. الافتاء فى مسألة ما، أو حلّ مشكلة ما" (محمد أركون؛ "الاسلام والحداثة" ، ترجمة وعرض هاشم صالح، ضمن ندوة "مواقف" بنفس العنوان ، ط 1 ، دار الساقى ، لندن 1990م ، ص 332 ـ 334). ومع ذلك كله، فإن جلال ذلك الاجتهاد، بالغاً ما بلغ من القِدَم والتعتق، أو حتى من سداد المقاربة لـ (الحقيقة الدينيَّة)، لا ينفي عنه نسبيَّته المترتبة، من جهة، على محدوديَّته البشريَّة، من حيث احتماله للخطأ والصواب، كخاصّيَّة ملازمة تقطع بينه وبين نصوص الوحي المطلق، المنزَّه والمعصوم، والمرتبطة، من الجهة الأخرى، بعامل تغيُّر الأزمان، وهو عامل وثيق الصلة بخاصّيَّة المحدوديَّة البشريَّة أيضاً. فمشروع ابن رشد، على ضخامته وجرأته وعقلانيَّته، لا يمكن إعادة إنجازه، الآن، بذات المنهجيَّات التي اتبعها في التاريخ القروسطي، وكذلك مشروع الإمام الشافعي في عصره ".. لأن الطرائق والمنهجيات التى اتبعها (كلاهما)، على الرغم من اختلافهما، قد أصبحت الآن فى ذمة التاريخ (أي) .. مادة للتاريخ والمؤرخين، وليست طريقاً ناجعاً يوصلنا إلى الشاطئ المرجو، ويخرجنا من الورطة" (المصدر نفسه ، ص 334).
    والآن، وطالما أن ذلك كله كذلك، فكيف انتهى بنا الأمر إلى هذا الحدّ المريع من الخلط والتخليط الفادحين بين (المقدَّس) و(البشري)، بعد كلّ تلك الإشارات القويَّة في القرآن والسُّنة لمكانة (العقل) في الإسلام، باعتباره موئل التكليف، ومناط الاستخلاف، وبعد كلّ تلك المراكمات الفقهيَّة عالية القيمة عبر القرون المتطاولة، والتي يفترض أن تزوِّدنا (بالنموذج الفقهي) الملهم كما ينبغي، لا (النصوص الفقهيَّة) الملزمة كما نتوهَّم؟! كيف انتهينا للاشتجار بـ (نصوص) الفقهاء والمفسرين والشُّرَّاح، نشحنها بـ (قدسيَّة) ليست من جنسها؟! كيف انتهينا، هكذا، إلى تغليب (متخيَّل المصحف) على (المصحف) نفسه، ومنح (مصحف العتود) فى أوهامنا وزناً أكبر من (مصحف الرسالة) فى حقيقته٭٭؟!

    (4)

    ضمن هذا السياق فإن هذا المبحث سوف يعنى بمشهد الخلاف حول قضيَّة (الدّين والدَّولة) في بلدنا، لا من حيث وقائع العلاقات المأزومة بين (المسلمين) و(غير المسلمين)، فهذه، على ما هى عليه من أثر وخطر بالنسبة لقضية (الوحدة الوطنيَّة)، واضحة نسبياً، فلا يجد الباحثون عُسراً فى تناولها. ولكن اهتمامنا سوف ينصبُّ على هذا المشهد، بالأساس، من زاوية الفهوم والتصوُّرات شديدة الاختلاف وسط الجماعة المسلمة ذاتها، بشأن موقف (دينها) الواحد من هذه القضية، مع الافتقار إلى الحد الأدنى من تنظيم هذا التباين أو إدارته، مضموناً ولغة واصطلاحاً، الأمر الذي يتيح لكلّ من شاء أن يحصر (صحيح الدين) في (فهمه = نمط تديُّنه) وحده، بل وليس نادراً أن يعتبر كلَّ ما عداه ضرباً من (الكفر)، بكلّ ما يترتب على ذلك من تصدُّع يتهدَّد الأعمدة التاريخيَّة لثقافة هذه الجماعة، في بنية التعدُّد السوداني، بالانهيار الشامل.
    فقط بطرح القضيَّة في هذا المستوى، وبهذه الصورة، لا بتركها فريسة لأضراس طاحونة السّياسة السّياسويَّة، يمكن أن نأمل في إخراجها، في نهاية المطاف، من ضيق الأفق الذي يؤبّدها كمحض عظمة نزاع غوغائي لا يبقي ولا يذر بين هذا الحزب وذاك، أو بين هذا التيَّار وغيره، فالقضيَّة فكريَّة ثقافيَّة، في أصلها، وليس أخيب من خطة تروم معالجة الصّراع الفكري بآليَّات السياسة ومناهجها.

    (5)

    إن العنصر الأساسي في أزمة هذه الثقافة كامن في كونها قد تشكلت على قوالب (الترميزات الأسطوريَّة) الناجزة بنفسها، كنتاج لقرون من التخلف والجمود، بأكثر ممَّا تنشَّأت على ديناميكيات (التدبُّر العقلي)، كشرط أساسي في الإسلام الذي ".. يعطي الإنسان مجال التفهُّم بعقله .. حاثاً على استخدام العقل في 50 آية .. وعلى التفكير في 18 آية" (الصادق المهدى ؛ أحاديث الغربة ، ط 1 ، دار القضايا ، بيروت 1976م ، ص 33). فلمعرفة (الله) نفسه يفترض الإسلام أن يلتزم المؤمنون عمليَّات (عقليَّة) كاملة يستخدمون خلالها ما أودع الخالق فيهم من (حواس) لهذا الغرض بالذات: "والله أخرجكم من بطون أمَّهاتكم لا تعلمون شيئاً وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة لعلكم تشكرون" (78 ؛ النحل)، أي "تؤمنون" (تفسير الجلالين). كما ويأمرهم بالإنتباه إلى عدم الخلط بين ما هو (دين)، من جهة، فشأنه إلى الله ورسوله، وما هو (دنيا)، بما في ذلك سياسة المعاش والاجتماع وخلافه، من الجهة الأخرى، فأمره متروك لتدبيرهم، جرياً على قاعدة الحديث الشريف: "ما أمرتكم بشئ من دينكم فخذوه، أما ما كان من أمر دنياكم فأنتم أدرى به"، وفى رواية أخرى: "أنتم أعلم بأمر دنياكم" ـ رواه مسلم وابن ماجه وابن حنبل.
    لكن، برغم ذلك كله، فإن من أبرز تجليَّات الأزمة سيولة مفهوم (المقدَّس)، فى الذهنية المسلمة العامَّة، لينداح، دونما (تدبُّر)، على (كلّ) الوقائع والشخوص والأفكار والترميزات التي تنسب لـ (الإسلام)، فيتمُّ رفع ذلك أجمعه، حزمة واحدة، وبلا أدنى (تعقل)، إلى مستوى (الثوابت الدينيَّة).
    (6)

    ومن عجب أن نظريَّة (التقادُم المُكسِب للقداسة) هذه، على خطلها، لا تستصحب أهمَّ وجوه النظر الفقهي لدى الصَّحابة الأجلاء والخلفاء الراشدين، فتسقط من حسابها ، بالكليَّة، على سبيل المثال الساطع، مراكمات الفاروق عمر البشريَّة الاجتهاديَّة، في أعقد المسائل وأكثرها خطراً، وهو الذى قال فيه النبي (ص) عن ابن عمر (رض): "إن الله جعل الحق على لسان عمر وقلبه"، وعن مجاهد قال: "كان عمر يرى الرأى فينزل به القرآن" ، وذلك لكون الوحي قد وافق فتاواه في أغلب الأحيان، حتى سُمِّيَت بـ (موافقات عمر) أو (ما نزل من القرآن على لسان عمر)، مما أفاضت كثير من المصادر في تفصيله (راجع مثلاً: الإتقان فى علوم القرآن لجلال الدين السيوطي). وللدّقة، فإنك قد تصادف، هنا أو هناك، نماذج من تلك الفتاوى العُمَريَّة حول غيرة نساء النبي، وحول احتجابهنَّ، وحول اتخاذ مقام إبراهيم مصلى، وما إلى ذلك. ولكنك، بالكاد، تصادف نماذج من تدابيره الأخرى ذات الطابع السياسي، مثل قراره عدم توزيع أرض الشام وسواد العراق على المقاتلة، والاستعاضة عن ذلك بالابقاء عليها فى أيدى أصحابها مع فرض خراجها عليهم، وذلك برغم وضوح نصّ الآية الكريمة: "واعلموا أنما غنمتم من شئ فأن لله خمسه وللرسول ولذوي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل .." إلى آخر الآية (41 ؛ الأنفال). فمن المعلوم أن الفاروق قد غلب وجه (المصلحة)، بحسب (روح) هذا (النصّ)، على (منطوقه)، لجهة حرصه على توخى العدل إزاء الذريَّة والأرامل، وأجيال المسلمين الذين سوف يأتون في الغد ليجدوا الأرض بعلوجها قد اقتسمت وحيزت وورثت، علاوة على احتياج الثغور لما تسَدُّ به. وما زال يسوق حججه (العقليَّة) للصحابة حتى اقتنعوا، ففرض الخراج (أنظر: كتاب الخراج لأبى يوسف، ص 14). ومثل ذلك أيضاً إلغاؤه سهم (المؤلفة قلوبهم) المنصوص عليه ضمن الآية الكريمة (60 ؛ التوبة) ، والذى سار عليه من قبله أبوبكر اقتداء بعمل الرسول (ص)، وفتواه الأشهر بعدم جواز قطع يد السارق فى عام الرمادة، وغير ذلك كثير. ويتحفظ بعض المفكرين المسلمين المعاصرين على تسمية هذا المنهج العُمَري في سياسة الدنيا بـ (تعطيل النص)، فالأمر، من زاوية نظرهم ".. لا يعني (تعطيل) النص، بل يعني فقط تأجيله بالتماس وجه آخر في فهمه وتأويله" (محمد عابد الجابرى؛ الدّين والدَّولة وتطبيق الشريعة، ط 1، مركز دراسات الوحدة العربيَّة، بيروت 1996م، ص 45). وهذا، على أيَّة حال، موقف أكثر استقامة، عقليَّاً، من مجرَّد الاستكانة إلى الوجَل الذي لا يورث سوى أحد أمرين: فإما أن يُمسي هذا المنهج العُمَري منكوراً عياناً بياناً، وهذا لا يكون؛ أو أن يجري تداركه باللواذ بالصمت حياله تماماً، وهذا أفضل الحالين، أخذاً في الإعتبار بأنهما وجهان لعملة فقهوفكريَّة واحدة! لكن، مهما يكن الأمر، فإن ما ينبغي أن يتركز عليه النظر والاهتمام هو المنهج نفسه، وليس عنوانه.
    وإذن، فالتعاطي مع النصّ من منظور وجه (المصلحة)، أي (مصلحة الأمة) أو (المصالح الكليَّة)، بالمصطلح الشرعي، إنما يشكل أحد أهمّ عناصر هذا المنهج العُمَري أو (الشروط العُمَريَّة) في مستوى التطبيق. وواضح من وقائع التاريخ الثابتة أن هذا المنهج (العقلاني) قد تطور، خلال تلك الفترة، من باب استيفائه لمقتضياته (الشوريَّة)، فلم يفرضه الفاروق فرضاً، لا على عموم الأمَّة، ولا على خاصَّة الصحابة. بل إن الأخيرين أنفسهم، والذين خصَّهم الله سبحانه وتعالى بتنزُّل الآيات، طازجة، فى حضورهم، قد دأبوا على اعتماد منهج (التدبُّر العقلي) هذا في النصوص بمعيار (المصالح الكلية)، فما كان الفاروق (شذوذاً) عن قاعدة ما، بقدر ما شكل (تجاوزاً) منطقيَّاً بقدراته الاستثنائيَّة شديدة التميُّز والخصوصيَّة. ومن ثمَّ، حقَّ النظر بعين النقد المستقيم، إن لم يكن الشكُّ المشروع، لأىِّ مسعى لإنكار هذا المنهج، أو أيَّة محاولة لإغفاله أو إسقاطه، والاستعاضة عنه بالمناهج التلفيقيَّة لتوليف منظومات من (الأحكام السلطانيَّة) الانتقائيَّة المستندة إلى اجتهادات فقهاء آخرين، من عصور وأزمنة مختلفة، بعد (تنزيههم!)، أجمعين، عن خصيصة (المحدوديَّة!) البشريَّة، و(رفعهم!)، من جانب المتأخرين من حكام ومفكري ومثقفي الجماعة المسلمة، إلى مستوى (القداسة!)، فى غياب، أو ربما (تغييب!) أيّ مداخل نقديَّة تيسِّر قراءة هؤلاء وأولئك قراءة صحيحة، بتقعيدهم، أوَّل شئ، فى إطار الظروف الاجتماعيَّة السياسيَّة والفكريَّة التي عملوا أو أنتجوا اجتهاداتهم تحتها!
    (7)

    إن المسلمين، اليوم، وفى ظروف الانقسام المبهظ الذي يَسِمُ راهنهم حدَّ التشظي، والتطوُّرات الهائلة الجارية في المستويين الوطني والعالمي، والتي طالت حقول حياتهم الاقتصاديَّة والسياسيَّة والاجتماعيَّة والثقافيَّة والفكريَّة كافة، محتاجون، أكثر من أى وقت مضى، لـ ".. إعادة تأصيل الأصول على أساس اعتبار المصلحة الكليَّة، كما كان يفعل الصحابة. وبعبارة أخرى، فإن تطبيق الشريعة، التطبيق الذي يناسب العصر وأحواله وتطوُّراته، يتطلب إعادة بناء مرجعيَّة للتطبيق. والمرجعيَّة التي يجب أن تعلو على غيرها هى (عمل الصحابة)، فهي الوحيدة التي يمكنها جمع المسلمين على رأي واحد، لأنها سابقة على قيام المذاهب وظهور الخلاف؛ كما وأنها صالحة، أيضاً، لكل زمان ومكان، لأنها مبنيَّة على اعتبار المصالح الكليَّة" (محمد عابد الجابرى؛ الدّين والدَّولة ..، مصدر سابق ، ص 52 ـ 53). وفى قول الجوينى ، إمام الحرمين: "إن سُبرَ (أى اختبار) أحوال الصحابة رضى الله عنهم، وهم القدوة والإسوة فى النظر، لم يُرَ لواحد منهم فى مجالس الاستشوار تمهيد أصل واستثارة معنى، ثم بناء الواقعة عليه (أى كما يفعل الفقهاء فى قياساتهم)، لكنهم يخوضون فى وجوه الرأى من غير التفات إلى الأصول، كانت أو لم تكن"؛ ويقصد (الأصول) التى وضعها الفقهاء لمذاهبهم الفقهيَّة. ويقول أيضاً: "إن أصحاب رسول الله (ص) ما كانوا يجرون على مراسم الجدليين من نظار الزمان (أى زمنه هو) في تعيين أصل، والاعتناء بالاستنباط به، وتكلف تحرير على الرسم المعروف فى مجالس الاستشوار بالمصالح الكليَّة" (ضمن محمد عابد الجابرى؛ الدّين والدَّولة ..، مصدر سابق، ص 51 ـ 52).
    الإشارات:


    ٭ العَتودُ: الجَدْىُ الذى اسْتكْرَشِ ، وقيل: هو الذى بلغ السِّفاد ، وقيل هو الذى أجْذعَ. والعَتودُ من أولاد المَعَز: ما رَعَى وقَوِىَ وأَتَى عليه حَوْلٌ (أنظر: لسان العرب لابن منظور، مادة "عتد"). وهو هكذا فى غالب عاميَّة المستعربين السودانيين.

    ٭٭ المقصود بتعدد المصاحف هنا مجرد مجاز لتعدد الأفهام ، ومضامين (التديُّن) ، وزوايا النظر ، فى إطار ذات المصحف العثمانى الواحد ، وليس الاشارة إلى تعدد محاولات جمع القرآن السابقة على المصحف العثمانى ، حيث شهد التاريخ الاسلامى محاولات حثيثة لجمع القرآن على أيدى عدد من الخلفاء الراشدين والصحابة الأجلاء ، ممن خافوا ضياعه بعد وفاة الرسول (صلى الله عليه وسلم) ، وعلى رأسهم أبوبكر الصديق الذى عهد بهذه المهمة إلى زيد بن ثابت ، فتتبَّعه وجمعه ، آية آية ، من العُسُب ، واللخاف ، والكرانيف ، والأضلاع ، والأكتاف ، وذاكرة الرجال (عبد الصبور شاهين؛ تاريخ القرآن، القاهرة 1966م ، ص 102). وتواترت هذه المحاولات ، قبل تمام جمع (المصحف الإمام) وحرق ما عداه على يد عثمان بن عفان ، حتى بلغت المصاحف فى جملتها واحداً وعشرين مصحفاً ، منها مصحف عمر بن الخطاب ، ومصحف على بن أبى طالب ، ومصحف أبَى بن كعب ، ومصحف عبد الله بن مسعود ، ومصحف عبد الله بن عباس ، ومصحف عبد الله بن الزبير ، ومصحف عبد الله بن عمر ، ومصحف عائشـة ، ومصحف حفصة ، ومصحف أم سلمة ، وغيرها (للمزيد من التفاصيل راجع: الحافظ أبو بكر السجستانى ، كتاب المصاحف القاهرة 1936م ، ص 81 ـ 91).

                  

10-30-2009, 08:21 AM

سيف الدين عوض
<aسيف الدين عوض
تاريخ التسجيل: 05-06-2009
مجموع المشاركات: 487

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: عَتُودُ الدَّوْلَة ،،، ثَوابِتُ الدِّينِ أَم مُتَحَرِّكاتُ التَّدَيُّن؟! بقلم كمال الجزولي (Re: الهادي هباني)

    الاخ هباني ...

    في انتظارك ..
                  

10-31-2009, 07:26 AM

الهادي هباني
<aالهادي هباني
تاريخ التسجيل: 06-17-2008
مجموع المشاركات: 2807

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: عَتُودُ الدَّوْلَة ،،، ثَوابِتُ الدِّينِ أَم مُتَحَرِّكاتُ التَّدَيُّن؟! بقلم كمال الجزولي (Re: سيف الدين عوض)

    شكرا أخ سيف الدين و خليك متابع و مشارك
    معنا بإستمرار و سنكون عند حسن ظنك ،،،
                  

10-31-2009, 07:33 AM

الهادي هباني
<aالهادي هباني
تاريخ التسجيل: 06-17-2008
مجموع المشاركات: 2807

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: عَتُودُ الدَّوْلَة ،،، ثَوابِتُ الدِّينِ أَم مُتَحَرِّكاتُ التَّدَيُّن؟! بقلم كمال الجزولي (Re: الهادي هباني)

    الحلقة الثانية


    الدّينُ لم يُعلّم المسلمينَ التّجَارَةَ، ولا الصّناعَةَ، ولا تَفصيلَ سياسَةَ المُلك)

    الإمام محمد عبده
    (8)

    موضوعة (المصالح الكليَّة) التي ينبغي أن تكون في أساس أيّ فقه جديد يوافي معطيات عصرنا ومطلوباته، تثير واحدة من أعقد الإشكاليَّات الرَّاهنة، الشَّاخصة في أفق الفكر السّياسي وصراعاته في بلادنا، بخاصة، وهى إشكاليَّة مفهوم (الدَّولة STATE) في تفاعلاته مع مفهوم (الحداثة MODERNITY). ويجرُّ هذان، بدورهما، المفهوم المتقلقل الآخر ـ والذي لم يستقر الفكر السّياسي السوداني، حتى الآن، بثقله المستعرب المسلم، كما الفكر السّياسي العربي كله، بثقل الجَّماعة المسلمة الأكبر في المنطقة، على صياغة ودلالة له أكثر وثوقاً، والمعبَّر عنه، حتى إشعار آخر، بـ (فصل الدين عن الدولة) حيناً، و(فصل الدين عن السياسة) حيناً آخر، بما يستتبع، في الحالتين، ضربة لازب، مفهوم (العلمانيَّة SECULARISM) في الفكر الغربي عموماً، ومفهوم (اللائكيَّة LAICISM) في الفكر الفرنسي بخاصة.
    هكذا، ما نكاد نخرج من أكَمَة التباس اصطلاحي ومفهومي حتى نلفى أنفسنا وقد انحشرنا حشراً في غيرها، كما لو أن ثمَّة استحالة في معالجة إشكاليَّة (الدّين والدَّولة) من غير الإحالة الكاملة إلى نسق هذه المفاهيم والمصطلحات، والمقابلة الاصطداميَّة بينها وبين الفكر الغربي! لهذا تلزمنا، ابتداءً، مقاربة الإشكاليَّة في مظانها، ضمن الثقافة الإسلاميَّة ذاتها، لأجل الوقوف على صِحَّة أو عدم صِحَّة لزوم تينك الإحالة والمقابلة.
    غير أنه يلزمنا، قبل ذلك، التأكيد، في هذا الاتجاه، على أن أيَّة محاولة لاستنباط مفهوم (الدَّولة) الحديث من (النصوص) الإسلاميَّة، قطعيَّة الورود والدلالة، لن تعدو كونها ضرباً من مناطحة الصَّخر، ليوهي قرنه الوعل، وبخاصَّة من الآيات القرآنيَّة. ففي القرآن لم يرد اللفظ سوى مرَّة واحدة، لكن بضم الدَّال لا بفتحها، في قوله تعالى عن مال الفئ: "كي لا يكون دُولة بين الأغنياء منكم" (7 ؛ الحشر)، أي لئلا ينتفع بهذا المال ويستأثر به الأغنياء دون الفقراء (صفوة التفاسير)، أو كيلا يتقاسمه الرؤساء والأغنياء بينهم دون الفقراء والضعفاء (القرطبي).
    (9)

    لقد أسهب كتاب كثر في بيان انتساب (الدَّولة) و(نظم الحكم) في الإسلام إلى (العقل) الإسلامي وإرادته، لا إلى (النصّ المقدَّس)، اللهمَّ إلا من جهة القيم والمبادئ العامَّة. فقد أوضح د. محمد عمارة، مثلاً، في مبحثه القيّم (الإسلام والسُّلطة الدينيَّة)، أن مصطلح (الأمـر) هو الذي استخدمه القرآن، واستخدمته السُّنة ، واستخدمه الأدب السّياسي في صدر الإسلام، للتعبير عن (السّياسة) أو (نظام الحكم) أو (السلطة العليا) فى المجتمع الإسلامي، وما يتصل بها، كشئون دنيويَّة هي، بطبيعتها، محلَّ (تدافع) فهوم وإرادات البشر. ففي القرآن: "وأمرهـم شورى بينهم" (38 ؛ الشورى)، "وشاورهم فى الأمـر" (159 ؛ آل عمران). وفي الحديث المار ذكره: "أنتم أعلم بأمـر دنياكم". ورُوي أن أبا بكر (رض) قال عند وفاة الرسول (ص): "إن محمداً قد مضى لسبيله، ولا بُدَّ لهذا الأمـر من قائم يقوم به" (الشَّهرستاني؛ نهاية الإقدام، ص 479، المرجع، ص 71)؛ ولا يُعقل، بالطبع، أن يكون قصْدَ الصّدّيق قد انصرف إلى (الرّسالة) التي كان محمد (ص) قد أتمَّ تبليغها قبل وفاته، وهو خاتم الأنبياء والمرسلين. ورُوي أيضاً أن عمراً قال في أولى خطبه بعد توليه الخلافة: "ليعلم مَن ولي هذا الأمـر من بعدي أنْ سيريده عنه القريب والبعيد" (طبقات ابن سعد، ج 3، ق 1، ص 197؛ المرجع، ص 72)؛ وقال عليٌّ إن موت الرسول قد أعقبه "أن تنازع المسلمون الأمـر من بعده" (نهج البلاغة، ص 352، المرجع)؛ وخطب الحسن في أهل العراق قائلا: "أما والله لو وجدت أعواناً لقمت بهذا الأمـر أيَّ قيام" (د. أحمد صبحي؛ نظريَّة الإمامة، ص 326، المرجع، ص 72). ومع أن (الأحكام القرآنيَّة) شأن إلهي، إلا أن (تنفيذها) مرهون (بفهوم البشر) الذين يتولونه، فهو، لذلك، أدخَلُ في باب (الأمـر). وبحسب الجَّابري فإن الثابت الوحيد في المرجعيَّة التراثية هو مفهوم (أولي الأمـر) الذين ينوبون عن الجَّماعة في تنفيذ أحكام القرآن (الدين والدولة ..، مرجع سابق، ص 66 وما بعدها). ومن نافلة القول أن (أولي الأمـر) قد يتولون تنفيذ هذه الأحكام سواء كانت (الدَّولة) في أيدي المسلمين أم في أيدي غيرهم.
    وحدها وقائع التطوُّرات اللاحقة في تاريخ المسلمين، ابتداءً من سقيفة بني ساعدة، هي التي فرضت شكل (الدَّولة) باعتبارها "أداة الملك الضروريَّة" بالمصطلح الخلدوني. بل إن اللفظ نفسه، بفتح الدَّال، لم يُستخدم، كمصطلح سياسي، في الإشارة إلى هذه الأداة، إلا مع العباسيين، تعبيراً عن انتقال (الأمـر) إليهم من الأمويين، ثم سلك، من بعد، في كتابات المؤرخين (المصدر نفسه، ص 21).
    وإذن، فإن (الدَّولة) نشأت لدى المسلمين، كما لدى غيرهم، بحكم (الضَّرورة)، لا (النص).
    (10)

    وليس من فراغ، بالطبع، أنْ سكت الوحي عن تفصيل النظم التي يُدار بها (أمـر) الحكم والسّياسة، مكتفياً بإبراز أعمّ المبادئ، وأكمل المقاصد، لإدارته بالشورى، والعدل، والإحسان، ومنع الضرر والضرار وما إليه؛ فذلك لممَّا يتسق تماماً مع موقف القرآن من (العقل) باعتباره موئل التكليف، ومناط الاستخلاف. بل وكانت تلك، في الواقع، هي خلاصة وعي الأئمَّة الأجلاء في مختلف فترات التاريخ الإسلامي. فأبو حامد الغزالي يقسّم العلوم إلى (شرعيَّة) و(غير شرعيَّة). وعلى حين يعرِّف الأولى بأنها "ما استفيد من الأنبياء .. ولا يرشد العقل إليه"، يقسِّم الثانية إلى (محمود) و(مذموم) و(مباح). فيعرِّف (المحمود) من (العلوم غير الشرعيَّة) بأنه ".. ما ترتبط به مصالح أمور الدنيا"، ويقسّمه، بدوره، إلى (فرض كفاية) و(فضيلة)، ثم يعرِّف ما ينتسب إلى (فرض الكفاية) بأنه تلك "العلوم التي لو خلا البلد ممَّن يقوم بها حرج أهل البلد"، ويُلحق (السّياسة) بهذا القسم (إحياء علوم الدين، ج 1، ص 16). وفى موضع آخر يؤكد الغزالي أن (أمر) الدنيا "لا ينتظم .. إلا بأعمال الآدميين، و.. تنحصر في ثلاثة أقسام: أحدها أصول لا قوام للعالم دونها، وهي أربعة: الزراعة .. والحياكة .. والبناء .. والسّياسة" (المرجع، ص 12 ـ 13).
    أما (السّياسة) نفسها فيعرِّفها ابن قيم الجَّوزيَّة بأنها: ".. ما كان من الأفعال بحيث يكون الناس أقرب إلى الصلاح وأبعد عن الفساد، وإن لم يشرّعه الرسول (ص) ولا نزل به وحي" (إعلام الموقعين عن ربّ العالمين، ج 3، ص 3).
    ويقصر ابن تيمية مرجعيَّة السّياسة الشرعيَّة في القرآن على آيتين: ".. آية طلبت من الأمراء أداء الأمانات والحكم بالعدل، وآية طلبت من الرعيَّة الطاعة لأولى الأمر إذا هم أدُّوا الأمانات وحكموهم بالعدل" (السياسة الشرعية، ص 15 ـ 16). أما التفاصيل فقد تركت لـ (العقل) يستهدى إليها بمقاصد الدّين الكليَّة، من جهة، وبمتغيّرات المكان والزمان من الجّهة الأخرى.
    وهذا ما أكد عليه أيضاً الإمام المجدّد محمد عبده بقوله: "إن تفصيل طرق المعيشة والحذق في وجوه الكسب .. مما لا دخل للرّسالات السَّماويَّة فيه إلا من وجه العظة العامَّة .. إن الدّين لم يعلم المسلمين التجارة ولا الصناعة ولا تفصيل سياسة الملك .. لكنه أوجب عليهم السَّعي إلى ما يقيمون به حياتهم .. وأباح لهم المُلك .. وتحسين المملكة، وكلُّ ما يمكن للإنسان أن يصل إليه بنفسه لا يطالب الأنبياء ببيانه .. وقد أرشدنا نبينا (ص) إلى وجوب استقلالنا دونه في مسائل دنيانا بقوله: ما كان من أمر دينكم فإلىَّ، أما ما كان من أمر دنياكم فأنتم أعلم به" (الأعمال الكاملة، ج 3، ص 420، 426).
    وفي إضاءته لبعض معاني (الاستخلاف)، ضمن هذا الفهم نفسه، يشدّد جمال الدين الأفغاني، أستاذ محمد عبده، على أن الحقَّ معقود للأمَّة وحدها في اختيار حكامها، ومراقبة أدائهم، ومحاسبتهم، بل وعزلهم، ولو بالقوَّة، إن هم حادوا عن جادَّة القسط؛ فالحكمة والعدل ".. في أن تكون الأمَّة في مجموعها حُرَّة مستقلة .. فلا يتصرَّف في شئونها العامَّة إلا من تثق بهم .. وذلك منتهى ما يمكن أن تكون به سلطتها من نفسها". بل ويذهب إلى أبعد من ذلك بقوله إن الحاكم، إذا حنث بقسمه على صون الدستور الذي بايعته الأمَّة عليه، "إما يبقى رأسه بلا تاج، أو تاجه بلا رأس" (الأعمال الكاملة، ص 478، 479).
    (11)

    والآن، إذا كان المسلمون، كما رأينا، قد أدركوا مفهوم (الدَّولة) بحكم (الضرورة)، لا بحكم (النص)؛ وأن الوحي قد سكت عن تفصيل النظم التي يدار بها (أمـر) الحكم والسّياسة، موكلاً ذلك إلى (العقل) باعتباره موئل التكليف ومناط الاستخلاف، ومكتفياً بإبراز أعمِّ المبادئ والمقاصد الكليَّة ليسترشد بها الفقه في ترسيم (الأحكام السلطانيَّة)، كاجتهاد بشرى خاضع لمقايسات (الصواب والخطأ)، لا (الحلال والحرام)، فمن أين تسلل، إذن، إلى الفكر الإسلامي مفهوم (الدَّولة الدّينيَّة) المتخفي خلف شعار: (الحاكميَّة لله)؟!
    البحث عن إجابة لهذا السؤال لا يكون في القرآن، ولا في السنة، ولا حتى في أعمال الصحابة، وإنما في وقائع الخلط والتخليط اللذين توحَّل فيهما (الخوارج) قديماً بشأن مرتبة (الإمامة)، وما ينتسب إليها من (سياسة) و(نظم حكم) في أصول الفقه، فحسبوها خطأ من (أصول القواعد)، ورتبوا، من ثمَّ، لـ (تديُّنهم) هُم بها، حسب (فهمهم الخاص) لها، (كدين) و(وحي) فوق (إرادة) البشر وخارج اختصاص (عقولهم)! ولهذا السبب (خرجوا) على الكرَّار يوم (صفين)، معترضين على قبوله التحكيم بينه وبين معاوية، وهو الذي قال فيه النبي (ص): "أنا مدينة العلم ، وعلىٌّ بابها ، فأتوا البيوت من أبوابها"، ورافعين، من تلك اللحظة التاريخيَّة، شعار (لا حكم لبشر، لا حكم إلا لله) ، وهو الشعار الذي دمغه الخليفة الرَّابع، كرَّم الله وجهه، بكونه "كلمة حق أريد بها باطل" (نهـج البلاغة ، ص 65).
    خطأ هذا الشعار يتبدى جليّاً، حتف أنف رنينه الدّيني العالي، حين نعلم من (الدّين) نفسه بالضرورة أن (أصول) الإيمان ثلاثة لا رابع لها: الألوهيَّة، والنبوَّة، واليوم الآخر؛ فليس من بينها مبحث (الإمامة/الخلافة) الذي يندرج تحته الفكر السّياسي في تراث الإسلام (د. محمد عمارة؛ الإسلام والسلطة الدينية، ص 77). وهذه الأصول الثلاثة مشمولة بقوله تعالى: "ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين. الذين يؤمنون بالغيب ويقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون. والذين يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك وبالآخرة هم يوقنون. أولئك على هدى من ربّهم وأولئك هم المفلحون" (2 ، 3 ، 4 ، 5 ؛ البقرة).
    وفي بعض سند د. عمارة، في المصدر المار ذكره، يؤكد الإمام أبو حامد الغزالي أن كلَّ ما عدا هذه الأصول الثلاثة هو من قبيل (الفروع)، ومن ذلك (الإمامة والسَّياسة)، وبالتالي فإن الخلاف فيهما هو خلاف في مسائل تحتمل (الصَّواب والخطأ)، وليس كمثل الخلاف في (الأصول) مما ينتج عنه (الإيمان والكفر)، فيقول: "واعلم أن الخطأ في أصل الإمامة وتعيُّنها وشروطها وما يتعلق بها لا يوجب شئ منه التكفير" (فيصل التفرقة بين الإسلام والزندقة، ص 15).
    والشَّهرستاني، كذلك، يشدّد على "أن الإمامة ليست من أصول الاعتقاد" (نهاية الإقدام، ص 478).
    وعضد الدين الأيجي والجُّرجاني ينبهان، أيضاً، إلى "أن الإمامة ليست من أصول الديانات والعقائد، بل هي من الفروع المتعلقة بأفعال المكلفين" (شـرح المواقف، ج 3، ص 261).
    وابن تيمية ينفى، هو الآخر، أن تكون الإمامة من الأصول، فلا هي من أركان الإسلام، ولا من أركان الإيمان، ولا من أركان الإحسان (منهاج السنة ، ج1 ، ص 70).
    أما ابن خلدون فيقرر أن القول بأن الإمامة من أركان الدّين وأصوله هو الذي أوقع الشيعة في الخطأ، لأنها سلطة (بشريَّة) يقيمها الناس رعاية لمصالحهم العامَّة، فهى من اختصاصهم وحدهم، وبمحض إرادتهم؛ ويوضّح أن ".. شبهة الشيعة الإماميَّة في ذلك إنما هي كون الإمامة من أركان الدّين .. وليست كذلك، إنما هي من المصالح العامَّة المفوَّضة إلى نظر الخلق" (المقدّمة، ص 168).
    ولا يوجد في ذلك كله ما يؤسّس بذاته لأيّ تعارض بين (النصّ) وبين (العقل = النظر البشري = الرأي). فالإسلام يشتمل على (أصول) وعلى (فروع): الأولى ملزمة بما هي (نصٌّ) قطعيُّ الورود والدلالة، ينتج (معرفة) بالدّين بالضرورة، ويستوجب الاصطفاف توحُّداً في (الإيمان) و(التسليم): "ومن كفر بعد ذلك فأولئك هم الفاسقون" (55 ؛ النور)، "ومن كفر فإن ربّي غنيٌّ كريم" (40 ؛ النمل). أما الأخرى فمتروكة لـ (أفهام) البشر، استناداً، من جهة، كما قد رأينا، إلى مكانة (العقل) في الإسلام نفسه، وجرياً، من الجّهة الأخرى، على قاعدة الحديث الشريف: "ما أمرتكم بشئ من دينكم .." الخ. وبالنظر إلى تعدُّد الفهوم، واختلاف الأزمنة، فإن مشروعيَّة التعدُّد والتباين والاختلاف تتجذر عميقاً في بعض وجوه قاعدة التمييز هذه بين (شأن الدين) وبين (أمـر الدنيا)، وبين (الأصل) وبين (الفرع)، مثلما تنشأ منها أيضاً الضرورة الموضوعيَّة المتمثلة في الاحتياج إلى الوسائل والأساليب اللازمة لتنظيم هذا الاختلاف المشروع.
    وإذن، فكلُّ المسائل المتصلة (بالحكومة) و(السُّلطة السّياسيَّة) و(النظام السّياسي) هي ممَّا يندرج ضمن (الفروع) المفوَّضة إلى نظر الخلق، يهتدون إليها بقواعد كليَّة، ووصايا إلهيَّة عامَّة هي ".. أشبه ما تكون بالمثل العليا التي حدَّدها الله للناس كي لا يضلوا عنها، ولا يتنكبوا الطريق الموصل إلى تحقيقها" (د. عمارة، الإسلام والسلطة ..، مرجع سابق، ص 102).
    وليس د. عمارة وحده من يقول بهذا النظر، بل يكاد أغلب مفكري حركة الإسلام السياسي في المنطقة يلتقون عليه. فمثلاً ينوّه د. محمد سليم العوَّا برجحان فقه إمام الحرمين الجويني، القائل في هذا الصدد: "إن معظم مسائل الإمامة عريَّة من مسالك القطع، خليَّة عن مدارك اليقين"، ليخلص إلى "أن كل ما يتعلق بالشأن السّياسي، ونظام الحكم خاصة، ليس فيه أمر مقطوع به، ولا متيقن منه، وإنما على المسلمين .. أن يصوغوا تلك الأمور حسبما يرونه محققا للمصلحة في أزمنتهم، مهتدين إلى ذلك بقيم الإسلام ومقاصده لا أكثر، وهى تدور حول أمور كليَّة مثل الحرية والعدل والمساواة واحترام الإنسان الذي كرَّمه الله" (ندوة مركز الدراسات الحضاريَّة بالقاهرة حول التعدديَّة السّياسيَّة ـ أخبار اليوم، 22/2/1998م).
    أما فهمي هويدي الذي يعتبر من أكثر مفكري حركة الإسلام السّياسي حماساً لما تصطلح عليه بـ (المشروع الحضاري)، فإنه لا يستنكف أن يصف هذا المشروع بأنه "لا يعرف (مؤسَّسة دينيَّة)، ولا (رجال دين)، ولا (سلطة دينيَّة) .. إذ أن (الدّين) يظل مجموعة من (القيم) .. التي (تستلهم) في عمارة الدنيا والآخرة ، ومن ثمَّ ينبني عليها مجتمع (مدني) .. (الأمَّة) فيه (مصدر) السُّلطة، و(الناس) .. (حُرَّاسه) الحقيقيُّون" (أقواس التشديد من عندنا ـ م/المجلة، ع/800، 17/6/1995م).
    (12)
    لكن،
    ولأن القطعيَّ من النصوص، بشأن الإدارة التفصيليَّة لـ (أمور) الدنيا، يكاد يكون منعدماً، فإن الباحثين درجوا، عند التصدّي لقضايا النظام السّياسي، على الاستعانة بوقائع معيَّنة من (تاريخ الدولة في الإسلام)، وسوابقها المشروطة بمقتضيات زمانيَّة ومكانيَّة محدَّدة، والاستشهاد "بآراء الفقهاء، أو الأنظمة التي اتبعت في الأزمنة السابقة .. وتلك كلها أمور لا إلزام فيها، وينبغي ألا تعطى حجماً أكبر ممَّا ينبغي .. ولن نلزم أنفسنا بأطر جامدة أو دوائر مغلقة" (د. يوسف القرضاوي؛ "ندوة مركز الدراسات الحضاريَّة"، مصدر سابق).
    وبالحق، فإن القرآن والسنة يقدّمان هداية عامَّة حول الشورى، والعدل، والإحسان، والمساواة، والحريَّة الدينية، والوفاء بالعهد، وأداء الأمانات إلى أهلها، وغيرها، إلا أنهما لا يتضمَّنان نصوصاً قطعيَّة في تفصيل نظام الدولة، أو شكل السلطة، أو أحكام السياسة، أو ما إلى ذلك. فتلك كلها (أمـور) مرهونة بظرفي الزمان والمكان، وقد شملها جهد الصحابة الذين كانوا يفهمون النصوص "على ضوء البيئة ودوران المصلحة" ـ حسب الصادق المهدي ـ وكذلك جهد من أنار الله بصائرهم من ".. قادة الفكر الإسلامي، والمفسرين بقيادة ابن عباس، والفقهاء بقيادة الأئمة، فعادوا إلى نصوص القرآن والسُّنة، واستنبطوا منها المعاني والأحكام التفصيليَّة، وراعوا في ذلك تطورات البيئة من مجتمع المدينة إلى مجتمع عالمي يضم قارات ثلاثاً " (الصادق المهدي؛ أحاديث الغربة، ص 28 ـ 29).
    بل إن د. حسن الترابي نفسه، وهو مَن هو، بموقعه في رأس القيادة التاريخيَّة لحركة الإسلام السياسي في بلادنا، والتي حسمت قضيَّة السُّلطة بالإنقلاب العسكري في 30/6/1989م، يقرُّ، من جانبه، بأن معالجة الأحكام السلطانيَّة إنما استندت، تاريخيَّاً، إلى أعمال الفقهاء، وفتاواهم المقيَّدة بظروف الزمان والمكان. ويؤكد، ضمناً، على كون قضايا (الدَّولة) و(السّياسة) من (الفروع)، وذلك حين يعرض لها، عامداً، في السياق، إلى التمييز بين (الأصول) التي يصفها بالثبات، والأزليَّة، والصلاحيَّة لكلّ زمان ومكان، وبين (الفقه) الذي يصفه بأنه "كسب المسلمين في فهم الإسلام، وتطبيقه، وتنزيله في كلّ واقع معيَّن، ولا حظ له من الخلود، لا سيَّما أنْ قد تبدَّلت بابتلاءات التاريخ أطر الحياة وظروفها، فأصبحت المجتمعات .. حضريَّة كثيفة، والإمكانات أوسع .. فلا بُدَّ من تنظيم تقديرات الحُريَّة، وتعبيرات الرأي العام، وتدابير الشورى، وإجراءات التولية في السلطة العامَّة، وسائر الشئون السلطانيَّة، بتوخّي أحكام فقهيَّة جديدة" (خواطر في الفقه السياسي لدولة إسلاميَّة معاصرة، ط 1، عالم العلانية، الخرطوم 2000م، ص 3 ـ 4).
    لذلك كله فإن الذين رفعوا شعار (الحاكميَّة) ، في مختلف مراحل التاريخ الإسلامي، ابتداءً بالخوارج، ومروراً بأبي الأعلى المودودي ثم سيّد قطب، وانتهاءً بحركات الإسلام السياسي الراهنة، وبخاصة دعاة الدولة الدينية في السودان، كانوا يدركون، كما يدركون الآن، ولا بُدَّ، استحالة استصحاب أيّ سند لشعارهم من القرآن أو السنة مباشرة، وما ذلك إلا لكون مثل هذا السند غير موجود أصلا (سنتناول، بعد قليل، الإشكاليَّة التي ما تنفكُّ تثار حول وجود أمر قرآني صريح لإنفاذ السلطة السّياسيَّة في المجتمع باتباع (الوحي) السَّماوي، لا بابتداع (العقل) البشري، وذلك بالاستناد إلى الآيات 44 ، 45 ، 47 ؛ المائدة).
    مع ذلك، ولأنه لا بُدَّ لأصحاب هذا الشعار من سند في هذين المصدرين الأساسيين، فقد عمدوا، بلا هوادة، إلى إحلال (تأويلهم) هُم للنصوص (المثبتة) محلَّ النصوص (الغائبة)! ولمَّا اصطدموا بحقيقة عجزهم عن كسب الإجماع على هذا (التأويل) الذي هو محض (رأي) و(فهم) خاصَّين، سَعُوا، بالترهيب، إلى إكسابه ذات (القداسة) التي للنصوص! وما ذاك، في الواقع، إلا لانطلاقهم، أصلاً، من فرضيَّة مغرقة في الخطأ، فحواها إنكار مكانة (العقل) بين (الدّين) و(التديُّن)، على أساس ".. أن الكتاب والسنة قد اشتملا على كلّ النظم الحضاريَّة المطلوبة، فكأن لسان حالهم يقول: قلب الصفحات تجدها!" (محي الدين عطيَّة؛ "أمراض الصحوة الإسلاميَّة"، م/المسلم المعاصر، ع/42، ص 85)؛ في حين أن جلال القرآن، من قبل ومن بعد، ليس في كونه موسوعة علميَّة، أو دائرة معارف سياسيَّة، كما يتوهَّمون، وإنما في كونه كتاب هداية للإيقاظ، ودعم الإيمان، وأخذ العبرة، وترشيد السلوك (الشيخ محمد الغزالي؛ دستور الوحدة الثقافيَّة بين المسلمين، ص 192). وكما سبق أن أوردنا فإن الله سبحانه وتعالى قد وصفه بنفسه بأنه "هُدى للمتقين" (2 ؛ البقرة).
    (13)

    ومن أهم وجوه الخطل في هذا (التأويل) الذي أفضى بأهله إلى رفع شعار (الحاكميَّة) المتوحّل في (الخلط) و(التخليط) بين (الأصول) و(الفروع)، كما يلاحظ د. عمارة (مرجع سابق ، ص 47 وما بعدها)، الفهم الملتبس لدلالة مصطلح (الحكم) في القرآن الكريم، فاشتقوا منه، بصورة متعسفة، مصطلح (الحاكميَّة)! لقد (ظنوا) أن المصطلح يدلُّ على (النظام السّياسي) أو (السُّلطة السّياسيَّة العليا) في المجتمع، في حين أنه، وبإجماع ثقات التفاسير، يدلُّ على (القضاء)، فحسب، أي الفصل في المنازعات، أو (الحكمة)، أي الفقه والعلم النافع والنظر العقلي، أو (النبوَّة). فالله عزَّ وجلَّ يصف نفسه، في بعض الآيات، بأنه (يحكم) ، أي (يقضى) بين العباد (بحكمه)، أي (بقضائه)، كما في قوله: "أن الحكم إلا لله"، أي القضاء (40 ؛ يوسف، تفسير الجلالين). "وكيف يحكمونك وعندهم التوراة فيها حكم الله" (43 ؛ المائدة)، أي بالرَّجم (تفسير الجلالين)، وقال الحسن: هو الرَّجم، وقال قتادة: هو القود (القرطبي). "وله الحكم وإليه ترجعون"، أي وله القضاء النافذ في كل شىء (70 ؛ القصص، تفسير الجلالين). "ألا له الحكم وهو أسرع الحاسبين"، أي له الفصل والقضاء (62 ؛ الأنعام ، صفوة التفاسير للصابوني). "أن الحكم إلا لله يقص الحق وهو خير الفاصلين"، أي وهو خير من فصل القضايا (57 ؛ الأنعام، ابن كثير). وفى آيات أخرى يخبر سبحانه وتعالى عن أنبيائه؛ فعيسى عليه السلام لم يكن رجل (دولة) أو (سياسة)، ومع ذلك أوتى (الحكم) في معنى (الحكمة): "ما كان لبشر أن يؤتيه الله الكتاب والحكم والنبوَّة ثم يقول للناس كونوا عباداً لي" (79 ؛ آل عمران، صفوة التفاسير). "ونبي الله يحي لم يكن حاكماً سياسياً .. ومن باب أولى لا يُتصوَّر منه شىء من هذا وهو صبي" (د. عمارة، ص 48)، بل ابن سنتين أو ثلاث سنين فى قول قتادة، وثلاث سنين في قول مقاتل (القرطبى)، ومع ذلك يقول الله تعالى: "يا يحي خذ الكتاب بقوَّة. وآتيناه الحكم صبيَّا" (12 ؛ مريم)، أي النبوَّة (تفسير الجلالين)، أو الفهم والعلم والجّدَّ والعزم والإقبال على الخير والانكباب عليه والاجتهاد فيه (ابن كثير). ولم يسأل سيدنا إبراهيم ربَّه أن يهبه (دولة) أو (سلطة سياسيَّة) حين دعا: "ربّ هب لي حُكماً وألحقني بالصالحين" (83 ؛ الشعراء)، وإنما سأله أن يهبه كمالاً في العلم والعمل (البيضاوي). ويعدّد الله سبحانه أنبياءه، واصفا إيَّاهم بأنهم: "أولئك الذين آتيناهم الكتاب والحكم والنبوَّة" أي الحكمة (83 ـ 89 ؛ الأنعام، البيضاوي).
    (14)

    وثمة حُجَّة واهية أخرى تثار، عادة، في باب تأويل مصطلح (الحكم) بدلالة (السُّلطة السّياسيَّة)، ويحاول أصحابها الاستناد، بلا طائل، إلى الآيات الكريمات الثلاث (44 ، 45، 47) من سورة المائدة: "ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون ـ الظالمون ـ الفاسقون" لكي يؤسّسوا على (مظهرها) اللفظي العام (فهمهم) السّياسي الخاص والخاطئ لشعار (الحاكميَّة). غير أن هذا (الفهم) سرعان ما يتزلزل عند فحصه في ضوء أيّ من ثقات التفاسير.
    لقد أجمع الأئمة، ومن بينهم، على سبيل المثال، ابن كثير والواحدي النيسابوري وجلال الدين السيوطي، نقلاً عن الأحاديث التي وردت في الصّحاح والمسانيد المعتمدة، أن هذه الآيات نزلت لأسباب تتعلق بإقامة بعض الحدود، كالقتل فى حالة الأقوام اليهود الذين ارتكبوه، ثمَّ أضمروا أن (يتحاكموا) إلى محمد (ص)، فإن أفتاهم بالدّيَّة أخذوا قوله، وإن (حكم) بالقصاص لم يسمعوا إليه؛ وكذلك الزّنا في حالة يهود المدينة الذين استبدلوا تسويد الوجه مع الجلد بحد الرجم كما في التوراة. وفى الحالتين كانت المآرب المضمرة، والنوايا الخاصة، هي التي تحرّك الأفعال، لا ابتغاء وجه الله بإخلاص، وفي ذلك نزلت هذه الآيات. ومن ثمَّ، فإن أيَّ مسعى لسحب دلالتها إلى حقل (الحكومة) أو (السُّلطة السّياسيَّة) لا يعدو كونه ضربا من التعسُّف والتعمُّل العاريين من السند الوثيق، ونموذجا للتمادي في اللجاجة والمماحكة بدافع القفز إلى (الحُكم) شهوة وطموحاً (خليل عبد الكريم؛ لتطبيق الشريعة لا للحُكم، ص 15 ، 16).
    هكذا، وباستخدام منهج النظر في سبب ومناسبة التنزيل، تستبين فداحة موحل القائلين باشتقاق (الحاكميَّة) من مصطلح (الحُكم) القرآني، متوهّمين، أو ساعين لإيهام الأمَّة، بأنه إنما يعنى (السُّلطة السّياسيَّة)، ورامين، من وراء ذلك، إلى سلب هذه الأمَّة كلَّ سلطان على أمرها، وتركيزه في يد فرد أو نخبة تزعم أنها تسوسهم بـ (الحقّ الإلهي)!
                  

11-01-2009, 09:04 PM

الهادي هباني
<aالهادي هباني
تاريخ التسجيل: 06-17-2008
مجموع المشاركات: 2807

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: عَتُودُ الدَّوْلَة ،،، ثَوابِتُ الدِّينِ أَم مُتَحَرِّكاتُ التَّدَيُّن؟! بقلم كمال الجزولي (Re: الهادي هباني)

    الحلقة الثالثة

    (وَلَوْلا دَفْعَ الله النَّاسَ بَعْضَهُمْ ببَعْض لَفَسَدَت الأَرْض)

    قرآن كريم

    (15)

    مسألة استنباط (الحاكميَّة) من معاظلة النصوص تقترن، وثيقاً، وإنْ بشكل متناقض، مع مسألة أخرى محورها غلبة (الطابع التعدُّدي) على موقف الإسلامويين أنفسهم من مفهوم (السُّلطة السّياسيَّة). ويبدو هذا الاقتران المتناقض منطقيَّاً تماماً، بالنظر إلى غياب النصّ المباشر، قطعيّ الورود والدلالة في الكتاب أو السنة، من جانب، وبالنظر، من الجانب الآخر، إلى أن تعدُّد الأفهام واختلاف الآراء، المفضيين إلى التدافع والصراع، هما بعض سنن الله في خلقه، أي القوانين الثابتة التي يسير عليها نظام الكون "ولن تجد لسنة الله تبديلا" (62 ؛ الأحزاب)، "ولو شاء ربك لَجعل الناس أمَّة واحدة ولا يزالُون مختلفين" (118 ؛ هود)، ويقول ابن كثير في التفسير: "أي ولا يزال الخلف بين الناس في أديانهم واعتقادات مللهم ونحلهم ومذاهبهم وآرائهم".
    لقد اختلف الخوارج، كما قد رأينا، مع سيّدنا عليّ كرَّم الله وجهه، حول مسألة التحكيم في صفين. واختلف المسلمون، قبل ذلك، حول اختيار الخليفة الأوَّل في (سقيفة بني ساعدة)، فانقسموا إلى: (أنصار) و(مهاجرين). وانقسم الأنصار إلى (أوس) و(خزرج). ثمَّ انقسم المهاجرون، بدورهم، إلى (مبايعين) لأبى بكر (رض)، من ناحية، و(مغاضبين) من بنى هاشم، من الناحية الأخرى، لزموا مع الكرَّار بيته لا يبايعون، لكونهم رأوا معه أن له حقاً في (الأمر). ووقع الخلاف، في وقت لاحق، بين عليّ، كرَّم الله وجهه، وبين السيدة عائشة (رض). ثم بينه وبين معاوية. وقبل ذلك بين عثمان الذي أقسم: "والله لا أخلعنّ قميصاً قمَّصنيه الله"، وبين بعض الصحابة، مما أفضى إلى قتله. ثمَّ تعدَّدت المذاهب الفقهيَّة في مرحلة لاحقة. ثمَّ استعر الخلاف حول الاتجاهات العامَّة التي استوعبت فرق المسلمين، كالسَّلفيَّة والصوفيَّة والمعتزلة والمحافظة والعصرانيَّة .. الخ. ثمَّ وقع الانقسام التاريخي بين الإسلام (السُّني) والإسلام (الشيعي). ويكاد الصّراع على السُّلطة يسمُ مجمل تاريخ الدولة الإسلاميَّة منذ تأسيس دولة الأمويين وانقلاب الخلافة الراشدة إلى ملك عضود. وفى بعض قول شهير للشَّهرستاني أن سيوف المسلمين ما سُلت حول أمر كما سُلت حول قضية السُّلطة. وفي التاريخ الحديث توزع الإسلامويُّون بين مختلف الجماعات المتناحرة إلى حدّ الدَّم أحياناً، وادّعاء كلّ فرقة أنها وحدها (الناجية)، في أفغانستان، ومصر، ولبنان، وإيران، والجزائر، وغيرها. وفى السودان اختلفت رؤاهم، فانقسمت أوعيتهم التنظيميَّة ما بين حركة الأخوان المسلمين، أو جبهة الميثاق الإسلامي، بقيادة الصادق عبد الله عبد الماجد حيناً، والدكتور حسن الترابي أحياناً أخرى ، والحركة الإسلاميَّة، أو الجَّبهة الإسلاميَّة القوميَّة، بقيادة د. الترابى فى مرحلة لاحقة، وحزب التحرير الإسلامي، والحزب الإشتراكي الإسلامي، وجماعة أنصار السنة بجناحيها (شيخ الهديَّة وشيخ أبو زيد)، وجماعات التكفير والهجرة، بمختلف مسمَّياتهم، وأخيراً، وليس، بالقطع، آخراً، بين مؤتمر وطني (البشير)، وآخر شعبي (الترابي)، وبين أخوان مسلمين (جناح صادق عبد الله)، وأخوان مسلمين (جناح أبو نارو) .. الخ. وهى ليست محض انقسامات تنظيميَّة، بقدر ما هي انعكاس موضوعي لخلافات الحركيين الإسلامويين حول جلّ القضايا الجوهريَّة الأكثر تعقيداً، والتي لا تفتأ، في العادة، تطرح نفسها، بالضرورة وبشكل ضاغط، على كل من يتصدَّى لمهام العمل السّياسي، فتباينت خياراتهم بشأن معظم قضايا الاقتصاد، والتشريع، والمرأة، والدستور، والتصوير، والنحت، والغناء، والموسيقى، والرقص، والحجاب، والنقاب، والمواطنة، والحريَّات، والديموقراطيَّة، والتعدُّديَّة، وتطبيق الشَّريعة، والمناهج التعليميَّة، والانقلابات العسكريَّة، والأحزاب السّياسيَّة، والعلاقات الخارجيَّة، وشكل الحكم، وحقوق الإنسان، واستقلال القضاء، والتعليم المختلط، والحرب والسلام، وعلاقة الدّين بالدَّولة، وضرب الدفوف والمعازف، ومعاملة غير المسلمين، وما إلى ذلك.
    ومع أن هذه (التعدُّديَّة) ليست خارج القوانين الثابتة، أو (السُّنن)، بالمصطلح الإسلامي، التي استنها الخالق ليسير عليها نظام الكون، والإنسان في مركز القلب منه، إلا أن مشكلة الإسلامويين، عموماً، تنبع من عدم اعترافهم (بقانون التنوُّع والتعدُّد) هذا، رغم أنه لا ينفكُّ يفعل فعله في حركتهم نفسها، فتأمل!
    (16)

    لقد أضحى الاعتراف (بالتعدُّديَّة)، في معنى تحمُّل (الآخر = المغاير/المختلف)، احتياجاً ملحاً، ذاتيَّاً وموضوعيَّاً، بالنسبة لمستقبل الحركات الإسلاميَّة نفسها، نظراً لتفاقم ظاهرة انشقاقاتها، وتباين المواقف في ما بين بعضها البعض، بل وداخل كلّ فرقة منها على حدة، مع تزايد ضغوط الواقع، من حولها، بأسئلته المتناسلة في جبهات النشاط السّياسي والفكري كافة، وعلى كلّ المستويات المحليَّة والعالميَّة، بصرف النظر عن كون هذا (الاعتراف) مطروحاً أو غير مطروح، في الوقت الرَّاهن، ضمن مشاريع هذه الحركات إزاء منظومة التعدُّد التي تشكل السّمة الأهمَّ لواقع بلادنا وشعوبها المختلفة، أو ضمن أجندة التنافس والصّراع بين هذه الحركات وبين خصومها الفكريين والسياسيين. (فالتعدُّد) حقيقة موضوعيَّة قائمة، اعترفنا أم لم نعترف به، وهو مفهوم يرتبط أوثق الارتباط بمفهوم (التدافع) القرآني "ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض ولكن الله ذو فضل على العالمين" (251 ؛ البقرة)، بل ولولا (التعدُّد) أصلاً، لما أمكن تصور (التدافع) عقلاً.
    (17)

    ولئن كان الفكر السّياسي الغربي قد عالج موضوعة (التعدُّد) ضمن مفهوم (الديموقراطيَّة الليبراليَّة)، فإن الكثيرين، حتى وسط مفكري حركة الإسلام السّياسي المعاصرين، يبدون تقديراً طليقاً لهذا الضرب من المعالجات الفكريَّة والسياسيَّة، وذلك على قاعدة الحديث الشريف: "الحكمة ضالة المؤمن، أنّى وجدها فهو أحقُّ الناس بها". وهكذا نجد الشيخ محمد الغزالي، مثلاً، يشدِّد، من موقعه كأحد أبرز أئمَّة حركة (الأخوان) في المشرق العربي، على أن ".. التفتح العقلي ضرورة ملحة .. فماذا يمنع الفقيه المسلم من قبول كل وسيلة أصيلة أو (مستوردة) لتحقيق الغايات التي قررها دينه؟! إن النقل والاقتباس في شئون الدنيا، وفي المصالح المرسلة، وفي الوسائل الحسنة، ليس مباحا فقط، بل قد يرتفع الآن إلى مستوى الواجب" (دستور الوحدة الثقافيَّة ..، ص 182). وإذا كانت الانتخابات البرلمانيَّة من آليات الديموقراطيَّة الأساسيَّة، فقد تصرَّمت أزمان مذ أضحت معتمدة لدى غالب تنظيمات الإسلام السّياسي، ليست الساعية إلى السُّلطة، فحسب، بل والتي تبوَّأتها فعليَّاً، في السودان وإيران وتركيا وفلسطين وغيرها. وقد ذهب بعضها إلى حدّ اعتبارها جزءاً لا يتجزَّأ من الدين نفسه، حيث دعا، مثلاً، آية الله علي خامنئي، مرشد الجمهوريَّة الإسلاميَّة في إيران، الشعب للمشاركة فيها ".. كواجب ديني" (وكالات وقنوات فضائيَّة، 8/1/2000م). وفى هذا يعود الشيخ محمد الغزالي ليقول: ".. شعرت بجزع عندما رأيت بعض الناس يصف (الديموقراطيَّة) بالكفر، فلما بحثت عمَّا عنده لكفالة الجماهير، وكبح الاستبداد، وجدت عبارات رجراجة يمكن إلقاؤها من منبر للوعظ" (دستور الوحدة الثقافيَّة ..، ص 186). والصادق المهدي يؤكد أن "الإسلام يوافقها (أي الديموقراطيَّة) في خاماتها المبدئيَّة، ولكنه لا يفصّل نظاماً ديموقراطيَّاً محدَّداً، ويترك ذلك لظروف الزمان والمكان" (أحاديث الغربة، ص 38). والدكتور عبد الله النعيم، أحد أهمّ مفكري الحركة الجمهوريَّة في السودان، يرى ".. أن الحاجة لتحمُّل تعدُّد الرأي بين المسلمين أنفسهم تجعل الليبراليَّة الإسلاميَّة مهمَّة بالنسبة للحيويَّة الدينيَّة للإسلام نفسه، بالإضافة إلى التطور السّياسي أو الاجتماعي للمجتمعات الإسلاميَّة .. يجب أن يؤدى تحمل التنوُّع بين المسلمين، فيما يخصُّ الأمور الدينيَّة ـ كما يتطلبه القرآن وتدلُّ عليه التجربة التاريخيَّة ـ إلى المزيد من التحمُّل للأنواع الأخرى للتنوع في المجتمعات الإسلامية، بالإضافة إلى علاقاتها بغير المسلمين، أي أن المنطق الديني للتحمُّل سوف يؤدي إلى تقدير أفضل للتعدديَّة كواقع حياة في مجالات أخرى" (ورقة ضمن كتاب "الديموقراطيَّة في السودان: البُعد التاريخي والوضع الراهن وآفاق المستقبل"، تحرير د. حيدر إبراهيم علي، مركز الدراسات السودانيَّة، القاهرة 1993م، ص 242). بل لم يعُد من النادر أن نقع على ذات المعنى في تصريحات الكثيرين من رموز حركة الإسلام السّياسي الحاكمة في السودان. ففي المقتطف المطوَّل الآتي يقول د. عبد الوهاب الأفندي: "إذا كان هناك درس يستفاد من التجربة السودانيَّة فهو أنه لا غنى للإسلاميين عن اتباع الأساليب الديموقراطيَّة الحديثة، ليس فقط في إدارة شؤون البلاد، بل وفى إدارة شؤون الإسلاميين أنفسهم. ذلك أن التجارب الديموقراطيَّة الحديثة مثلت نقلة نوعيَّة في ابتداع الوسائل العمليَّة لتحقيق الأهداف التي ظلت المجتمعات الإنسانيَّة تسعى لتحقيقها منذ القدم .. (و) الحركات الإسلاميَّة الحديثة قبلت هذه الفكرة نظرياً .. فحركة الأخوان المسلمين وغيرها شادت بناءها التنظيمي على أسس ديموقراطيَّة .. (و) قبلت بواقع المشاركة الديموقراطيَّة، واعترف حسن البنا وغيره بأن النظام البرلماني الدستوري هو الأقرب إلى روح الإسلام، ولكن هذه الحركات لم تطوّر فكرها لاستيعاب هذا التحوُّل، و.. قادة هذه الحركات لم يستوعبوا فكرة الديموقراطيَّة فى سلوكهم. وهم فى ذلك يتبعون سنة بعض الخلفاء الذين كانوا يرون أنفسهم نوَّاباً عن رسول الله (ص) وليسوا نوَّاباً عن المسلمين، ولهذا نجدهم يستلهمون قراراتهم بالنظر إلى أعلى، فهم .. يقرّرون نيابة عن الله تعالى، وليس نيابة عن أتباعهم أو الشعب .. حتى يفاجأوا بثورة عارمة .. فالاستبداد .. لا يختلف في نتائجه لكون المستبد يدّعى أنه مفوَّض من السماء .. وإذا لم تنجح الحركات الإسلاميَّة في حسم هذه المسألة فإنها ستوجّه ضربة قاصمة لآمال الإحياء الإسلامي، وقد تصبح، بهذا، وبالاً على الإسلام" (الوفاق ، 18/1/2000م).
    (18)

    مع ذلك ما تزال تجري، بصورة حثيثة، محاولة دائبة لـ (أسلمة) الموقف الرافض لـ (التعدديَّة)، وتأسيسه، بين مختلف التيَّارات (التكفيريَّة) داخل حركة الإسلام السياسي المعاصر، على (ثوابت دينيَّة). لكن جميع هذه المحاولات محكوم عليها بالفشل، حتى من زاوية النظر العقديَّة، فما هي، في نهاية المطاف، سوى ضرب آخر من ضروب التعسُّف المعاظل للنصوص بلا هوادة، حتى إذا يئس من العثور على سند في القرآن أو السنة، سعى، كما العادة، لإحلال (تأويله الخاص) محلَّ (النصّ القاطع)، وإقامة (متخيَّل تديُّنه) مقام (صريح الدين)، فلا يعود ثمَّة تثريب على بدويّ سودانيّ ساذج لا يجد في نفسه حرجاً، وهو ينازع فى ملكية عتود، أن يستهين بأداء القسم على (مصحف المحكمة) حديث الطباعة، زاهي التغليف، ويسميه (الإريقط) فى بعض دارج (التديُّن) الرَّعوي، بينما يرتجف فرَقاً حين يُطلب منه أداء نفس القسم على (مصحف التاريخ) العتيق المخطوط بيراع ولىٍّ من عصور سحيقة.
    هذا الواقع المُزري هو، بالتحديد، ومحمولاته، ما يحول بيننا وبين أن نضرب بأيّ سهم في (الحداثة) التي ما فتئت أمم غيرنا تتصعَّد في مراقيها بدأب. ومن نافلة القول أننا لن ندرك، يقيناً، ممَّا فاتنا شيئاً ذا بال ما لم نستوعب بعمق أن تدبير سياسة الدنيا أمر متروك لنا، حالة كونه يندرج ضمن حدود ".. منطقة (العفو) التي سكت عنها الشارع رحمة بالناس، وتركها مفتوحة لاجتهاد البشر، وتقديرهم للمصلحة في كل زمان ومكان. و(أن) هذا دأب الشارع الإسلامي فيما يخصُّ السّياسة الشَّرعيَّة، حيث لم ترد نصوص قطعيَّة في شأنها" (د. يوسف القرضاوي؛ ندوة مركز الدراسات الحضاريَّة .. مصدر سابق). وبما أن ذلك كذلك، فلا مناص من استصحاب سُنَّة الاختلاف، وقانون التنوُّع، حتى تصبح التعدديَّة ".. أسلوباً في إدارة الخلاف .. على الاعتراف المتبادل .. وليس على الإنكار، لأن إنكار جماعة قائمة في الواقع، وعدم الاعتراف بها في خريطة التعددية، لا بُدَّ وأن يؤدّى إلى العنف في نهاية المطاف" (طارق البشرى؛ المصدر نفسه). ويشدّد د. العوا على ضرورة استصحاب أن هذه الضوابط تشكل، في الواقع، أساس أيّ فهم أو موقف إسلامي صحيح تجاه التعدديَّة، فيقول: ".. ينبغي أن يكون واضحاً أن الاختلاف بين الناس أمر قدره الله سبحانه وتعالى حتى صار سُنَّة من سُنن الكون، ومن ثمَّ فإن الاعتراف بالاختلاف والمغايرة له أصله الشرعي الثابت. وإذا تحدثنا عن تصور إسلامي للنظام السّياسي فإن التعدديَّة واجبة في ظله .. ولا نستطيع أن نمنع تيَّاراً سياسيَّاً قائماً في زماننا، علمانيَّاً كان أم ماركسيَّاً، لمجرَّد أنه (يتعارض) مع ما (يتصوَّره) البعض للإطار الإسلامي .. وليكن صندوق الانتخاب هو الحكم بيننا، فإذا فازوا بالأغلبيَّة من دون الإسلاميين .. فمعناه أن الإسلاميين فشلوا فى إقناع الناس بمشروعهم، وعليهم أن يتحمَّلوا مسئولية تقصيرهم وفشلهم" (محمد سليم العوا ؛ المصدر نفسه).
    ومن باب المفارقة، استطراداً، فقد تزامن مع هذا النظر المستقيم، المعبَّر عنه في 2/2/1998م، من جانب بعض (مفكري) قسم من حركة الإسلام السّياسي خارج السُّلطة، نقض جهير له، في نفس التاريخ تقريباً، من جانب أحد (تنفيذيّي) قسم آخر من نفس الحركة وهي في السلطة، حين أطلق العميد طبيب/ الطيب إبراهيم محمد خير، أحد قادة (المشروع الحضاري) في السودان، قوله: "عندما أسمع كلمة تعدديَّة أو حزبيَّة فإنني أتقزز، وأشعر بقشعريرة، وأتحسَّس جنبتي بحثاً عن حجر أرميها به"! (أخبار اليوم، 5/4/1998م). وها نحن بإزاء نموذج حيٍّ لاشتغال (العقل الباطن)، حيث كشف العميد/الوزير الذي كان يتقلد، حينها، وزارة (الثقافة) عن استبطانه الإعجاب، ولا بُدَّ، بقول غوبلز، وزير هتلر وساعده الأيمن: "كلما سمعت كلمة (ثقافة) تحسست مسدسي"!
    مهما يكن من شئ، فعندما يجري إخضاع موقف الإسلام المبدئي من (التعدديَّة) لمحض (الكسب) السياسي، تأثراً بمدى القرب أو البُعد من السُّلطة، نكون، بالفعل، إزاء "مشكلة حقيقية .. وهى أننا نواجه بآراء غريبة وشاذة في الساحة الإسلاميَّة ترفض الاختلاف بين الناس .. وهذا توجُّه ضد فطرة الإنسان، وضد منطق الإسلام ذاته الذي سجل القرآن الكريم في صدده أن الله سبحانه وتعالى أراد الناس مختلفين لحكمة قدرها .. كانت المذاهب أحزاباً فى الفقه، وليس هناك ما يمنع أن تصبح الأحزاب مذاهب في السياسة" (د. يوسف القرضاوي؛ ندوة مركز الدراسات الحضاريَّة ..، مصدر سابق).
    (19)

    من جانبه يتناول فهمي هويدي الإشكاليَّة من أكثر من زاوية، منبّهاً إلى أن ".. الآخر له شرعيَّته التي اكتسبها من إقرار القرآن بمبدأ اختلاف الناس، وحذف الآخر هو بمثابة إهدار لسنة كونية أرادها الله سبحانه وتعالى. وفى الناحية الرّساليَّة فإن المشروع الإسلامي كان قائماً على استيعاب الآخر على الدوام" (المصدر نفسه). وحتى إذا تناولنا الأمر من زاوية السياسة العملية (البراغماتيَّة) المحضة، وانطلقنا من موقف الإسلاميين أنفسهم، ووجهة نظرهم القائمة على فرضيَّة مفادها أن لهم (مشروعاً) يرومون (إبلاغه)، فإن ثمَّة إشكاليَّة تثور هنا فوراً من جهة المنطق الذى يحكم فعل (البلاغ) ذاته، وقد عبَّر عنها هويدى متسائلاً: "إذا تمَّ حذف (الآخر)، فمع (مَن) سيجرى (الحوار)، وإلى (مَن) سيتوجه الإسلاميُّون بـ (التبليغ)؟! ثم إن تلك (الشرائح المخالفة) تمثل (حقيقة قائمة) في الواقع السياسي، فكيف يتصور .. أنه يمكن تجاهلها أو حذفها؟!" (أقواس التشديد من عندنا ـ المصدر نفسه).
    وهكذا فإن الموقف الناكر للتعدديَّة خاطىء، وفق السيد هويدي، من وجوه ثلاثة: شرعيَّة ورساليَّة وسياسيَّة.
    (20)

    من جهة أخرى يصعب الاتفاق، أيضاً، مع النظريَّة التي ظلَّ د. حسن الترابي يروِّج لها، بقوله، في سياق لا يخلو، هو الآخر، من التناقض: ".. فالحاكم إذا رأى أنه هو الأعلى لا سلطان عليه من الله، ولا قيد عليه في الدين، يصبح طاغية، ويوقع الناس في عبوديَّة السّياسة، فيفتقدون (وحدتهم)، لأن الشَّريعة الدينيَّة (الواحدة) كانت هي ضمان (الوحدة) بين كلّ (واحد) من الرعيَّة وبين كلّ (واحد) من ولاة الأمر، ومذ ضيَّعوها أصبحوا عرضة للأهواء يتفرقون على طرق الشهوات .. الخ" (أقواس التشديد من عندنا، خواطر في الفقه السّياسي .. ، ص 8). ويقول: ".. (الوحدة) .. تنبثق بالطبع عن معاني (التوحيد) إذ ما دام الربُّ (واحداً)، وما دام الشَّرع المستقيم إلى الله سبحانه وتعالى (واحداً)، فالناس على طريق (الوحدة) سائرون" (الأقواس من عندنا، نفسه، ص 13). وبعد أن يعرج إلى مقولاته الأساسيَّة القديمة المتجدّدة حول (الموالاة) و(التوحُّد) و(التناصر) في الشّريعة، والتي استنبط منها نظريَّته المثيرة للجَّدل عن (التوالي السّياسي)، يخلص د. الترابي إلى أن الإنسان "إذا اختار .. طوعاً أن يعبد الله سبحانه وتعالى يرفع على ذات الطريق إخوانه و(يتحدون) معه .. بل (يتعاونون) معه حتى يحقق أقداراً من العبادة" (القوسان من عندنا، نفسه).
    يثير د. الترابي هنا حزمة إشكالات، أبرزها اثنان:
    أولهما: المفارقة التي تطل برأسها ما بين صحَّة الحكم النظري بأن الحاكم الذي يتحلل من الواعز (الدّيني)، وقد تقرأ: (الأخلاقي)، يتحوَّل إلى (طاغية)، وما بين التطبيق العملي، حين يفسّر هذا الحاكم (طغيانه) نفسه بأنه (عبادة!) خالصة يتقرب بها إلى الله سبحانه وتعالى! وليس مثل هذا بمستبعد، فلقد حدث أن أمر الخليفة الأموي هشام بن عبد الملك واليه خالد بن عبد الله القسري بذبح المعارض السياسي الجَّعد بن درهم سنة 118 هـ، فنفذ الوالي أمر الخليفة، عقب صلاة عيد الأضحى، حيث قال في نهاية الخطبة: "أيَّها الناس، انصرفوا، تقبل الله منكم، فإني أريد أن أضحى اليوم بالجَّعد بن درهم"! ثمَّ نزل، بالفعل، فذبح (أضحيته) الذي كان مربوطاً إلى جوار المنبر، معتبراً إيَّاه قرباناً يتقرب به إلى الله! (اللباب في تهذيب الأنساب لابن الأثير، طبعة بيروت، ج1، ص 283 ـ ضمن: الاسلام والسلطة الدينيَّة، ص 23). وخطب أبو جعفر المنصور، عندما تولى الخلافة، قائلاً: "أيَّها الناس .. إنما أنا سلطان الله في أرضه، وحارسه على ماله .. جعلني عليه قفلاً، إن شاء أن يفتحني لإعطائكم، وإن شاء أن يقفلني" (العقد الفريد لابن عبد ربه، ج 2، ص 72 ـ المصدر). وقبل ذلك كان من (رأى) معاوية بن أبى سفيان أن مال الدولة هو (مال الله)، وأسَّس على ذلك إعلانه الشهير: "الأرض لله .. وأنا خليفة الله، فما أخذت فلي، وما تركته للناس فبالفضل مني"! فتصدى له أبو ذر الغفاري بـ (رأى) معارض (يرى) أن ذلك المال هو (مال الناس) الذين تنبغي مشاورتهم عند التصرف فيه (د. محمد عمارة؛ مسلمون ثوار، ط 2، بيروت 1974م، ص 44 ـ 45).
    أما الإشكال الآخر: فينبع من نظريَّة د. الترابي التي تنسحب مقولة (الوحدانيَّة)، بمقتضاها، من حقل (الإيمان) إلى حقل (السّياسة)! ذلك أن (الوحدانيَّة) صفة لله سبحانه وتعالى، وحقيقة عرفانيَّة قائمة في ذات الوجود الإلهي المطلق. و(التوحيد) هو فعل التسليم من العباد بهذه الحقيقة، فمدار الاختلاف حولها محكوم، إذن، بمعايير (الإيمان والكفر). أما (السّياسة) فبعض تدبير العقل البشري للمكان والمعاش والتساكن وسائر (أمور) الدنيا، حيث تتنوَّع الأفهام، وتتباين الرؤى، وتتناظر المدارك، ومدار الاختلاف فيها محكوم بمعايير (الصواب والخطأ)، فليس في ذلك شئ يستوجب (التكفير)، وفق قول أبى حامد الغزالي الذي سلفت الإشارة إليه. ومن ثمَّ جاءت صعوبة الاتفاق على صحَّة سحب مقولة (الوحدانيَّة) من (الإيمان) إلى (السّياسة).
    (21)

    خلاصة الأمر أن الموقف السالب من (التعدديَّة) ينطوي، أيضاً، على خلط مريع بين مفهومي (شئون الدّين) و(أمور الدُّنيا)، ويعكس من (متخيَّل التديُّن)، بالتالي، أكثر مما يعكس من (صريح الدّين). ولو أن الصحابة (رض) كانوا علموا أن في الاختلاف السياسي (كفراً)، أو أن (التوحيد) في (الدّين) يستتبع وجوب (التوحُّد) في (السّياسة)، لما اختلفوا، بالقطع، كل ذلك الاختلاف، حول اختيار الخليفة الأول يوم السقيفة، ولما انقسموا، كلَّ ذلك الانقسام، من خلال وقائع تلك (المعركة الانتخابيَّة)، بالمصطلح الحديث، والتي قاد أحد طرفيها عمر بن الخطاب لصالح أبي بكر الصّدّيق، وقاد طرفها الآخر سعد بن عبادة عن نفسه، وأسفرت، كما هو معلوم، عن بيعة أبى بكر وتوليته. بل لو كان الأمر أمر (دين)، أصلاً، لكان النبي (ص) قد بيَّنه لصحابته وأمته قبل وفاته، وهو الذي تلا في حجة الوداع: "اليوم أكملت لكم دينكم". لقد توفى النبي (ص) تاركاً (أمـر) الدنيا لمدارك الناس. واختلف على وعائشة وهما يعلمان أنهما إنما يختلفان فى أمور الدنيا، حتى أن عائشة وصفت خلافهما بأنه "ما يكون بين المرأة وأحمائها". واختلف الناس، وفيهم صحابة مبشَّرون بالجنة، مع ذي النورين، المبشَّر، هو نفسه، بالجنة، إلى حد القتل. وتلك بعض أمثلة، فحسب، لأسياف المسلمين وقد سُلت حول (الدولة)، لا (الدين).
                  

11-05-2009, 11:44 AM

الهادي هباني
<aالهادي هباني
تاريخ التسجيل: 06-17-2008
مجموع المشاركات: 2807

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: عَتُودُ الدَّوْلَة ،،، ثَوابِتُ الدِّينِ أَم مُتَحَرِّكاتُ التَّدَيُّن؟! بقلم كمال الجزولي (Re: الهادي هباني)

    الحلقة الرابعة

    (ما أمرَ نبيَّه بمشاورتهم في الأمور العسكريَّة لحاجة منهُ إلى رأيهم، وإنمَّا أراد أن يعلّمهُم ما في المشاورة من الفَضْل)
    الحسن البصري
    (22)

    مشروعيَّة (التعدُّد) بإزاء (أمور) الدنيا تنقلنا، مباشرة، للتعرُّف على جوهر معادلة (السُّلطة ـ الحريَّة) في الإسلام. سوى أن هذه، بدورها، تستلزم، ابتداءً، استجلاء مفهوم أساسي على هذا الصعيد، هو مفهوم (الاستخلاف) في القرآن. فالمعلوم من الدّين بالضرورة، بالنسبة لكلّ مسلم، أن ثمَّة حكمة وراء خلق السماوات والأرض، وسَنّ السُّنن الكونيَّة التي تجرى عليها الحياة، وخلق الإنسان، وتحديد مركزه المُمَيَّز كأفضل الكائنات طراً: "ربنا ما خلقت هذا باطلا" (191؛ آل عمران).
    وإذا كان (الإدراك) لربوبيَّة الخالق المطلقة، و(التسليم) له (وحده)، من ثمَّ، بالعُبوديَّة الخالصة، هو جوهر العبادة، فإن شيئاً من هذا لا يُتصور تحققه بغير (إدراك) تلك الحكمة التي جعلها الله في متناول أفهام البشر، بما أودع فيهم من قبس إلهي: "ثم سواه ونفخ فيه من روحه" (9 ؛ السَّجدة)، وما خصَّهم به من خصيصة قرينة لخلقهم قبل التنزيل نفسه: "فطرة الله التي فطر الناس عليها" (30 ؛ الروم)، وما منحهم من أداة تمكنهم من بلوغ هذا (الإدراك)، وهى (العقل): "لو كنا نسمع أو نعقل ما كنا في أصحاب السعير" (10 ؛ الملك). وقد رُوى عن النبي (ص) أنه قال: "أوَّل ما خلق الله العقل، فقال له أقبل فأقبل، ثمَّ قال له أدبر فأدبر، ثم قال الله عزَّ وجلَّ: وعزَّتي وجلالي ما خلقت خلقاً أكرم علىَّ منك، بك آخذ، وبك أعطي، وبك أثيب، وبك أعاقب" (أخرجه الطبراني في الأوسط). وعن عمر (رض) أن رسول الله (ص) قال: "ما اكتسب رجلٌ مثل فضل عقل يَهدى صاحبه إلى هدى ويرده عن ردى، وما تمَّ إيمان عبد، ولا استقام دينه، حتى يكمل عقله" (أخرجه داود بن المحبر). ولقد حضَّ الله سبحانه وتعالى بنى آدم حضَّاً على استخدام هذه (الأداة) ذات الأهمية الاستثنائية التي خصَّهم بها من دون خلقه أجمعين: "والله أخرجكم من بطون أمهاتكم لا تعلمون شيئا وجعل لكم السَّمع والأبصار والأفئدة لعلكم تشكرون" (78 ؛ النحل). والشُّكر إنما يكون بالإيمان (تفسير الجلالين)، وفى ذلك تكمن علاقة السَّببيَّة بين (العقل) و(الإيمان). وتتواتر الآيات التي تحمل الدَّلالة على هذا الحضِّ بمختلف الصِّيغ: (لعلكم تتفكرون)، (أفلا تتفكرون)، (أفلا تتذكرون)، (لقوم يعقلون)، (أفلا يعقلون)، (يا أولي الألباب). ".. والعقل أشرف صفات الإنسان .. إذ به تقبَّل أمانة الله" (أبو حامد الغزالي؛ إحياء علوم الدين، ج 1 ، ص 12 ـ 13). ويحثُّ القرآنُ الإنسانَ ".. على استخدام العقل في 50 آية، وعلى التفكير في 18 آية" (الصادق المهدي؛ أحاديث الغربة، ص 33). وقد وردت عبارة (أولي الألباب) في القرآن الكريم ".. خمسة عشر مرَّة. وأولو الألباب هم أصحاب العقول، كأن العقل هو لبُّ المرء وما عداه قشر" (محمد الغزالي؛ دستور الوحدة الثقافيَّة ..، ص 178).
    وإذن، فإن الله عزَّ وجلَّ غنىٌّ عن إيمان بلا تدبُّر، ومتكبِّرٌ على تسليم بلا تفكُّر، ومُستعلٍ على عبادة بعقول غائبة، وأفئدة مستلبة، ممَّا يجترح بعض متشنّجة الاستبداد، وملهوجي التيار الإسلاموي السُّلطوي الذين يوهمون الناس، صباح مساء، بأن الإستكانة لإرادتهم هُمْ البشريَّة إنما هي من باب الخضوع لمشيئة السَّماء، وهو النهج الذي تنبَّه عقلاء حركة الإسلام السّياسي لما يمكن أن يسبّبه لحركتهم من خسران فادح، ممَّا دفع د. عبد الوهاب الأفندي لإطلاق صيحته التحذيريَّة التي سلفت الإشارة إليها من أن الحركة، بمثل هذا النهج، ".. ستوجّه ضربة قاصمة لآمال الإحياء الإسلامي، وقد تصبح .. وبالاً على الإسلام" (الوفاق ، 18/1/2000م).
    (23)

    باستخدام (عقولهم)، إذن، يستطيع المسلمون إدراك أن غاية الخالق الحكيمة من خلق الإنسان هي (استخلافه) في الأرض لعبادته بإعمارها: "وإذ قال ربُّك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة" (30 ؛ البقرة)، وأن الخالق قد كرَّم (الإنسان)، لأجل ذلك، من حيث هو كذلك: "ولقد كرَّمنا بني آدم" (70 ؛ الاسراء)، وفضَّله على سائر مخلوقاته الأخرى: "وفضَّلناهم على كثير ممَّن خلقنا تفضيلا" (الآية)، بل ورفعه درجة حتى على الملائكة أنفسهم: "وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم" (116 ؛ طه).
    وعلاوة على نعمة (العقل)، بل بناء عليها، وُهب الإنسان نعمة (الحُريَّة)، فلم يُقسر حتى على الإيمان بالله: "ولو شاء ربُّك لآمن مَن في الأرض كلهم جميعاً أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين" (99 ؛ يونس) ـ "ولو شاء الله ما أشركوا وما جعلناك عليهم حفيظا وما أنت عليهم بوكيل" (107 ؛ الأنعام) ـ "قد جاءكم الحقُّ من ربّكم فمن اهتدى فإنما يهتدي لنفسه ومن ضلَّ فإنما يضلُّ عليها وما أنا عليكم بوكيل" (108 ؛ يونس) ـ "بقية الله خير لكم وما أنا عليكم بحفيظ" (86 ؛ هود) ـ "لعلك باخع نفسك ألا يكونوا مؤمنين" (3 ؛ الشعراء) ـ "وقل الحق من ربّك فمَن شاء فليؤمن ومَن شاء فليكفر" (29 ؛ الكهف) ـ "لا إكراه في الدّين" (256 ؛ البقرة) ـ "لست عليهم بمصيطر" (22؛ الغاشية).
    وبقدر كسب الإنسان، بحريَّته غير المنتقصة هذه، وإرادته الطليقة في (الاختيار)، يكون حسابه: "وأن ليس للإنسان إلا ما سعى. وأن سعيه سوف يُرى. ثمَّ يُجزاه الجَّزاء الأوفى" (39 ، 40 ، 41 ؛ النجم)، فمدار هذا العدل الإلهي هو كسب الإنسان بمحض إرادته الحُرَّة وعقله المختار.
    هكذا أوكل الخالق لهذا ".. الكائن المكرم بالعقل والإرادة والحريَّة والمسئوليَّة .. مهمَّة عمارة هذا الكون، واكتشاف طاقاته، وتسخيرها لتحقيق الخير والحق والمساواة والعدل والحريَّة والمعرفة والثروة للجميع، وفق الضوابط والمناهج والقيم والعقائد التي جاء بها الرُّسُل عوناً من الله ورحمة لهذا المخلوق حتى يحقق .. بإرادته واختياره سُنن الله في حياته كما تحققت تلك السُّنن لدى الكائنات جبلة وغريزة .. وإن الإنسان .. قد اكتسب بمقتضى ذلك التكريم حقوقاً لا سلطان لأحد عليها، ويحمل تكاليف لا انفكاك له منها" (راشد الغنوشي؛ محاور إسلاميَّة، القاهرة 1989م، ص 68).
    (24)

    خطاب (الاستخلاف) القرآني موجَّه، إذن، كما قد رأينا، إلى (الناس أجمعين)، لا إلى (الحُكام) أو (أولي الأمر) الذين ما زالوا يحرفون الكلم عن موضعه، عبر التاريخ، ويحيطون أنفسهم وأفعالهم بقدر من (العصمة) ليست لها، ومن (القداسة) دونما استحقاق، حتى ليكاد هذا الخطاب يبدو كما لو كان متوجّهاً لهم وحدهم، سواء في ذلك الحاكم الفرد المطلق، أم النخبة الحاكمة، أم الطبقة الاجتماعيَّة السَّائدة اقتصادياً وسياسيَّاً، فلكأنهم ظلال الله في أرضه، والمخاطبون وحدهم بعمارتها، كي يتيسَّر لهم، من ثمَّ، أن يستبدُّوا بالأمر، كيفما شاءوا، من دون الناس أجمعين، فيستعملونهم فيه استعمالاً، ويحملونهم عليه حملاً.
    ولئن كانت فكرة (الدولة الدينيَّة) قائمة، بالأساس، على شعار (الحاكميَّة لله) أو (الحكم بالحقّ الإلهي)، فإن هذا الشّعار، في حقيقته، هو صنو الادّعاء العريض إما بأن (إنساناً ما) يحتكر وحده (الوكالة) عن (الله) عزَّ وجلَّ في (معرفة) حُكمه، ومن ثمَّ (تنزيله) على سائر الناس في المجتمع المعين، أو بأن هذا (الإنسان) هو نفسه (الإله) المعبود! ففي الحالين لا بُدَّ، لتطبيق الشّعار، من (بشر) ليحكم، ولا فرق، بعد ذلك، بين أن يدَّعى هذا (البشر) أنه (وكيل) الله و(ظله) في الأرض، أو أن يزعم، صراحة أو ضمناً، أنه هو (الله) نفسه!
    (25)

    وتعلمنا عِبَرُ البشريَّة الثرَّة، وخبراتها المتراكمة، كيف أن لكلّ استبداد في التاريخ أسلوبه الخاص في الاتشاح بأوشحة (الدّين). فإذا كان الخوارج، في تاريخ الفكر السّياسي الإسلامي، هم، كما قد رأينا، أوَّل من رفع شعار (الحاكميَّة)، نظريَّاً، فقد استخدمه، عملياً، كثير من خلفاء وولاة وعمَّال الدَّولة الإسلاميَّة، خصوصاً بعد انقلاب الخلافة الراشدة إلى ملك عضود، كسلطة معنويَّة تعزّز أدوات قهرهم لشعوبهم، وصراعاتهم التي لا تهدأ على العروش، حتى "أدَّى الصراع على السُّلطة إلى ترك الشورى .. وتربَّع على مقاعد الحكم خلفاء لا تسندهم سوى شرعيَّة السيف، و(صار) من مقتضيات حكم القوَّة أن تتسع الهوَّة بين الحاكم والمحكوم، وأن يخضع الحكام شعوبهم، وأن يلتمسوا الحماية من بأس الشعوب باتخاذ حُرَّاس مأجورين، مُجنَّدين من عناصر .. لا تتردَّد، إن أمرت، بالبطش بشعب ثائر، و .. صارت ولاية الأمر في جانب القوَّة وحدها، وانتشر الاستبداد .. مُلجماً الفكر واللسان" (الصادق المهدي، أحاديث الغربة، ص 30 ـ 31).
    غير أن هذا الشَّعار نفسه، في مستوى الادّعاء العريض بالحكم بـ (الحقّ الإلهي)، ليس وقفاً، فحسب، على وقائع تاريخ الدولة الإسلاميَّة، وإنما عرفته البشريَّة، قبل ذلك وبعده، بمختلف أجناسها وأديانها ولغاتها وثقافاتها، مع الفارق بين شتى أشكال الطرح الفكري، والممارسة العمليَّة. ويخبرنا القرآن الكريم، في ذلك، خبر فرعون، ضمن جملة آيات كريمات، منها: "وقال فرعون يا أيُّها الملأ ما علمت لكم من إله غيري" (38 ؛ القصص) ـ "قال فرعون ما أريكم إلا ما أرى وما أهديكم إلا سبيل الرشاد" (29 ؛ غافر) ـ "فقال أنا ربكم الأعلى" (24 ؛ النازعات). وتكفى التفاتة عجلى إلى التاريخ العالمي لإدراك مدى رواج هذه المزاعم الباطلة، أيضاً، لدى أكاسرة الفرس، وقياصرة الروم، وشتى ملوك وأباطرة وخواقين العالم القديم.
    ويستنتج بعض المفكرين عِلة ذلك من نظرة هؤلاء المستبدين إلى قدرة التعاليم الدينيَّة على التأثير العميق في البشر حين تدعوهم "إلى خشية قوَّة عظيمة هائلة لا تدرك كنهها العقول، تتهدَّد الإنسان .. تهديدا ترتعد منه الفرائص، فتخور القوى، وتنذهل العقول"، فيجد المستبدون في هذه الخاصيَّة الدّينيَّة إغواءً مخصوصاً بتدعيم سلطانهم عن طريق مماهاته بتلك القدرة الاستثنائيَّة الخارقة، فيتيسَّر لهم استرهاب الناس "بالتعالي الشَّخصي، والتشامخ الحسّي، ويذللونهم بالقهر، والقوَّة، وسلب الأموال، حتى يجعلوهم خاضعين لهم، عاملين لأجلهم"، وذلك بتأثير الأبنية النفسيَّة التي يقيمونها فى وعي ولا وعي العامَّة، فلا يعود بمستطاع هؤلاء الأخيرين التمييز بين (معبودهم) و(جبَّاريهم)، أو "بين الفعَّال المطلق والحاكم بأمره .. وبين المنعم وولى النّعم، وبين (جلَّ شأنه) و(جليل الشَّأن)؛ وبناءً عليه يعظمون الجبابرة تعظيمهم لله" (عبد الرحمن الكواكبي؛ طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد، ص 36 ـ 37).
    والآن، إذا ما حاولنا اختبار نظريَّة الكواكبي هذه، على ضوء بعض تجليَّات الاستبداد، ممارسة وتقبُّلاً، في الراهن الحضاري الإسلامي، لدى التعاطي فكريَّاً وسياسيَّاً، مع (الديموقراطيَّة)، مثلاً، ومقولتها الرَّئيسة (سيادة الشعب)، فإننا سوف نحصل على النتيجة التالية: المعنى المباشر، الواضح، السائغ عقلاً، المتوائم مع الفطرة، والذي يُستفاد من هذه العبارة هو ببساطة: (علو إرادة الشعب، سياسيَّاً، على إرادة الحاكم). غير أن أبنية التفكير الاستبدادي، سواءً المتشامخة بالاسترهاب أم المذللة بالقهر، والمتشاكلة، فى كلا الحالين، مع الأنساق العقليَّة والنفسيَّة التي تجري تغذيتها، بشكل مستمر، إعلاميَّاً وتعليميَّاً، على الخلط والتخليط بين (الحاكم) و(المعبود)، هي وحدها التي سوف تجفل فرقا عند سماع العبارة، وسوسة من عند نفسها، بأن المعنى المقصود هو: (علوُّ مرتبة الشعب على مرتبة المعبود)!
    بالنتيجة، فإن الاستبداد، سواءً بالسلوك العملي، وممارسته الفعليَّة على المحكومين، أم بالتربية القهريَّة لهؤلاء الآخرين، وتمرينهم الجبري المستدام على تقبله واعتياده، كنسق مغلق من الأفكار والرؤى، ونظام جامد من الأخيلة والتصوُّرات، كثيراً ما يرتب، في المحصلة النهائيَّة، لأنماط متفاوتة من تصلب الذهن، وحزازة الاعتقاد، بل ليس نادراً ما ينعكس في حالات من الفقدان التام للقدرة على الإدراك السليم حتى للفارق بين (المستبدّ) وبين (المعبود)، وفق نظريَّة الكواكبي، لا بالنسبة (للمستبدّ به) فحسب، بل وبالنسبة (للمستبدّ) أيضا، فالاستبداد، في حقيقته، نسق لا إنساني من أفعال وقابليَّات يجرى اصطناعها قسراً بالمصادمة (للفطرة) السليمة، فتفضي، في نهاية المطاف، إلى تشويه إنسانيَّة المستبدّ وضحيته معاً!
    (26)
    إن أدنى مقاربة للمنهج القرآني صوب مسألة (الدَّولة) في الإسلام، على ضوء بعض مقولاته الأساسية المتلازمة، مثال (الاستخلاف والتكريم)، و(الإيمان والعقل)، و(التكليف والاختيار)، و(المشيئة والحساب)، فضلاً عن المكانة المتميِّزة التي يشغلها مفهوم (الشُّورى) ضمن هذه المسألة، سرعان ما تكشف، بجلاء تام، وبكل المعايير، عن غربة مشروع (الدَّولة الدّينيَّة) عن الإسلام، بل ومصادمته المباشرة لقيمه الرَّئيسة، ومبادئه الأساسيَّة، ومقاصده الكليَّة.
    فالقرآن الكريم يدعو، كما قد رأينا، للاعتبار بمآلات الاستبداد، سواء في احتمالاته (الفرعونيَّة) أم في غيرها. والنبيُّ (ص) الذي كانت دولته، حال حياته، استثناءً في التاريخ لا يُقاس عليه، كون الله سبحانه وتعالى قد ميَّزه، كرأس لها، بما لم ولن يتوفر لبشر من بعده: الوحي؛ مأمور، مع ذلك، بـ (الشُّورى)، حتى في ما هو مفوَّض فيه وحده كقائد عسكري، فكان، وهو المعصوم، يسوس الناس في كل (الأمر) بآرائهم واختياراتهم، حتى لو ثبت عدم سدادها كما سنرى، فلا يكفُّ عن تعليمهم أن مرجعيَّة (الدُّنيا) لهم، أما مرجعيَّة (الدّين) فله.
    (27)

    غير أن ثمَّة حُجَّة ما تنفكُّ تثار، دائماً، كلما ورد ذكر (الشُّورى) في الآيتين الكريمتين: "وأمرهم شورى بينهم" (38 ؛ الشُّورى)، "وشاورهم في الأمر فإذا عزمت فتوكل" (159 ؛ آل عمران)، حيث يستخرج البعض معنى واحداً من هاتين الآيتين فحواه أن (الشُّورى) (مُعْلِمَة) للحاكم، فحسب، لا (مُلزمَة)!
    وقد يبدو الأمر سائغاً، للوهلة الأولى، ".. لو أننا قرَنَّا الاثنتين معاً، وجعلنا لهما نفس المدلول، وتوارت آية سورة (الشُّورى) خلف آية سورة (آل عمران)، فنجد الأمر وقد نظمته آية (آل عمران) بمفردها .. وهذا يعنى أن رأى الجَّماعة استشاري بحت" (د. مصطفى أبو زيد فهمي؛ فن الحكم في الإسلام، المكتب المصري الحديث، القاهرة 1981م، ص 199). ولكن د. فهمي سرعان ما يستدرك على هذا الفهم بأن هذه النتيجة خاطئة تماماً، بل وظالمة للإسلام، بسبب الخطأ المنهجي الذي درج أغلب الباحثين على الوقوع فيه، أساساً، ًبدمجهم للآيتين في مدلول واحد، دون أن يفطنوا إلى أن لكلّ منهما مجالها الخاص الذي تعمل فيه.
    وعليه، فلا مناص، إنْ أردنا الوقوف على المكانة الحقيقيَّة التي يشغلها مبدأ (الشُّورى) في الإسلام، من معرفة مجال عمل كلّ من هاتين الآيتين على حدة.
    (28)

    فأما بالنسبة لآية سورة (الشُّورى):
    أ/ فمجالها هو بيان (الأصل العام) الذي تنبنى عليه إدارة أمور المسلمين، فتدلنا على أنه (الشُّورى) كأساس للحكم في الإسلام.
    ب/ وقد جاء نصُّ هذه الآية الكريمة غير مقيَّد في أيّ من جوانبه، بما يحيل الأمور كلها إلى (الإرادة العامَّة) لـ (الأمَّة)، فلا يحتكر أو يستبدُّ بالسُّلطة السّياسيَّة في الدَّولة فرد أو نخبة من دون سائر المحكومين.
    ج/ وقد قرَنَ الله، عزَّ وجلَّ، في هذه الآية، بين (الشُّورى) وبين (الصلاة) و(الإنفاق): "والذين استجابوا لربّهم وأقاموا الصلاة وأمرهم شورى بينهم ومما رزقناهم ينفقون"؛ فحدَّد، بذلك، مكانة الشُّورى، وقيمتها، وأهمّيَّتها في السّياق العقدي.
    د/ وترسي الآية (المبدأ العامَّ) دون تفصيل، على غرار كلّ الآيات التي تشير إلى مبادئ أو قيم أو موجّهات عامَّة تحفُّ بأصول الحكم. كذلك فإن النبي (ص) لم يخض في أيَّ أمر يتجاوز (عموم) المبدأ إلى (التفاصيل) المحتملة لتطبيقاته. ومن ثمَّ فقد ترك الباب مفتوحاً، ضمنيَّاً، لكلّ ما يقتضيه اختلاف البيئات، وتباين الأزمنة، وتغيُّر الأحوال، ممَّا يؤسّس لمشروعيَّة الاختلاف في التطبيق بحسب المكان والزمان، دونما تفريط، بطبيعة الحال، في المبدأ نفسه.
    هـ/ ويثور هنا سؤال مهم: كيف يمكن، إذن، وضع نظام الشُّورى في التطبيق، طالما أنه لا بُدَّ من مراعاة الاختلافات والتباينات والتغيُّرات؟! والإجابة: أن ذلك لا يكون إلا بالشورى نفسها التي تصبُّ، بلغة العصر الحديث، في (الدستور) الذي يحدّد طريقة تنظيم السلطة التشريعيَّة (المصدر، ص 200 - 205).
    و/ وهذه الشُّورى (مُلزمة) للحاكم، من كلّ بُد، فلكي يكون أمر الناس شورى بينهم، لا بُدَّ من أن يصدر قرار الحاكم نفسه بناءً على هذه الشورى (المصدر ، ص 221).
    وأما بالنسبة لآية سورة (آل عمران):
    فباستخدام منهج التفسير بمناسبة التنزيل، يتوصَّل الباحث إلى أن مجالها أضيق من مجال آية (الشُّورى)، وذلك للآتى:
    أ/ هذه الآية نزلت، زمانيَّاً، بعد هزيمة جيش المسلمين فى (أحُد). وكان النبي (ص) يرى قبلها أن يتحصَّن المسلمون بالمدينة، ويتركوا قريشاً خارجها، فإذا حاولت اقتحامها اشترك أهلها جميعاً، حتى النساء والصبيان، فى الدّفاع عنها، وبالتالي تصبح هزيمة قريش محققة. وشاور (ص) أصحابه في خطته العسكريَّة هذه، رغم أن القائد العسكري غير ملزم، في العادة، بطرح خططه على جنوده للمشاورة، ولكنه الحدب على تأكيد المبدأ، فغلب الرأي القائل بالخروج لملاقاة العدوّ خارج المدينة. وأبى النبي (ص) إلا أن ينزل عند رأي الأغلبيَّة، وهكذا كان قراره. فأمر خمسين من الرُّماة بأن يلزموا الجَّبل لا يبرحوه، ليحموا ظهر الجيش. على أن هؤلاء خالفوا الأمر لدى أوَّل بارقة للنصر، فتركوا مواقعهم ونزلوا يشاركون في جمع الغنائم. وهكذا تهيَّأ لجيش المشركين أن يلتفَّ على جيش المسلمين، فوقعت الهزيمة نتيجة هذا الخطأ. ولكن الحقَّ سبحانه وتعالى غفر لمَن ارتكبوا ذلك الخطأ، وأنزل الآية الكريمة: "إن الذين تولوا منكم يوم التقى الجَّمعان إنما استزلهم الشيطان ببعض ما كسبوا ولقد عفا الله عنهم إن الله غفور حليم" (155 ؛ آل عمران). ثمَّ توالت الآيات حتى بلغت الآية الكريمة: "فبما رحمة من الله لِنتَ لهم ولو كنت فظاً غليظ القلب لانفضُّوا من حولك فاعفُ عنهم واستغفر لهم وشاورهم في الأمر فإذا عزمت فتوكل على الله إن الله يحبُّ المتوكلين" (159 ؛ آل عمران)، أي أن الله سبحانه وتعالى عفا عنهم، ثمَّ طلب من نبيّه أن يعفو، هو الآخر، ثمَّ طلب منه أن يستغفر لهم، ثمَّ أن يشاورهم، رغم ارتكابهم للأخطاء في المعركة، تطييباً لخواطرهم، دلالة على تشديده سبحانه وتعالى لنبيّه في أمر (الشُّورى) كمبدأ رئيس من مبادئ الحكم في الإسلام.
    ب/ جاء الأمر، فى هذه الآية، من الله، سبحانه وتعالى، لنبيّه الكريم (ص) بـ (الشُّورى)، كما سبق أن أشرنا، حتى في الأمور العسكريَّة التي لا تعتبر (الشُّورى) ملزمة فيها، بطبيعتها، لقادة الجيوش. وفي ذلك قال الحسن البصري: ما أمر نبيّه بالمشاورة لحاجة منه إلى رأيهم، في مثل هذه الأمور العسكريَّة، وإنما أراد أن يعلمهم ما في المشاورة من الفضل، ولتقتدي به أمَّته من بعده. وذكر الرَّازي في تفسيره فوائد أخرى تحققها مثل هذه المشاورة، منها أن علوم الحياة متعدّدة، وقد يخطر ببال أحد من وجوه المصلحة، في مثل هذه الأمور، ما لا يكون قد خطر ببال الحاكم أو القائد العسكري نفسه.
    وإذن، تبقى القاعدة العامَّة للحكم في الإسلام راسخة في وجوب (شورى) الناس في كلّ ما يتصل بـ (أمر دنياهم)، أما (الدّين) الذي تلقاه الرسول (ص) عن طريق الوحي، وتولى شرحه بالسُّنة المطهَّرة، وعلمه لصحابته وللسَّابقين ليقيموه في خاصَّة أنفسهم، ويعلموه لتابعيهم، فذلك شأن لا شورى فيه بطبيعته، اللهم إلا (الفتيا)، على أن تلك مسألة أخرى.
    وهكذا، فإن الآية (38) من سورة (الشُّورى) تمثل، بعموم لفظها الآمر، توجيهاً من الله سبحانه وتعالى بالتزام مبدأ الشُّورى في (الأمر = السّياسة = إدارة الدولة)، تحت كلّ الظروف، ومهما كانت الأحوال. أما تفصيل ذلك فمتروك لـ (عقول) الناس، يتوصَّلون إليه وفق ما يتدبَّرون من مقتضيات كلّ زمان ومكان (للمزيد من التفصيل راجع الباب الثاني من مؤلف د. مصطفى أبو زيد فهمي المشار إليه).
                  

11-06-2009, 05:23 PM

عاطف مكاوى
<aعاطف مكاوى
تاريخ التسجيل: 03-29-2008
مجموع المشاركات: 18633

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: عَتُودُ الدَّوْلَة ،،، ثَوابِتُ الدِّينِ أَم مُتَحَرِّكاتُ التَّدَيُّن؟! بقلم كمال الجزولي (Re: الهادي هباني)

    كمال الجزولى


    عَتُودُ الدَّوْلَة (5)

    ثَوابِتُ الدِّينِ أَم مُتَحَرِّكاتُ التَّدَيُّن؟!

    بقلم/ كمال الجزولي





    (ولانا الله على الأمَّة لنسدَّ لهم جَوْعَتهُم،

    ونوفرَ لهم حرْفتهُم، فإنْ عَجزْنا عن ذلك اعْتَزَلناهُم)

    عمر بن الخطاب

    (29)

    كانت (دولة) الرَّسول (ص)، كما ذكرنا، استثناءً، في التاريخ، لا يُقاس عليه، لانتفاء شرط تحققها الأساسي: قيامه بنفسه في رأسها، وتسييره لأمورها، وهو العالم المعلم بكونه معصوماً بـ (الوحي) في شئون (الدّين)، مأموراً بـ (الشُّورى) في أمور (الدُّنيا). ومع ذلك وجب على المسلمين السَّعي للتأسّي بعموميّات هدايتها وكليَّات مثالها.

    فما أن استقرَّ به وبالمهاجرين المقام في المدينة، بحسب ابن هشام، من ربيع الأول إلى صفر من السَّنة الدَّاخلة، وفرغ من بناء المسجد والمساكن، واستجمع له إسلام هذا الحيّ من الأنصار، حتى عَمَد إلى التبشير بمبادئ الحياة الجديدة، القائمة، أوَّل شئ، في هداية (المُعاملات) القرآنيَّة، وأهمُّها (الإنفاق)، وتوقى (شُحّ) النفس، و(إيثار) الآخر عليها ولو كان بها خصاصة، وما إلى ذلك من القيم والمعاني التي أسَّس بها (ص) لمضمون العدل الاجتماعي في دولة المدينة. وليس أدلَّ على ذلك من اهتمامه بتحذير الناس في أوَّل خطبة له هناك، قائلاً: ".. أيَّها الناس، فقدّموا لأنفسكم. تعلمُنَّ والله ليُصْعَقنَّ أحدكم، ثم ليُدَعَنَّ غنمة ليس لها راع، ثم ليقولنَّ له ربُّه، وليس له ترجمان ولا حاجب يحجبه دونه: ألم يأتك رسولي فبلغك، وآتيتك مالاً وأفضلت عليك، فما قدّمت لنفسك .. فمَن استطاع أن يقي وجهه من النار ولو بشقّ تمرة فليفعل، ومَن لم يجد فبكلمة طيبة، فإن بها تجزى الحسنة بعشرة أمثالها، إلى سبعمائة ضعف" (تهذيب سيرة ابن هشام لعبد السلام هارون، المجمع العلمي العربي الإسلامي ببيروت، ص 138 ـ 139).

    ثم ما لبث (ص) أن أصدر (الصحيفة) أو (دستور المدينة)، محدِّداً الإطار السّياسي لدولته، بما يصلح أن يجتمع عليه، سياسيَّاً، عقد (التنوُّع) الديني والثقافي والقبلي شديد الخصوصيَّة والتفرُّد في مجتمع (يثرب) الجديد. فميّز، بادئ ذي بدء، بين أمَّتين: (أمَّة الدّين) الأصغر، و(أمَّة السّياسة) الأكبر. ثمَّ جعل (الصحيفة) وثيقة (دستوريَّة) فريدة لتوحيد (أمَّة السّياسة) الأكبر، بما فيها من (مؤمنين) وغيرهم، لا على أسس (الدّين)، وإنما على ما يمكن اعتباره إرهاصاً باكراً بأسس (المواطنة)، حيث جرى، بموجب تلك الوثيقة العبقريَّة، تعريف ".. المؤمنين والمسلمين من قريش ويثرب، ومن تبعهم فلحق بهم، وجاهد معهم، (بأنهم) أمَّة واحدة من دون الناس. المهاجرون من قريش على ربعتهم يتعاقلون بينهم، وهم يفدون عانيهم بالمعروف والقسط بين المؤمنين. وبنو عوف على ربعتهم الأولى، كل طائفة تفدى عانيها بالمعروف والقسط بين المؤمنين. وبنو ساعدة .. وبنو الحارث .. وبنو جشم .. وبنو النجَّار .. الخ". ثم انتقلت الوثيقة إلى تعريف (أمَّة السّياسة) بنصّها على ".. أن يهود بني عوف أمَّة مع المؤمنين، لليهود دينهم، وللمسلمين دينهم، مواليهم وأنفسهم، إلا من ظلم وأثم .. وأن ليهود بني النجَّار مثل ما ليهود بني عوف، وأن ليهود بني الحارث مثل ما ليهود بني عوف، وأن ليهود بني ساعدة مثل ما ليهود بني عوف .. وأن على اليهود نفقتهم، وعلى المسلمين نفقتهم، وأن بينهم النصر على من حارب أهل هذه الصحيفة، وأن بينهم النصح والنصيحة والبرَّ دون الإثم، وأنه لم يأثم امرؤ بحليفه، وأن النصر للمظلوم .. وأن يثرب حرامٌ جوفها لأهل هذه الصحيفة .. وأنه لا تجار قريشٌ ولا من نصرها، وأن بينهم النصر على من دَهَمَ يثرب .." (راجع النص الكامل للصحيفة ضمن "التهذيب" ، ص 140 ـ 143).

    فليس صحيحاً، إذن، الاعتقاد بأن (الصحيفة) كانت (دستوراً دينيَّاً) لـ (المؤمنين) من المهاجرين والأنصار، بل الصحيح أنها كانت (دستوراً سياسيَّاً) لـ (أمَّة سياسيَّة) قصد منه النبى الكريم أن ".. ينظم شئون الحرب والسلم والمال فى حياتها .. وتحدثت موادُّه عن تنظيم العلاقات بين (الأمم)، الجماعات .. التي غدت مكوّنة لـ (أمَّة) واحدة بالمعنى السّياسي .." (د. محمد عمارة ، الاسلام والسلطة الدينية ، ص 109).

    (30)

    هكذا يتأكد، عمليَّاً، وبجلاء تام، أنه ليس ثمَّة أدنى سند، في الإسلام، لدولة دينيَّة (ثيوقراطيَّة) أو حتى (ثيوديموقراطيَّة)، كما يقترح المودودي وسيّد قطب باجتهاد (بشري) لا قدسيَّة له ولا عصمة. والحقيقة "أن الذين رأوا، باجتهاد معاصر، أن يعطوا الإمرة، أو القيادة السّياسيَّة، قدسيَّة تناهز قدسيَّة العقائد والعبادات مهَّدوا للتطرف الإسلامي المعاصر الذي جعل اجتهاد أصحابه السّياسي هو موقف الأمَّة، كلَّ الأمَّة، ونفى رأي الآخرين باعتباره كفراً وخروجاً عن ملة الإسلام. هذا الاعتقاد هو الذي مهَّد للتيارات الاحتجاجيَّة المتطرّفة المعاصرة، عبر تكريسه للاستبداد وفتح باب المظالم السّياسيَّة والاجتماعيَّة" (الصادق المهدي؛ نداءات العصر، دار الشَّمَّاشة، الخرطوم 2001م ، ص 26). الصحيح، إذن، هو أن طبيعة الدولة في الإسلام مدنيَّة، تقوم على قاعدة الآيتين الكريمتين اللتين سلفت الإشارة إليهما، حيث:

    أ/ أمر الله سبحانه وتعالى رسوله الكريم (ص) بأن يشاور الناس في (الأمر)، أي يستخرج آراءهم في شئون حياتهم، ويتشاور معهم فيها، فلا يعجلون (تفسير الجلالين). ولعلنا في غنى عن التأكيد على أنه لو كان الشأن شأن أمر أو نهى (دينىٍّ) صريح لما جازت فيه مشاورة البشر. غير أن الإسلام يقوم، في أصله، على (التمييز) الواضح، كما سبق وأوردنا، بين ما هو (دين) قطعىُّ الورود والدلالة، فمرجعيته الله ورسوله، وبين ما هو (دنيا)، فمرجعيته البشر أنفسهم، بما ينبغي أن يعتمل في عقولهم وأفئدتهم وألبابهم من (تديُّن) قائم على تشرُّب القيم الشاملة والمقاصد الكلية، لا (تديُّناً) ينغلق على جزيئات مفكَّكة يجرى انتقاؤها انتقاءً، وتلفيقها تلفيقاً، بمنهج يحتال على (الدّين) بـ (الدُّنيا)، وعلى (الدُّنيا) بـ (الدّين)، فلا جلالاً لـ (الدّين) يصون، ولا صلاحاً لـ (الدُّنيا) يحقق، مع كون الإسلام يَعنى، بالنسبة للمسلم، صلاح (الدّين) و(الدُّنيا) معاً. لكنه ، وقد فصَّل الأحكام في الحالة الأولى، ترك الثانية لأفهام المسلمين، يُعملون فيها عقولهم البشريَّة، مستهدين بمجملات الهداية إلى سبل الرَّشاد في القرآن والسنة. بغير هذا الفهم نتنكب، يقيناً، طريق (التمييز) الواضح في الحديث الشريف "ما أمرتكم بشئ .. الخ"، رغم أن هذا (التمييز)، بقول بعض مفكري الإسلام السّياسي أنفسهم، قد ".. أصبح واحداً من إنجازات الإسلام الكبرى على درب تطور الإنسان ، كما أصبح واحداً من علامات النضج والرُّشد لهذه الإنسانيَّة" (د. محمد عمارة؛ الإسلام والسلطة الدينيَّة، ص 104).

    ب/ قرَّ ذلك في وعى الصحابة والمسلمين الأوائل، فمارسوه بسعيهم الجاد للتحقق من الرسول (ص) نفسه، كلما أصدر توجيهاً، وأشكل عليهم فهم ما إن كان من قطعيَّات (الدّين) القويم، أم من مدركات البشر (الدُّنيويَّة)، وذلك بتوجُّههم له بالسؤال متعدّد الألفاظ مُتحِد المعنى، مستصحبين قاعدة (التمييز) المذكورة: "يا رسول الله .. أمنزلا أنزلكه الله ليس لنا أن نتقدَّمه أو نتأخر عنه، أم هو الرأي؟!" (إبن عبد البرّ؛ الدُّرر في اختصار المغازي والسّيَر، تحقيق د. شوقي ضيف، القاهرة 1966م، ص 113). ومارسوه عند اختيار الخليفة الأوَّل، والرسول (ص) لم يدفن بعد، حيث اجتمعوا في (السقيفة) يتنازعون (أمر) السياسة والحكم، من بعده، لا (الدّين)، يقيناً. ومارسوه عندما امتنع بعضهم، ومنهم علىٌّ كرَّم الله وجهه، وزوجه السيدة فاطمة بنت خاتم الأنبياء والمرسلين، عن مبايعة الصِّدِّيق (رض)، وهو مَن هو، ثاني اثنين إذ هما في الغار، ومَن أنابه الرسول (ص) عنه في إمامة الصلاة حالَ مرضه. ومارسه الصِّدِّيق نفسه، يوم صعد المنبر ليقول للناس في خطبته الأولى بعد مبايعته: "أفتظنون أنى أعمل فيكم بسنة رسول الله؟! إذن لا أقوم بها، إن رسول الله كان يُعصم بالوحي، وكان معه ملك، وإن لي شيطانا يعتريني، ألا فراعوني، فإن استقمت فأعينوني، وان زغت فقوّموني". ومارسه الفاروق (رض)، من بعده، يوم وقف، أيضاً، في خطبته الأولى، يطلب من الناس الطلب نفسه، فينهض له بدويٌّ لم تتعهَّد جلافته يدٌ حضريَّة صاقِلة، يصيح من أقصى المسجد: "والله لو رأينا فيك اعوجاجاً لقوَّمناك بسيوفنا"، ثم يؤدى صلاته، ويغادر المسجد، آمناً مطمئناً، لا يتعقبه بصَّاصٌ، ولا يلاحقه عَسَس، بينما لسان الفاروق يلهج بالحمد لله والثناء عليه أنْ جعل في أمَّة محمد مَن يقوِّم أمير المؤمنين بسيفه! وقد أوجز رضي الله عنه مفهوم (السُّلطة السّياسيَّة) في الإسلام، ووظيفتها، قائلاً، بعبارات لا تحتمل اللبس: "ولانا الله على الأمة لنسد لهم جوعتهم، ونوفر لهم حرفتهم، فإن عجزنا عن ذلك اعتزلناهم". بل وقد سبق أن أوجز الرسول الكريم (ص) كلَّ هذه المعاني، بنفسه، عندما أكد على الاختلاف بين الطبيعة (المدنيَّة) للسُّلطة السّياسيَّة و(بشريِّتها)، بعد الرسالة الخاتمة، وبين طبيعة السُّلطة (الدّينيَّة)، في ما قبل ذلك، لدى بني إسرائيل، وذلك فى الحديث الشريف: "إن بني إسرائيل كانت تسوسهم الأنبياء، كلما هلك نبي خلفه نبي، وإنه لا نبيَّ بعدى، إنه سيكون خلفاء" ـ رواه البخاري وابن ماجة وابن حنبل عن أبى هريرة.

    (31)

    كانت تلك دولة الرسول (ص)، لا يُقاس عليها لانتفاء شرط تحققها المتمثل في وجوده بنفسه، وهو المعصوم، فوق سنام القيادة منها؛ وكانت تلك دولة الراشدين، وقد أوغلت، من بعدها، نأياً في التاريخ، واستعصمت بخصائص قادتها الاستثنائيين حتى عن محض الحُلم بإعادة إنتاجها، حيث أن "الدَّولة الإسلاميَّة بصورتها الأولى لن تكون، روحاً وصورة، إلا كالمثال الأعلى للحكم" (د. حسن الترابى؛ الحركة الإسلاميَّة ..، ص 5)؛ وكان قادتها ومفكروها قد لازموا الرسول (ص)، منكبا لمنكب، في الحرب كما في السلم، وفى الضَّرَّاء قبل السَّرَّاء، وفي (المدينة) كما في (مكة)، وفى (أحُد) مثلما في (بدر)، فشعَّ على صدورهم قبسٌ من روحه الزَّكيَّة، وشهدوا القرآن يتنزَّل عليه طازجا بآيات شكلت وقائع حياتهم مناسباتها، وأطلت ملامحهم من ثنيَّات إعجازها، ثم تتبعوه، يوم خافوا ضياعه، فنالوا شرف جمعه، آية آية، كما يُجمع الدُرُّ من الأعماق، وانداحوا بالدولة إلى ما وراء النهر والجبل والعرق واللسان، يوم كانت تلك شرعة العلاقات الدوليَّة، وقانونها المعتمد، فقدَّموا نماذج عالية في التواضع والكِبْر ينادى، وفي التقشف والبطر يغرى، وفي النَّزاهة وبيت المال ينوء بثقل الخير الوارد من شتى الأمصار، ويهشُّ بوعد الدعة وطيب العيش الباذخ للنفس الأمَّارة بالسوء، واستمسكوا، إلى ذلك كله، بـ (الشورى)، حِصناً من الندامة، وأماناً من الملامة، وإلفة للقلوب، واتباعاً للأثر، في السلم كما في الحرب. فإذا كان كلُّ ذلك كذلك؛ ومع ذلك لم تنج دولة أولئك الرّجال الاستثنائيين من الصراعات، أو تخلُ فترات حكمهم من الخلافات، ما أدى إلى تصفية بعضهم جسديَّاً، وتلك بعض ذيول الخصائص (البشريَّة)، ومترتبات سياسة (الدنيا)؛ فأيَّة دولة، بعدهم، يحقُّ للقائمين (بأمرها) ادّعاء (عصمة) أو (قداسة) أو (حقّ إلهي) يخوّلهم سلطانا مطلقاً على عقول الناس، وعلى حرياتهم، ومصائرهم، وإرادتهم المستقلة؟!

    (32)

    شغلت ظاهرة (الدَّولة)، في نشأتها وتطوُّرها، علماء الاجتماع والسياسة من شتى الجنسيَّات والمدارس الفلسفيَّة والاتجاهات الفكريَّة، فراكموا حولها نتاجاً ضخماً من النظريَّات المختلفة، المتقاطعة، المتباينة فى تفسير عوامل نشأتها، والكشف عن محدِّدات خصائصها، واستجلاء الفروق الجوهريَّة المائزة بين العمليات الباطنيَّة المؤثرة فى مجرى سيرورتها، وتطورها، ومآلاتها. ولعلَّ أكثر ما تم التوافق عليه، وسط كلّ ما جرى الاختلاف حوله، في هذا الإرث المعرفي والفكري، هو العناصر المكوِّنة لـ (الدَّولة)، كظاهرة تاريخيَّة نشأت في مرحلة معيَّنة من تطوُّر الصراع والتنظيم الاجتماعيَّين، من حيث الشعب، والإقليم، والطبقات الاجتماعيَّة، ومؤسَّسات السلطة القابضة .. الخ.

    أما فيما عدا ذلك، ومن زاوية النظر إلى (الدَّولة) باعتبارها (جهازاً وظيفيَّاً) يمثل (ركن السُّلطة السّياسيَّة)، أو (ضرورة المُلك)، بالمصطلح الخلدوني، أو (جهاز القمع الطبقي)، حسب ماركس، أو (احتكار العنف الجَّسدى المشروع)، وفق ماكس فيبر، فقد أخذت تتراجع، رويداً رويداً، الأفكار المثاليَّة العتيقة في تفسير ظاهرتها، والنظريَّات الأسطوريَّة البالية التي ما انفكت تصوِّرها كما لو كانت (آلة) محايدة، نزيهة، ومجرَّدة من الغرض، وذلك تأسيساً على ما راكمته بعض العلوم، كالتاريخ والاجتماع والسياسة، من معارف.

    فمنذ وقوع الانقسام التاريخي، في مرحلة متأخّرة من تطور البنية الاجتماعيَّة البدائيَّة، ما بين (قلة مالكة مستغلة)، بكسر الغين، و(أغلبيَّة كادحة مستغلة) بفتحها، تلاشى بعيداً في تاريخ المجتمعات القبَليَّة التي كان أعضاؤها ينتجون حياتهم، ويدافعون عنها، بشكل جماعي، شكل (التسيير) المستند إلى (الرضاء العام)، والتقدير الجماعي (العفوي) للملكات الفرديَّة التي تؤهّل بعض الأشخاص، كالشيوخ والفرسان مثلاً، دون غيرهم، لأداء وظائف التنظيم والإشراف على ذلك (التسيير)، وذلك بجمعهم، في ذواتهم، بين فرادة الخصائص الشخصيَّة وامتيازات (السُّلطة) المعنويَّة، دون أن تكون لديهم، للعجب، أية (موارد) أو نفوذ (مادي) لإملاء إرادتهم على الآخرين، من جهة، ودون أن ينتقص ذلك من الطابع الجماعي لـ (التسيير)، من الجهة الأخرى.

    (33)

    كانت تلك هي اللحظة التاريخيَّة، بالضبط، التي برز فيها احتياج (السُّلطة) لأن تتأسس على قيمة أخرى غير (الامتياز) الشخصي. فوقوع الانقسام الاجتماعي التاريخي نفسه حول ملكيَّة أدوات الإنتاج، وما ترتب على ذلك من نتائج لاحقة، تكفل بالكشف عن فداحة الهوَّة الفاغرة بين (الخصائص الشخصيَّة) وبين (المهام) التي يتوقع من مثل تلك (الخصائص) أن تنهض بها. عندها لم يتبق ".. سوى حلين ممكنين لتفسير القدرة التي تتضمنها قرارات الحكام: فإما (تأليه) القائد، لإقامة توازن بين سلطته وصفاته الشخصية، وإما وضع أسس السلطة في مكانه الصحيح، خارج الحكام، فى مؤسسة قادرة على تحمل الخصائص التي تتعدى قوَّة البشر دون أن تترنح" (جورج بوردو؛ الدولة، ترجمة د. سليم حداد، ط 1، المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع، بيروت 1985م، ص 75).

    ومع تلاشى شكل التسيير البدائي (الجماعي) في التاريخ، ظهرت الحاجة المُلِحَّة إلى هذا (الجهاز الوظيفي) الخاص لإدارة المجتمع ، والذي انتهى إلى شكل (الدولة) الحديث، ليقطع، تاريخياً، مع شكل التنظيم (القبَلي)، وليصبح التفريق، حسب بوردو، مقبولاً، منذ ذلك الوقت، بين (السُّلطة) وبين (الأشخاص) الذين يمارسونها.

    لكن، لئن كان المتخصّصون، الآن، يعقلون هذا التفريق في إطار (النظريَّة القانونيَّة للدَّولة)، فإن لدى غير المتخصصين فهمهم القائم على (الشكّ) بوجود قدرة فوق الحكام تعطى (سلطتهم) قيمتها. فمع أنه لا يوجد من يستطيع أن يزعم أنه رأى هذه (السُّلطة) بأمّ عينه، إلا أنه لا يوجد، أيضاً، من يستطيع أن يزعم أنها غير موجودة! ولعلَّ هذا ما يفسّر تصوُّر (الدَّولة)، عند البعض، بأنه ليس سوى عقلنة للتفسير السحرى للسُّلطة، ".. ليس، فى العمق، إلا عقلنة للاعتقاد الذي لا يمكن الاعتراف به في وسط متطوّر فكريَّاً. فبما أننا لم نعد نستطيع الثقة بالخرافات والعجائب .. نطلب من بناء فكرىٍّ عقلاني ما كان ينتظره الناس في العصور القديمة من الخرافة والميثيولوجيا" (نفسه، ص 76).

    (34)

    مهما يكن من أمر، فقد أريق حبر كثير، حتى الآن، فى التنظير الأيديولوجى لهذا الجهاز الوظيفى (الدَّولة)، كي ما يبدو، للوهلة الأولى، وكأنه يعمل وفق (ضمانات) محدَّدة لخَّصها منظروه فى أنه:

    أ/ ينتصب فوق الجميع.

    ب/ يتجاوز مزالق التفويض القبَلي/العشائري القديم، بطابعه (العفوي) العام، القائم على (الإقرار) الجَّماعي بخصائص بعض الأشخاص، كشيوخ القبائل والعشائر وغيرهم، باعتبارها مؤهّل الشرعيَّة الأساسي لإشرافهم على (تسيير) نشاط الجماعة.

    ج/ يرتقى ، كنموذج إدارة ، إلى نمط (مؤسّسى) حديث، يتشكل وفق هايراركيَّة مدعومة بـ (فصائل مسلحة)، ويتكفل بمهمَّة صيانة (النظام العام)، وتغطى كلفته من جباية أموال (الضرائب).

    غير أن حقل التاريخ الذي ظلَّ دائماً بمثابة المختبر الحقيقي لأيّ (أيديولوجيا)، صيَّرَ إلى افتضاح صريح، منذ زمن طويل، أن ما يُسمَّى بـ (النظام العام) لا يعدو كونه منظومة قيم وقواعد (خاصَّة) جدَّاً، يراد منها تأبيد (سلطة) المستحوزين على (الثروة)، وأن الفصائل المسلحة (تقرأ: القامعة) ليست مسلحة، فى الواقع، إلا لحماية (مصالح) الطبقات والفئات الاجتماعيَّة السائدة اقتصاديَّاً وسياسيَّاً، وذلك بعد (رفع) هذه (المصالح الضيّقة) إلى مستوى (الصالح العام)، سواء كانت (سلطة) هذه الطبقات والفئات في قبضة فرد أو نخبة. باختصار فإن ".. الدَّولة التي قامت لتكون المركز المتجرِّد للسُّلطة، تتحوَّل لتصبح، غالباً، العذر للذين يحكمون باسمها، ويتذرَّعون بحظوتها، ولكن .. أمزجتهم وميولهم ومصالحهم (هي) التي تملي القرارات التي تنسب إليها" (نفسه ، ص 14).

    (35)

    هكذا أضحى مصطلح (الدَّولة) يُستخدم، أكثر فأكثر، للدَّلالة على (أداة) التسلط السّياسي لـ (الأقليَّة) التي تدَّعى خدمة (كلّ المجتمع)، ككيان متماسك ومتجانس، بينما هو، في حقيقته، منقسم إلى طبقات تتمايز في ما بينها، وتتدافع، بحسب مواقعها المختلفة من السُّلطة والثروة، وما ينتسب إليهما، ويحيط بهما، من مفاهيم دينيَّة وأخلاقيَّة وثقافيَّة وغيرها، في إطار منظومة القيم والمثل والمؤسسات التي تشكل البنية الفوقيَّة للمجتمع superstructure، ".. وعندها تصبح الدَّولة، المسيطر عليها من قبل الذين من المفترض أن يكونوا خدَّامها، ستاراً لـ (مشروع تسلطي) على الأقل، إذا لم تكن ما رآه ماركس فيها عندما أدانها باعتبارها (أداة للقمع). إن الوهم يولد الأسطورة، وهكذا الدَّولة التي تمَّ تصوُّرها لتطهير السُّلطة من الضعف الإنساني، تصبح أداة لتبريره" (نفسه).

    مع ذلك من المهمّ النظر إلى (الدَّولة)، في بعض وجوه التعقيد الذي يسمُ ظاهرتها، بوصفها فرعيَّة، أو حتى ثانويَّة، في علاقتها بـ (المجتمع المدني)، إذ ليست هي التي (تحدِّد) أو (تخترع) هذا المجتمع، من جهتي (التكييف) و(التنظيم)، بل العكس هو الصحيح تماماً، حيث أن ظاهرة الدَّولة هي التي برزت، تاريخياً، من واقع حراكات وصراعات المجتمع، وتحدَّدت بها. وفى سياق تصويبه للمفهوم الماركسي المعروف حول (نهاية الدَّولة) يرى غرامشي أن (الدَّولة) ليست منتهية بذاتها، وإن يكن من الممكن تصوُّر ذلك عنها (كأداة)؛ بمعنى أن (نشوء) و(اختفاء) هذه (الأداة) مشروطان بنشوء واختفاء (المجتمع) الذى تعبر عنه. وهذا ما دعاه غرامشى (الدولة الموسَّعة)، أى الظاهرة بشقيها المدني والسّياسي (أنظر: د. كريم أبو حلاوة؛ "إعادة الاعتبار لمفهوم المجتمع المدني"، م/عالم الفكر، ع/3، المجلس الوطنى للثقافة والفنون والآداب، الكويت، يناير/مارس 1999م، ص 16 ـ وأنظر ضمنه: Bobio, Norbirto; Civil Society in Gramci, 1988, p. 76 – 77).
    بهذا المستوى من الفهم لظاهرة الدَّولة، يصبح من الممكن النظر إليها، قديماً وحديثاً، باعتبارها، من ناحية، "جهازاً سياسياً طبقياً للقمع المشروع"، إذا قرَنا بين تعريفات ماركس وفيبر وبوردو، أو "أداة مُلك موضوعيَّة"، بمصطلح عالم الاجتماع الإسلامي عبد الرحمن بن خلدون؛ كما يمكن النظر إليها، باعتبارها، من ناحية أخرى، حسب ملاحظة غرامشي، كياناً "موسَّعاً" ما ينفكُّ شقاه (المدني) و(السياسي) يتواجهان داخله، بمطالبهما المرفوعة تجاه بعضهما البعض.
    لقد أصبح الكثير من المنظرين والمفكرين والباحثين الحديثين، من مختلف المدارس والاتجاهات، بما في ذلك مفكرون من داخل حركة الإسلام السياسي في المنطقة، يعبّرون، بصورة أو بأخرى، عن اتفاقهم مع القول بأن "أداة المُلك الموضوعيَّة" هذه عادة ما تكون فى قبضة (الأقليَّة) في المجتمع، تستخدمها لضمان استمرار نفوذها وامتيازاتها الاقتصاديَّة السياسيَّة والاجتماعيَّة على حساب (الأغلبيَّة). لكن ما يهمنا هنا، لأغراض مبحثنا هذا تحديداً، هو التعرُّف على موقف الإسلام السياسي الحديث من هذه القضيَّة، خاصَّة في ضوء المعياريَّة الصارمة التي أرساها الفاروق لوظيفة الشقّ السياسي من (الدَّولة الإسلاميَّة)، والمتمثلة في سدّ جوعة الناس، وتوفير حرفتهم، "وإلا اعتزلناهم"، أو كما قال!
                  

11-06-2009, 07:50 PM

الهادي هباني
<aالهادي هباني
تاريخ التسجيل: 06-17-2008
مجموع المشاركات: 2807

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: عَتُودُ الدَّوْلَة ،،، ثَوابِتُ الدِّينِ أَم مُتَحَرِّكاتُ التَّدَيُّن؟! بقلم كمال الجزولي (Re: عاطف مكاوى)

    شكرا صديقي أبو مكاوي علي روح
    التعاون و التضامن ،،، فقد عرفناك دائما هكذا
    بالذات في الكلام النجيض الفيهو فايدة
    تحياتي الحارة للعيال و أمهم
                  

11-09-2009, 07:57 PM

الهادي هباني
<aالهادي هباني
تاريخ التسجيل: 06-17-2008
مجموع المشاركات: 2807

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: عَتُودُ الدَّوْلَة ،،، ثَوابِتُ الدِّينِ أَم مُتَحَرِّكاتُ التَّدَيُّن؟! بقلم كمال الجزولي (Re: الهادي هباني)

    الحلقة السادسة
    (ولانا الله على الأمَّة لنسدَّ لهم جَوْعَتهُم، ونوفرَ لهم حرْفتهُم، فإنْ عَجزْنا عن ذلك اعْتَزَلناهُم)
    عمر بن الخطاب
    (29)
    كانت (دولة) الرَّسول (ص)، كما ذكرنا، استثناءً، في التاريخ، لا يُقاس عليه، لانتفاء شرط تحققها الأساسي: قيامه بنفسه في رأسها، وتسييره لأمورها، وهو العالم المعلم بكونه معصوماً بـ (الوحي) في شئون (الدّين)، مأموراً بـ (الشُّورى) في أمور (الدُّنيا). ومع ذلك وجب على المسلمين السَّعي للتأسّي بعموميّات هدايتها وكليَّات مثالها.
    فما أن استقرَّ به وبالمهاجرين المقام في المدينة، بحسب ابن هشام، من ربيع الأول إلى صفر من السَّنة الدَّاخلة، وفرغ من بناء المسجد والمساكن، واستجمع له إسلام هذا الحيّ من الأنصار، حتى عَمَد إلى التبشير بمبادئ الحياة الجديدة، القائمة، أوَّل شئ، في هداية (المُعاملات) القرآنيَّة، وأهمُّها (الإنفاق)، وتوقى (شُحّ) النفس، و(إيثار) الآخر عليها ولو كان بها خصاصة، وما إلى ذلك من القيم والمعاني التي أسَّس بها (ص) لمضمون العدل الاجتماعي في دولة المدينة. وليس أدلَّ على ذلك من اهتمامه بتحذير الناس في أوَّل خطبة له هناك، قائلاً: ".. أيَّها الناس، فقدّموا لأنفسكم. تعلمُنَّ والله ليُصْعَقنَّ أحدكم، ثم ليُدَعَنَّ غنمة ليس لها راع، ثم ليقولنَّ له ربُّه، وليس له ترجمان ولا حاجب يحجبه دونه: ألم يأتك رسولي فبلغك، وآتيتك مالاً وأفضلت عليك، فما قدّمت لنفسك .. فمَن استطاع أن يقي وجهه من النار ولو بشقّ تمرة فليفعل، ومَن لم يجد فبكلمة طيبة، فإن بها تجزى الحسنة بعشرة أمثالها، إلى سبعمائة ضعف" (تهذيب سيرة ابن هشام لعبد السلام هارون، المجمع العلمي العربي الإسلامي ببيروت، ص 138 ـ 139).
    ثم ما لبث (ص) أن أصدر (الصحيفة) أو (دستور المدينة)، محدِّداً الإطار السّياسي لدولته، بما يصلح أن يجتمع عليه، سياسيَّاً، عقد (التنوُّع) الديني والثقافي والقبلي شديد الخصوصيَّة والتفرُّد في مجتمع (يثرب) الجديد. فميّز، بادئ ذي بدء، بين أمَّتين: (أمَّة الدّين) الأصغر، و(أمَّة السّياسة) الأكبر. ثمَّ جعل (الصحيفة) وثيقة (دستوريَّة) فريدة لتوحيد (أمَّة السّياسة) الأكبر، بما فيها من (مؤمنين) وغيرهم، لا على أسس (الدّين)، وإنما على ما يمكن اعتباره إرهاصاً باكراً بأسس (المواطنة)، حيث جرى، بموجب تلك الوثيقة العبقريَّة، تعريف ".. المؤمنين والمسلمين من قريش ويثرب، ومن تبعهم فلحق بهم، وجاهد معهم، (بأنهم) أمَّة واحدة من دون الناس. المهاجرون من قريش على ربعتهم يتعاقلون بينهم، وهم يفدون عانيهم بالمعروف والقسط بين المؤمنين. وبنو عوف على ربعتهم الأولى، كل طائفة تفدى عانيها بالمعروف والقسط بين المؤمنين. وبنو ساعدة .. وبنو الحارث .. وبنو جشم .. وبنو النجَّار .. الخ". ثم انتقلت الوثيقة إلى تعريف (أمَّة السّياسة) بنصّها على ".. أن يهود بني عوف أمَّة مع المؤمنين، لليهود دينهم، وللمسلمين دينهم، مواليهم وأنفسهم، إلا من ظلم وأثم .. وأن ليهود بني النجَّار مثل ما ليهود بني عوف، وأن ليهود بني الحارث مثل ما ليهود بني عوف، وأن ليهود بني ساعدة مثل ما ليهود بني عوف .. وأن على اليهود نفقتهم، وعلى المسلمين نفقتهم، وأن بينهم النصر على من حارب أهل هذه الصحيفة، وأن بينهم النصح والنصيحة والبرَّ دون الإثم، وأنه لم يأثم امرؤ بحليفه، وأن النصر للمظلوم .. وأن يثرب حرامٌ جوفها لأهل هذه الصحيفة .. وأنه لا تجار قريشٌ ولا من نصرها، وأن بينهم النصر على من دَهَمَ يثرب .." (راجع النص الكامل للصحيفة ضمن "التهذيب" ، ص 140 ـ 143).
    فليس صحيحاً، إذن، الاعتقاد بأن (الصحيفة) كانت (دستوراً دينيَّاً) لـ (المؤمنين) من المهاجرين والأنصار، بل الصحيح أنها كانت (دستوراً سياسيَّاً) لـ (أمَّة سياسيَّة) قصد منه النبى الكريم أن ".. ينظم شئون الحرب والسلم والمال فى حياتها .. وتحدثت موادُّه عن تنظيم العلاقات بين (الأمم)، الجماعات .. التي غدت مكوّنة لـ (أمَّة) واحدة بالمعنى السّياسي .." (د. محمد عمارة ، الاسلام والسلطة الدينية ، ص 109).
    (30)
    هكذا يتأكد، عمليَّاً، وبجلاء تام، أنه ليس ثمَّة أدنى سند، في الإسلام، لدولة دينيَّة (ثيوقراطيَّة) أو حتى (ثيوديموقراطيَّة)، كما يقترح المودودي وسيّد قطب باجتهاد (بشري) لا قدسيَّة له ولا عصمة. والحقيقة "أن الذين رأوا، باجتهاد معاصر، أن يعطوا الإمرة، أو القيادة السّياسيَّة، قدسيَّة تناهز قدسيَّة العقائد والعبادات مهَّدوا للتطرف الإسلامي المعاصر الذي جعل اجتهاد أصحابه السّياسي هو موقف الأمَّة، كلَّ الأمَّة، ونفى رأي الآخرين باعتباره كفراً وخروجاً عن ملة الإسلام. هذا الاعتقاد هو الذي مهَّد للتيارات الاحتجاجيَّة المتطرّفة المعاصرة، عبر تكريسه للاستبداد وفتح باب المظالم السّياسيَّة والاجتماعيَّة" (الصادق المهدي؛ نداءات العصر، دار الشَّمَّاشة، الخرطوم 2001م ، ص 26). الصحيح، إذن، هو أن طبيعة الدولة في الإسلام مدنيَّة، تقوم على قاعدة الآيتين الكريمتين اللتين سلفت الإشارة إليهما، حيث:
    أ/ أمر الله سبحانه وتعالى رسوله الكريم (ص) بأن يشاور الناس في (الأمر)، أي يستخرج آراءهم في شئون حياتهم، ويتشاور معهم فيها، فلا يعجلون (تفسير الجلالين). ولعلنا في غنى عن التأكيد على أنه لو كان الشأن شأن أمر أو نهى (دينىٍّ) صريح لما جازت فيه مشاورة البشر. غير أن الإسلام يقوم، في أصله، على (التمييز) الواضح، كما سبق وأوردنا، بين ما هو (دين) قطعىُّ الورود والدلالة، فمرجعيته الله ورسوله، وبين ما هو (دنيا)، فمرجعيته البشر أنفسهم، بما ينبغي أن يعتمل في عقولهم وأفئدتهم وألبابهم من (تديُّن) قائم على تشرُّب القيم الشاملة والمقاصد الكلية، لا (تديُّناً) ينغلق على جزيئات مفكَّكة يجرى انتقاؤها انتقاءً، وتلفيقها تلفيقاً، بمنهج يحتال على (الدّين) بـ (الدُّنيا)، وعلى (الدُّنيا) بـ (الدّين)، فلا جلالاً لـ (الدّين) يصون، ولا صلاحاً لـ (الدُّنيا) يحقق، مع كون الإسلام يَعنى، بالنسبة للمسلم، صلاح (الدّين) و(الدُّنيا) معاً. لكنه ، وقد فصَّل الأحكام في الحالة الأولى، ترك الثانية لأفهام المسلمين، يُعملون فيها عقولهم البشريَّة، مستهدين بمجملات الهداية إلى سبل الرَّشاد في القرآن والسنة. بغير هذا الفهم نتنكب، يقيناً، طريق (التمييز) الواضح في الحديث الشريف "ما أمرتكم بشئ .. الخ"، رغم أن هذا (التمييز)، بقول بعض مفكري الإسلام السّياسي أنفسهم، قد ".. أصبح واحداً من إنجازات الإسلام الكبرى على درب تطور الإنسان ، كما أصبح واحداً من علامات النضج والرُّشد لهذه الإنسانيَّة" (د. محمد عمارة؛ الإسلام والسلطة الدينيَّة، ص 104).
    ب/ قرَّ ذلك في وعى الصحابة والمسلمين الأوائل، فمارسوه بسعيهم الجاد للتحقق من الرسول (ص) نفسه، كلما أصدر توجيهاً، وأشكل عليهم فهم ما إن كان من قطعيَّات (الدّين) القويم، أم من مدركات البشر (الدُّنيويَّة)، وذلك بتوجُّههم له بالسؤال متعدّد الألفاظ مُتحِد المعنى، مستصحبين قاعدة (التمييز) المذكورة: "يا رسول الله .. أمنزلا أنزلكه الله ليس لنا أن نتقدَّمه أو نتأخر عنه، أم هو الرأي؟!" (إبن عبد البرّ؛ الدُّرر في اختصار المغازي والسّيَر، تحقيق د. شوقي ضيف، القاهرة 1966م، ص 113). ومارسوه عند اختيار الخليفة الأوَّل، والرسول (ص) لم يدفن بعد، حيث اجتمعوا في (السقيفة) يتنازعون (أمر) السياسة والحكم، من بعده، لا (الدّين)، يقيناً. ومارسوه عندما امتنع بعضهم، ومنهم علىٌّ كرَّم الله وجهه، وزوجه السيدة فاطمة بنت خاتم الأنبياء والمرسلين، عن مبايعة الصِّدِّيق (رض)، وهو مَن هو، ثاني اثنين إذ هما في الغار، ومَن أنابه الرسول (ص) عنه في إمامة الصلاة حالَ مرضه. ومارسه الصِّدِّيق نفسه، يوم صعد المنبر ليقول للناس في خطبته الأولى بعد مبايعته: "أفتظنون أنى أعمل فيكم بسنة رسول الله؟! إذن لا أقوم بها، إن رسول الله كان يُعصم بالوحي، وكان معه ملك، وإن لي شيطانا يعتريني، ألا فراعوني، فإن استقمت فأعينوني، وان زغت فقوّموني". ومارسه الفاروق (رض)، من بعده، يوم وقف، أيضاً، في خطبته الأولى، يطلب من الناس الطلب نفسه، فينهض له بدويٌّ لم تتعهَّد جلافته يدٌ حضريَّة صاقِلة، يصيح من أقصى المسجد: "والله لو رأينا فيك اعوجاجاً لقوَّمناك بسيوفنا"، ثم يؤدى صلاته، ويغادر المسجد، آمناً مطمئناً، لا يتعقبه بصَّاصٌ، ولا يلاحقه عَسَس، بينما لسان الفاروق يلهج بالحمد لله والثناء عليه أنْ جعل في أمَّة محمد مَن يقوِّم أمير المؤمنين بسيفه! وقد أوجز رضي الله عنه مفهوم (السُّلطة السّياسيَّة) في الإسلام، ووظيفتها، قائلاً، بعبارات لا تحتمل اللبس: "ولانا الله على الأمة لنسد لهم جوعتهم، ونوفر لهم حرفتهم، فإن عجزنا عن ذلك اعتزلناهم". بل وقد سبق أن أوجز الرسول الكريم (ص) كلَّ هذه المعاني، بنفسه، عندما أكد على الاختلاف بين الطبيعة (المدنيَّة) للسُّلطة السّياسيَّة و(بشريِّتها)، بعد الرسالة الخاتمة، وبين طبيعة السُّلطة (الدّينيَّة)، في ما قبل ذلك، لدى بني إسرائيل، وذلك فى الحديث الشريف: "إن بني إسرائيل كانت تسوسهم الأنبياء، كلما هلك نبي خلفه نبي، وإنه لا نبيَّ بعدى، إنه سيكون خلفاء" ـ رواه البخاري وابن ماجة وابن حنبل عن أبى هريرة.
    (31)
    كانت تلك دولة الرسول (ص)، لا يُقاس عليها لانتفاء شرط تحققها المتمثل في وجوده بنفسه، وهو المعصوم، فوق سنام القيادة منها؛ وكانت تلك دولة الراشدين، وقد أوغلت، من بعدها، نأياً في التاريخ، واستعصمت بخصائص قادتها الاستثنائيين حتى عن محض الحُلم بإعادة إنتاجها، حيث أن "الدَّولة الإسلاميَّة بصورتها الأولى لن تكون، روحاً وصورة، إلا كالمثال الأعلى للحكم" (د. حسن الترابى؛ الحركة الإسلاميَّة ..، ص 5)؛ وكان قادتها ومفكروها قد لازموا الرسول (ص)، منكبا لمنكب، في الحرب كما في السلم، وفى الضَّرَّاء قبل السَّرَّاء، وفي (المدينة) كما في (مكة)، وفى (أحُد) مثلما في (بدر)، فشعَّ على صدورهم قبسٌ من روحه الزَّكيَّة، وشهدوا القرآن يتنزَّل عليه طازجا بآيات شكلت وقائع حياتهم مناسباتها، وأطلت ملامحهم من ثنيَّات إعجازها، ثم تتبعوه، يوم خافوا ضياعه، فنالوا شرف جمعه، آية آية، كما يُجمع الدُرُّ من الأعماق، وانداحوا بالدولة إلى ما وراء النهر والجبل والعرق واللسان، يوم كانت تلك شرعة العلاقات الدوليَّة، وقانونها المعتمد، فقدَّموا نماذج عالية في التواضع والكِبْر ينادى، وفي التقشف والبطر يغرى، وفي النَّزاهة وبيت المال ينوء بثقل الخير الوارد من شتى الأمصار، ويهشُّ بوعد الدعة وطيب العيش الباذخ للنفس الأمَّارة بالسوء، واستمسكوا، إلى ذلك كله، بـ (الشورى)، حِصناً من الندامة، وأماناً من الملامة، وإلفة للقلوب، واتباعاً للأثر، في السلم كما في الحرب. فإذا كان كلُّ ذلك كذلك؛ ومع ذلك لم تنج دولة أولئك الرّجال الاستثنائيين من الصراعات، أو تخلُ فترات حكمهم من الخلافات، ما أدى إلى تصفية بعضهم جسديَّاً، وتلك بعض ذيول الخصائص (البشريَّة)، ومترتبات سياسة (الدنيا)؛ فأيَّة دولة، بعدهم، يحقُّ للقائمين (بأمرها) ادّعاء (عصمة) أو (قداسة) أو (حقّ إلهي) يخوّلهم سلطانا مطلقاً على عقول الناس، وعلى حرياتهم، ومصائرهم، وإرادتهم المستقلة؟!
    (32)
    شغلت ظاهرة (الدَّولة)، في نشأتها وتطوُّرها، علماء الاجتماع والسياسة من شتى الجنسيَّات والمدارس الفلسفيَّة والاتجاهات الفكريَّة، فراكموا حولها نتاجاً ضخماً من النظريَّات المختلفة، المتقاطعة، المتباينة فى تفسير عوامل نشأتها، والكشف عن محدِّدات خصائصها، واستجلاء الفروق الجوهريَّة المائزة بين العمليات الباطنيَّة المؤثرة فى مجرى سيرورتها، وتطورها، ومآلاتها. ولعلَّ أكثر ما تم التوافق عليه، وسط كلّ ما جرى الاختلاف حوله، في هذا الإرث المعرفي والفكري، هو العناصر المكوِّنة لـ (الدَّولة)، كظاهرة تاريخيَّة نشأت في مرحلة معيَّنة من تطوُّر الصراع والتنظيم الاجتماعيَّين، من حيث الشعب، والإقليم، والطبقات الاجتماعيَّة، ومؤسَّسات السلطة القابضة .. الخ.
    أما فيما عدا ذلك، ومن زاوية النظر إلى (الدَّولة) باعتبارها (جهازاً وظيفيَّاً) يمثل (ركن السُّلطة السّياسيَّة)، أو (ضرورة المُلك)، بالمصطلح الخلدوني، أو (جهاز القمع الطبقي)، حسب ماركس، أو (احتكار العنف الجَّسدى المشروع)، وفق ماكس فيبر، فقد أخذت تتراجع، رويداً رويداً، الأفكار المثاليَّة العتيقة في تفسير ظاهرتها، والنظريَّات الأسطوريَّة البالية التي ما انفكت تصوِّرها كما لو كانت (آلة) محايدة، نزيهة، ومجرَّدة من الغرض، وذلك تأسيساً على ما راكمته بعض العلوم، كالتاريخ والاجتماع والسياسة، من معارف.
    فمنذ وقوع الانقسام التاريخي، في مرحلة متأخّرة من تطور البنية الاجتماعيَّة البدائيَّة، ما بين (قلة مالكة مستغلة)، بكسر الغين، و(أغلبيَّة كادحة مستغلة) بفتحها، تلاشى بعيداً في تاريخ المجتمعات القبَليَّة التي كان أعضاؤها ينتجون حياتهم، ويدافعون عنها، بشكل جماعي، شكل (التسيير) المستند إلى (الرضاء العام)، والتقدير الجماعي (العفوي) للملكات الفرديَّة التي تؤهّل بعض الأشخاص، كالشيوخ والفرسان مثلاً، دون غيرهم، لأداء وظائف التنظيم والإشراف على ذلك (التسيير)، وذلك بجمعهم، في ذواتهم، بين فرادة الخصائص الشخصيَّة وامتيازات (السُّلطة) المعنويَّة، دون أن تكون لديهم، للعجب، أية (موارد) أو نفوذ (مادي) لإملاء إرادتهم على الآخرين، من جهة، ودون أن ينتقص ذلك من الطابع الجماعي لـ (التسيير)، من الجهة الأخرى.
    (33)
    كانت تلك هي اللحظة التاريخيَّة، بالضبط، التي برز فيها احتياج (السُّلطة) لأن تتأسس على قيمة أخرى غير (الامتياز) الشخصي. فوقوع الانقسام الاجتماعي التاريخي نفسه حول ملكيَّة أدوات الإنتاج، وما ترتب على ذلك من نتائج لاحقة، تكفل بالكشف عن فداحة الهوَّة الفاغرة بين (الخصائص الشخصيَّة) وبين (المهام) التي يتوقع من مثل تلك (الخصائص) أن تنهض بها. عندها لم يتبق ".. سوى حلين ممكنين لتفسير القدرة التي تتضمنها قرارات الحكام: فإما (تأليه) القائد، لإقامة توازن بين سلطته وصفاته الشخصية، وإما وضع أسس السلطة في مكانه الصحيح، خارج الحكام، فى مؤسسة قادرة على تحمل الخصائص التي تتعدى قوَّة البشر دون أن تترنح" (جورج بوردو؛ الدولة، ترجمة د. سليم حداد، ط 1، المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع، بيروت 1985م، ص 75).
    ومع تلاشى شكل التسيير البدائي (الجماعي) في التاريخ، ظهرت الحاجة المُلِحَّة إلى هذا (الجهاز الوظيفي) الخاص لإدارة المجتمع ، والذي انتهى إلى شكل (الدولة) الحديث، ليقطع، تاريخياً، مع شكل التنظيم (القبَلي)، وليصبح التفريق، حسب بوردو، مقبولاً، منذ ذلك الوقت، بين (السُّلطة) وبين (الأشخاص) الذين يمارسونها.
    لكن، لئن كان المتخصّصون، الآن، يعقلون هذا التفريق في إطار (النظريَّة القانونيَّة للدَّولة)، فإن لدى غير المتخصصين فهمهم القائم على (الشكّ) بوجود قدرة فوق الحكام تعطى (سلطتهم) قيمتها. فمع أنه لا يوجد من يستطيع أن يزعم أنه رأى هذه (السُّلطة) بأمّ عينه، إلا أنه لا يوجد، أيضاً، من يستطيع أن يزعم أنها غير موجودة! ولعلَّ هذا ما يفسّر تصوُّر (الدَّولة)، عند البعض، بأنه ليس سوى عقلنة للتفسير السحرى للسُّلطة، ".. ليس، فى العمق، إلا عقلنة للاعتقاد الذي لا يمكن الاعتراف به في وسط متطوّر فكريَّاً. فبما أننا لم نعد نستطيع الثقة بالخرافات والعجائب .. نطلب من بناء فكرىٍّ عقلاني ما كان ينتظره الناس في العصور القديمة من الخرافة والميثيولوجيا" (نفسه، ص 76).
    (34)
    مهما يكن من أمر، فقد أريق حبر كثير، حتى الآن، فى التنظير الأيديولوجى لهذا الجهاز الوظيفى (الدَّولة)، كي ما يبدو، للوهلة الأولى، وكأنه يعمل وفق (ضمانات) محدَّدة لخَّصها منظروه فى أنه:
    أ/ ينتصب فوق الجميع.
    ب/ يتجاوز مزالق التفويض القبَلي/العشائري القديم، بطابعه (العفوي) العام، القائم على (الإقرار) الجَّماعي بخصائص بعض الأشخاص، كشيوخ القبائل والعشائر وغيرهم، باعتبارها مؤهّل الشرعيَّة الأساسي لإشرافهم على (تسيير) نشاط الجماعة.
    ج/ يرتقى ، كنموذج إدارة ، إلى نمط (مؤسّسى) حديث، يتشكل وفق هايراركيَّة مدعومة بـ (فصائل مسلحة)، ويتكفل بمهمَّة صيانة (النظام العام)، وتغطى كلفته من جباية أموال (الضرائب).
    غير أن حقل التاريخ الذي ظلَّ دائماً بمثابة المختبر الحقيقي لأيّ (أيديولوجيا)، صيَّرَ إلى افتضاح صريح، منذ زمن طويل، أن ما يُسمَّى بـ (النظام العام) لا يعدو كونه منظومة قيم وقواعد (خاصَّة) جدَّاً، يراد منها تأبيد (سلطة) المستحوزين على (الثروة)، وأن الفصائل المسلحة (تقرأ: القامعة) ليست مسلحة، فى الواقع، إلا لحماية (مصالح) الطبقات والفئات الاجتماعيَّة السائدة اقتصاديَّاً وسياسيَّاً، وذلك بعد (رفع) هذه (المصالح الضيّقة) إلى مستوى (الصالح العام)، سواء كانت (سلطة) هذه الطبقات والفئات في قبضة فرد أو نخبة. باختصار فإن ".. الدَّولة التي قامت لتكون المركز المتجرِّد للسُّلطة، تتحوَّل لتصبح، غالباً، العذر للذين يحكمون باسمها، ويتذرَّعون بحظوتها، ولكن .. أمزجتهم وميولهم ومصالحهم (هي) التي تملي القرارات التي تنسب إليها" (نفسه ، ص 14).
    (35)
    هكذا أضحى مصطلح (الدَّولة) يُستخدم، أكثر فأكثر، للدَّلالة على (أداة) التسلط السّياسي لـ (الأقليَّة) التي تدَّعى خدمة (كلّ المجتمع)، ككيان متماسك ومتجانس، بينما هو، في حقيقته، منقسم إلى طبقات تتمايز في ما بينها، وتتدافع، بحسب مواقعها المختلفة من السُّلطة والثروة، وما ينتسب إليهما، ويحيط بهما، من مفاهيم دينيَّة وأخلاقيَّة وثقافيَّة وغيرها، في إطار منظومة القيم والمثل والمؤسسات التي تشكل البنية الفوقيَّة للمجتمع superstructure، ".. وعندها تصبح الدَّولة، المسيطر عليها من قبل الذين من المفترض أن يكونوا خدَّامها، ستاراً لـ (مشروع تسلطي) على الأقل، إذا لم تكن ما رآه ماركس فيها عندما أدانها باعتبارها (أداة للقمع). إن الوهم يولد الأسطورة، وهكذا الدَّولة التي تمَّ تصوُّرها لتطهير السُّلطة من الضعف الإنساني، تصبح أداة لتبريره" (نفسه).
    مع ذلك من المهمّ النظر إلى (الدَّولة)، في بعض وجوه التعقيد الذي يسمُ ظاهرتها، بوصفها فرعيَّة، أو حتى ثانويَّة، في علاقتها بـ (المجتمع المدني)، إذ ليست هي التي (تحدِّد) أو (تخترع) هذا المجتمع، من جهتي (التكييف) و(التنظيم)، بل العكس هو الصحيح تماماً، حيث أن ظاهرة الدَّولة هي التي برزت، تاريخياً، من واقع حراكات وصراعات المجتمع، وتحدَّدت بها. وفى سياق تصويبه للمفهوم الماركسي المعروف حول (نهاية الدَّولة) يرى غرامشي أن (الدَّولة) ليست منتهية بذاتها، وإن يكن من الممكن تصوُّر ذلك عنها (كأداة)؛ بمعنى أن (نشوء) و(اختفاء) هذه (الأداة) مشروطان بنشوء واختفاء (المجتمع) الذى تعبر عنه. وهذا ما دعاه غرامشى (الدولة الموسَّعة)، أى الظاهرة بشقيها المدني والسّياسي (أنظر: د. كريم أبو حلاوة؛ "إعادة الاعتبار لمفهوم المجتمع المدني"، م/عالم الفكر، ع/3، المجلس الوطنى للثقافة والفنون والآداب، الكويت، يناير/مارس 1999م، ص 16 ـ وأنظر ضمنه: Bobio, Norbirto; Civil Society in Gramci, 1988, p. 76 – 77).
    بهذا المستوى من الفهم لظاهرة الدَّولة، يصبح من الممكن النظر إليها، قديماً وحديثاً، باعتبارها، من ناحية، "جهازاً سياسياً طبقياً للقمع المشروع"، إذا قرَنا بين تعريفات ماركس وفيبر وبوردو، أو "أداة مُلك موضوعيَّة"، بمصطلح عالم الاجتماع الإسلامي عبد الرحمن بن خلدون؛ كما يمكن النظر إليها، باعتبارها، من ناحية أخرى، حسب ملاحظة غرامشي، كياناً "موسَّعاً" ما ينفكُّ شقاه (المدني) و(السياسي) يتواجهان داخله، بمطالبهما المرفوعة تجاه بعضهما البعض.
    لقد أصبح الكثير من المنظرين والمفكرين والباحثين الحديثين، من مختلف المدارس والاتجاهات، بما في ذلك مفكرون من داخل حركة الإسلام السياسي في المنطقة، يعبّرون، بصورة أو بأخرى، عن اتفاقهم مع القول بأن "أداة المُلك الموضوعيَّة" هذه عادة ما تكون فى قبضة (الأقليَّة) في المجتمع، تستخدمها لضمان استمرار نفوذها وامتيازاتها الاقتصاديَّة السياسيَّة والاجتماعيَّة على حساب (الأغلبيَّة). لكن ما يهمنا هنا، لأغراض مبحثنا هذا تحديداً، هو التعرُّف على موقف الإسلام السياسي الحديث من هذه القضيَّة، خاصَّة في ضوء المعياريَّة الصارمة التي أرساها الفاروق لوظيفة الشقّ السياسي من (الدَّولة الإسلاميَّة)، والمتمثلة في سدّ جوعة الناس، وتوفير حرفتهم، "وإلا اعتزلناهم"، أو كما قال
                  

11-19-2009, 08:46 PM

الهادي هباني
<aالهادي هباني
تاريخ التسجيل: 06-17-2008
مجموع المشاركات: 2807

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: عَتُودُ الدَّوْلَة ،،، ثَوابِتُ الدِّينِ أَم مُتَحَرِّكاتُ التَّدَيُّن؟! بقلم كمال الجزولي (Re: الهادي هباني)

    الحلقة السابعة

    أخشى أن تكون الحريَّة قضية (ظرفيَّة)، نطالب بها عندما

    يكون (الظرف) غير مناسب لنا، وهنا يكون السقوط الرهيب)!


    راشد الغنوشي

    (43)

    لقد كان من الممكن، بالطبع، تلقي أطروحات حركة الإسلام السّياسي في بلادنا، كاجتهادات وتدابير (بشريَّة) تتعلق بسياسة (الدُّنيا)، ومناقشتها، من ثمَّ ، على هذا الأساس، وفق المعايير التي يخضع لها (الفكر البشري)، لو لم يؤثر أهلها أن يردُّوها، ابتداءً، إلى ضرب من (التديُّن بالسّياسة) أو (توبة الدولة إلى الدّين)، على حدّ شائع مسكوكاتهم الاصطلاحيَّة، مما يصوّرونه، حثيثاً، على أنه وحده الالتزام بـ (صحيح الدين)، جاعلين ثنائيَّة (الإيمان والكفر) هي معياريَّة أرائهم البشريَّة، لا (الصواب والخطأ) كما ينبغي. وعلة ذلك، في تقديرنا، هي الذهنيَّة (الأحاديَّة) نفسها القائمة في أساس بنية (الإقصاء) و(الإحلال) الفكريَّة. فالترابي، مثلاًً، يرى أن من وجوه (الكسب) الذي هيَّأته انتفاضة أبريل 1985م للجبهة الإسلاميَّة القوميّة، ليس، فقط، إعادة تنظيم صفوفها، وتوسيع عضويَّتها، ومنافسة الأحزاب الأخرى في مناخ الحُرّيَّات الديموقراطيَّة المستعادة، آنذاك، بل الطمع في ".. استيعاب القدرات الشعبيَّة القبَليَّة والصوفيَّة، ومحاولة إدراج المجتمع (كله) في الحركة؛ فقد أخذت الجَّماعة تتحوَّل (بطبيعتها) نحو أن (تكون) المجتمع" (الأقوس من عندنا ـ الترابي؛ الحركة الإسلاميَّة في السودان، ص 35)، بل أن تكون، فى حقيقتها، نموذج المجتمع المسلم المرجو (المصدر، ص 77). ولا تقتصر هذه الذهنيَّة على محض اهتبال (فرصة) قد تتهيأ للحركة، من خلال (مفاوضتها) للمجتمع، لـ (إقناعه)، في ظرف تاريخيّ مُواتٍ، بـ (تمكينها) منه (كله)، و(إخضاعه) لـ (سلطتها)، بل تتجاوز ذلك إلى جعل مهمَّة (تذويب) المجتمع بأسره، و(صهره) أجمعه في (ذاتها)، غاية (سلطويَّة) أعلى تتصوَّب نحوها بكليَّاتها، قصداً وعمداً، بعد أن تتجسِّد هي نفسها في ما يطلق عليه د. الترابي (الجماعة الهادية)، بحيث يكون (انبثاث) هذه الجماعة ".. في المجتمع بما يحيله (كله) إلى مثالها .. (ينبغي) أن (تسعى) الجماعة (للتمكن) في مجتمعها، تدرُّجاً، حتى تستنفد جدوى تميُّزها عنه بصفّ وصورة"، وبالنتيجة "تصبح (هي) المجتمع الجديد القائم بالدين" (أقواس التشديد من عندنا ـ المصدر ، 130).
    وبما أن المشروع مطروح في إطار سعي (الجَّماعة الهادية) لـ (التمكين السّياسي)، في مجتمع موصوف بأنه غارق، أصلاً، في (واقع مزر)، حسب تعبير الترابي، فإن وضوح التوجُّه نحو (إحالة) هذا المجتمع (كله)، طوعاً أو كرهاً، بالطبع، إلى (مرجعيَّة الجَّماعة)، أجهرُ من أن تعتمه غلالة الدَّعوة الناعمة لـ (استنفاد) الجَّماعة لجدوى (تميُّزها) عن هذا المجتمع؛ مثلما أن (حُجَّة) تأسيس المجتمع القائم بـ (الدّين)، في هذه الحالة، لا تبرح كونها محض غطاء، على نحو ما، لمشروع المجتمع المحكوم بـ (الدَّولة الدّينيَّة)؛ ولا يعنى كلاهما، في نهاية المطاف، سوى سعي (الجماعة) الحثيث لـ (فرض) نمط (تديُّنها) هي بـ (السّياسة) على المجتمع، أي، بلغة الدُّنيا، (فرض سُلطتها) عليه (كنخبة حاكمة)، بالضرورة، خاصة و".. قد توافر لها .. رصيد (موثوق به) من الفكر (المركز) الذي (يؤمن) عليه من (الضَّلال)، و .. توافرت فيها، أيضاً، عناصر (عضويَّة قويَّة) .. يُعوَّل عليها .. أن (تحمل) الجماهير بقدوتها وقوتها إلى (مستوى أعلى)، و .. استوت لها خبرة عميقة .. تمكنها من (الإحاطة) بقطاعات (الشعب) دون انحلال في روابط (الجَّماعة)، أو ارتباك في نسقها" (أقواس التشديد من عندنا ـ المصدر ، ص 125 ـ 126).
    (44)
    ولا ينفكُّ د. الترابي يتوسَّل إلى فكرته هذه بمنهج الاستدراكات (الواقعيَّة) على (المثال)، ولكن في سياق يعج بالمفارقات الضَّاجة، والتناقضات الصارخة، ونختار من صور ذلك ثلاثاً:
    أولاها: أن (التعدديَّة) لدى د. الترابي قيمة مدَّخرة للممارسة داخل (الجَّماعة الإسلاميَّة) وحدها، أو لحركتها في إطار (دولتها الدينيَّة) فحسب. فإذا حدث وأغرى (تراث الفتن)، على حدّ تعبيره ".. بمذهب يرفض التعدُّد .. ويسعى لاستئصاله (فإنه) يركب فتنة أكبر أو .. ينكر أصل ما فطر الله عليه البشر من تباين في الملة أو الجَّماعة أو الرأي. ولا ريب أن الجَّماعة .. بعد تجاربها قد عرفت التعدُّد وجوداً كما عرفت التوحُّد وجوباً، لكنها لم تبلغ بعد أن .. تطوّر تصوُّرات التعدُّد في سياق مجتمع إسلامي متمكن ذي سلطان سياسي متوحِّد" (المصدر، ص 115 ـ 116).

    وثانيتها: أن (الحريَّة) التي تقترن بـ (التعدُّد) هي، لدى د. الترابي، قضيَّة (ظرفيَّة)، ينظر إليها من زاوية مصلحة (حركته) وحدها. فعلى أيَّام دكتاتوريَّة النميري، التي صادرت حُريَّات وحقوق الشعب كله، أبرمت الحركة معها (صفقة) نالت بموجبها هامشاً معتبراً من (الحريَّة)، حيث ".. توخَّت رخصة تلك الحريَّة لتبنى (قاعدتها) و(قوَّتها) .. لأنها لم تكن ترجو (الإصلاح الإسلامي) إلا بتمكنها في السودان"، و ".. قدر من الحريَّة للأعضاء .. ضمانٌ لـ (تديُّن) أوسع وأوقع أثراً، ولـ (وحدة) قوامها الوجدان والسلطان معاً" (أقواس التشديد من عندنا ـ المصدر ، ص 34 ، 78).
    ولا بأس، لأجل تجسيم المفارقة والتناقض هنا، من أن نستدعى موقف المفكر الحركي الإسلاموي التونسي راشد الغنوشي من هذا (النوع) من (الحريَّة)، إذ يقول: ".. النضال من أجل الحريَّة هو من جوهر النضال من أجل الإسلام، وإذا اعتبرت الحركة الإسلاميَّة أن الحريَّة ليست قضيَّة جوهريَّة فذلك سقوط رهيب! والذي أخشاه أن تكون الحريَّة قضية (ظرفيَّة) بالنسبة لنا، نطالب بها عندما يكون (الظرف) غير مناسب لنا. وهنا يكون السقوط الرهيب. إننا نطالب بالحريَّة للإنسان أياً كان" (محاور إسلاميَّة، ط 1989م، بيت المعرفة، ص 143).
    وثالثتها: أن موقف د. الترابي من قضيَّة (الديموقراطيَّة)، التي تتوقف ممارستها على توفر شرطي (التعدُّديَّة) و(الحرّيَّة)، ظلَّ يتراءى دائماً، وكلما تناءت السُّلطة عن أن تتركز، بالمطلق، بين يديه، كما لو كان أكثر تقدُّماً ممَّا هو عليه لدى كثير من أئمَّة الإسلام السّياسي. فهو، على العكس، مثلاً، من أبي الأعلى المودودي، أعلن، على أيام وضعيَّته الثانويَّة في تحالفه مع النميري، عن رفضه للمفهوم التقليدي لـ (الإجماع)، من حيث هو إجماع (الصحابة) أو (علماء) الدّين، مؤكداً أنه (الرأي العام) لـ (جمهور المسلمين). ومن ثمَّ رأى أن "الحكومة، في الدَّولة الإسلاميَّة، يجب أن يقع اختيارها من قبل الشعب، وبناءً على الإرادة الحُرَّة لأغلبيَّة المسلمين" (قضايا التجديد في الفكر الإسلامي، الخرطوم 1982م، وأيضاً: قضايا الحرية والوحدة ، الخرطوم 1982م ـ ضمن د. عبد الوهاب الأفندي؛ الإسلام والدَّولة الحديثة، مرجع سابق، ص 101). غير أن د. الترابي نفسه سرعان ما يعود، وقد آل الأمر إليه أوائل تسعينات القرن المنصرم، ليحدّد، بذهنيَّة (الإقصاء) و(الإحلال)، طبيعة (السُّلطة) في (الدَّولة الإسلاميَّة)، محكماً عليها قبضة (الحركة) التي ينبغي ألا تكتفي، فحسب، بـ (التمكن) في (مجتمع) مثقل بـ (واقع الانحطاط)، و(العجز)، و(الحظ القليل) من المقاصد (الإيمانيَّة)، بل عليها أن تعمد إلى (صهر) هذا المجتمع كله (صهراً) في (ذاتها)، و(صبِّه) أجمعه (صباً) في قالبها، (فتبتلعه) بأسره (ابتلاعاً) داخلها، حتى لا يعود ثمَّة (مجتمع) أو (دولة) خارج (الحركة). وكفى بذلك مفارقة لأبجديات (الديموقراطيَّة)!
    (45)
    وما كان أغنى د. الترابي عن كل هذا التناقض لو لم تتعاور أداءه موجبات (التمكين)، ومقتضيات (الكسب) السلطاني، في وسط سياسي غير مُواتٍ، وبيئة شديدة الفرادة، تعدُّداً وتنوُّعاً، فلربَّما كان أسهم في رفد حركة الفكر والثقافة والسّياسة في بلادنا عموماً، وداخل الجَّماعة المسلمة على وجه الخصوص، بعوامل النصاعة والتفتح، فهو القائل، فى ساعة، ولا بُدَّ، من ساعات الصفاء الفقهوفكريّ النادرة، مستخدماً، بقصد أو بدونه، (قانون نفي النفي)، أحد أهمّ قوانين الدياليكتيك الماركسي: ".. إن بين العرف الاجتماعي والتجديد الدّيني شيئاً من الجدليَّة التاريخيَّة؛ يأتى التجديد بتقويض بعض الأعراف القديمة تدرجاً، إما لأنها صيغت من قيم ليست من (الدّين)، أصلاً، بسبب (الغفلة)، أو لأنها صور (لعلاقات) كانت تعبر تعبيراً وافياً عن (التديُّن) في (ظروف) سالفة، ولم تعُد كذلك في (سياق تاريخي) جديد. ثم (يُحيي) التجديد القيم الدّينيَّة (الأصيلة)، ويوحى (برؤى) جديدة في صور (التعبير) عنها في السياق الجديد، (فيقترح) سُنناً سلوكيَّة جديدة تجسّد (التديُّن) الاجتماعي، وتنشر روح (الدّين)، حيث تمضي بها تقاليد سارية، وذلك حتى تدور الدَّورة، ويأتي زمان (تجمُد) فيه أشكال السُّلوك المتقادمة، وتغدو التقاليد (عائقاً) لنشوء تعبير متجدّد عن (التديُّن) .." (أقواس التشديد من عندنا ـ د. الترابى؛ الحركة الاسلاميَّة ..، ص 171 ـ 172).
    ولئن كان د. الترابي قد صمت عن بيان المعياريَّة التي يمكن، بالإحالة إليها، التفريق بين ما هو (دين) وما هو (غفلة)، الأمر الذي ربَّما يحيط بشئ من الغموض، إن لم يكن التناقض، تصوُّره لمدى التأثير المتبادل بين (الواقع) و(المثال)، فإن سداداً كثيراً، مع ذلك، يصيب طلاقة استخدامه للمنهج (الجدلى)٭ في النظر إلى تبدُّل الأزمنة والأمكنة، وتغيُّر السياقات التاريخيَّة، كخلفيَّة للتحوُّلات التي تطرأ على أنساق (التديُّن) (المتحرِّك)، باعتبار ذلك، بداهة، انعكاس آخر للاقتصاد السياسي للمكان والزمان المحدَّدين.
    (46)
    مهما يكن من شئ، فإن الإقرار باستحالة استنساخ (المثال)، على خلفية الوعي بأثر تبدُّل الأزمان وحراك السياقات التاريخيَّة، لا يصحُّ، في ذات الوقت، أن يُتخذ تكأة للقطع مع ذلك (المثال)، وإدارة الظهر له نهائيَّاً. بهذا الاحتجاج الصارم يجابه د. عبد الوهاب الأفندى أطروحة د. الترابي، ويستفيض في ما يسمّيه (المعضلة الخلدونيَّة)، أو الإشكاليَّة التى أثارها عبد الرحمن بن خلدون (ت 808 هـ ـ 1406م)، بتناوله لعلاقة (الواقع) بـ (المثال) فى المجتمع الإسلامي، متبنيَّاً (الواقعيَّة) كحلّ يتمثل "في إخضاع المثال للواقع٭٭، والحقّ للقوَّة .. حين أعلن أن نموذج الخلافة الراشدة نموذج (وقتي) لا يصلح لعالمنا الذى يحكمه النقص والفساد" (د. عبد الوهاب الأفندي؛ الإسلام والدَّولة الحديثة، دار الحكمة بلندن، ص 5). ويتخذ الكاتب الإسلاموي موقفاً نقدياً من هذه الأطروحة الخلدونيَّة، واصفاً إيَّاها بأنها ".. لا تختلف كثيراً عن أطروحات مكيافيللى وهوبز التي مثلت أساس ولب الفكر السّياسي الحديث، وهى، في نفس الوقت، نقيض النظرة الإسلاميَّة الحقة التي تسعى إلى إخضاع (الواقع) لـ (المثال)، وليس العكس" (المصدر، ص 6). ويرمي الأفندي إلى إدارة (الواقع) بشروط المبادئ العامَّة لـ (المثال)، لا على طريقة (سرير بروكست) فى الأسطورة ٭٭٭!
    ويستفيض الكاتب في تناوله الناقد للتنصل الفكري عن (المثال) بمبرّرات (الواقع) المتخثر، فيعرض لـ (المقدمة) التى ضمَّنها ابن خلدون أطروحته المعروفة حول الأسباب (الطبيعيَّة)، أو (الاجتماعيَّة) بالمصطلح الحديث، والقائمة فى (عصبيَّة) التماسك العشائري، وما يقوم مقامها من ولاءات، باعتبارها الرباط الحافظ لتماسك الوحدات الاجتماعيَّة، والمشكل، من ثمَّ، لأساس السُّلطة السّياسيَّة، كما يضاهي هذا الاتجاه بـ (المكيافيلليَّة)، نسبة إلى المفكر الإيطالي نيكولو مكيافيللى (1496 ـ 1527م)، الذي شدَّد في كتابه (الأمير) على علو مكانة المنطق الخاص بالممارسة السّياسيَّة، وقوانينها الباطنيَّة، فوق أي اعتبارات أخلاقيَّة أو غيرها؛ وإلى ذلك (الهوبزيَّة)، نسبة إلى المفكر البريطاني تومـاس هـوبز (1588 ـ 1679م)، الذي أكَـد، أيضـاً، في كتابه (اللوثايان Leviathan ٭٭٭٭) على أن (الأمن) و(النظام) يفترضان، عمليَّاً، وجود قوَّة قاهرة يسلم لها الجميع بسلطان مطلق لا يتقـيَّد بغير مرجعيَّته الذاتيَّة، ومنطقه الخاص (المصـدر، ص 14 ـ 18 ـ 19).
    وبصرف النظر عن موقفنا من مضاهاة الكاتب، في السّياق، لنظريَّتي ابن خلدون وماركس بنظريَّتي مكيافيللي وهوبز، فإن ما يهمنا إبرازه هنا هو نقده هذا لمقابلة (المثال) بـ (الواقع) مقابلة تهدره، بالكلية، فتسقطه من حسابات الممارسة السّياسيَّة!
    (47)
    غير أن المدهش، حقاً، هو أن رخصة التحلل من (المثال) تكتمل، في أطروحة د. الترابي، كما قد رأينا، باسم (المثال) نفسه، فينفسح المجال واسعاً لشتى صنوف (الإسلام المؤجل) لحساب (واقعيَّة) تتأسس على مبرّرات العجز، وانحطاط (الواقع)، وبؤس الإيمان، وليس على تحدّيَّات التطوُّر، ومستجدَّات (الواقع) الشَّاخصة في أفق الفكر الإسلامي المعاصر، والذى لم ولن يكون شيئاً مذكوراً إذا ما انبتَّ عن (مثاله الأعلى)، لينتهى أمره برمته إلى محض دعوة جهيرة لتأسيس (دولة دينيَّة) غريبة عن الإسلام، عن مبادئه، ومثله، ومنظومة قيمه، ومقاصده الكلية؛ دعوة تستبدل تحقير الإنسان بتكريمه، ومصادرة العقل بتوقيره، وتحلُّ الظلم محلَّ العدل، والقهر محلَّ الحريَّة، والقمع محلَّ الحوار.
    فإذا كان الاستبداد السّياسي، تحت غطاء (السُّلطة الدينيَّة) أو (الحكم بالحقّ الإلهي)، قد شاع، بعد انقلاب الخلافة الرَّاشدة إلى ملك عضود، في أغلب فترات الدَّولة الإسلاميَّة؛ وإذا كانت حلقات المأساة ما تنفكُّ تتصل إلى يوم الناس هذا، يفاقم منها (واقع) الجمود الذى حاق بـ (العقل) المسلم لما يربو على الألف عام؛ فإن شيئاً من ذلك لا يصحُّ أن ينهض مبرّراً للابتعاد عن (المثال) واستعادة النماذج السيئة.
    (48)
    يرتب د. الترابي على استحالات (المثال)، اليوم، في (واقع) المسلمين المزري، موقفين متعارضين تماماً: فعلى حين يحضُّ حركته على نسبة (نظامها السّياسي) إلى هذا (الواقع)، لا إلى (المثال)، فإنه يستمسك، في ذات الوقت، بما يسميه (الطبيعة الدينيَّة) لهذا النظام السّياسي، رغم كون (الطبيعة الدينيَّة) أدنى لأن تتجلى (كمثال) بالأساس! وبالتالي ترتبك أطروحته ارتباكاً شديداً من وجهين:
    فمن الوجه الأول: لا يعود مفهوماً كيف يتخذ (طابعاً دينياً) مثل هذا (النظام السّياسي) المؤسَّس على (التحلل) من (مثال) دولة الراشدين، والمنتسب إلى (الواقع) المزري، المثقل بـ (العجز) و(قلة الإيمان)! بل لا يعود مفهوماً كيف يمكن أن يصبح مثل هذا النظام (هادياً) للمسلمين في حركة حياتهم ".. من حيث يقومون اليوم .. ليسلكوا الطريق بإذن الله إلى كمالات الإسلام!" (د. الترابي؛ خواطر في الفقه السّياسي .. ، ص 6).
    أما من الوجه الآخر: فإنه بمستطاع أعجل نظر أن يلمح أن د. الترابي يطابق بين مطلوبات (التوحيد) في (الإيمان) وفي (النظام السّياسي)، بقوله: إن الإسلام ".. دين توحيد يجعل الحياة كلها، محياها، ومماتها، ونسكها، وشعائرها، وقوانينها، وأسس بيعها وشرائها، وسياستها .. وأخلاقها، وأسس معاملاتها، معاشاً وسياسة، كلها عبادة .. ولكن الله سبحانه وتعالى يبتلى الناس عبرها (فيشركون) بعض (إشراك)، أو كلَّ (إشراك) .. في مجال (السّياسة) كما .. في كلّ مجالات الحياة .. في العِلم وفي الاقتصاد " (أقواس التشديد من عندنا ـ المصدر نفسه).
    وهنا ينطرح السؤال: إذا كان (الشّرك) بالله سبحانه وتعالى يعنى، ببساطة، أن يُعبَدَ معه غيره: "لقد كفر الذين قالوا إن الله هو المسيح ابن مريم وقال المسيح يا بنى إسرائيل أعبدوا الله ربى وربكم إنه من يشرك بالله فقد حرَّم الله عليه الجَّنة ومأواه النار وما للظالمين من أنصار" (72 ؛ المائدة)، أي من يجعل معه "فى العبادة غيره" (الجلالين)، أو "يعبد معه غيره" (ابن كثير)، أو "يعتقد معه موجداً" (القرطبي)؛ فما هو المعنى الذي أراده د. الترابي بموضوعته عن (الشّرك في السّياسة)، في حين أن هذه (السّياسة)، كما قد رأينا، هي من (الفروع) التي تحتمل الاختلاف بمعايير (الصواب والخطأ)، وليست من (الأصول) التي تستتبع التوحيد والتوحُّد: الألوهيَّة، والنبوَّة، واليوم الآخر، والتي تستتبع (الإيمان والكفر)، "فالخطأ فى .. الإمامة .. لا يوجب شئ منه التكفير" (أبو حامد الغزالي؛ فيصل التفرقة ..، ص 15"، لكونها ".. ليست من (أصول) الاعتقاد" (الشَّهرستاني؛ نهاية الإقدام، ص 478)، "بل هي من (الفروع) المتعلقة بأفعال المكلفين" (الأيجى والجرجانى؛ شرح المواقف، ص 261)، "فلا هي من أركان الإسلام، ولا من أركان الإيمان، ولا من أركان الإحسان" (ابن تيمية؛ منهاج السنة، ص 70)، إنما هى "سلطة بشريَّة يقيمها الناس رعاية لمصالحهم العامَّة" (ابن خلدون؛ المقدمة، ص 168)؟!
    ولما كان من المستبعد الحصول على إجابة شافية تفض مغاليق هذا التناقض، فإن الاستنتاج المنطقي الوحيد، للأسف، والذي يمكن أن ترسو على ساحله كلُّ هذه الأشرعة المملوءة برياح الاستفهام المتعجّب، هو احتياج (حركة الترابي) المُلِح لتأسيس (دولتها/ نظامها السّياسي) على النمط الثيوقراطي الاستبدادي الذي يعمد إلى نفى (الآخر) نفياً عدميَّاً، ثم لا يكون ملزماً بالتحاكم، فى ذلك، لأيَّة مرجعيَّة أخرى سوى المنطق (السُّلطاني) الخاص، وقانونه الباطني، بحكم طبيعة المشروع نفسه القائم فى بنية (الإقصاء والإحلال)، والمتجه، أجمعه، نحو نفي المجتمع بأسره، عن طريق اختزاله إلى صورة (الحركة) التي ينبغي أن يتوفر لها من عوامل (التمكين) ما يؤهلها لـ (الإحاطة) بقطاعات الشعب، بحيث ".. تصبح هي المجتمع الجديد القائم بالدّين" (د. الترابى؛ الحركة الإسلاميَّة في السودان ..، ص 125 ـ 126 ـ 130). وغير خافٍ، بالطبع، أن المقصود بـ (الدّين)، هنا، هو نمط (التديُّن) الطليق، المتحرر من سلطة (المثال)، والذي تعتمده (الحركة) والقائمون بأمر (دولتها/نظامها السّياسي)، ليس لفرضه، فحسب، على (المجتمع الجديد)، بل لامتصاص (المجتمع) و(الدولة) بكاملهما، وقولبتهما في صورة هذه (الحركة)، الأمر الذي يضعها، بلا شكّ، في حالة نزاع مستمر مع (المجتمع) و(الدَّولة)، فتستنفرهما، بالضرورة، لمصادمتها، غلباها أو غلبتهما!
    وربما أعانتنا على استيعاب هذه الصورة شهادة العميد طيار (م) فيصل مدني مختار، عضو مجلس قيادة إنقلاب (الإنقاذ)، وأحد الذين (مكنوا)، بقوَّة السّلاح، لسلطة (الحركة) في سنواتها الأولى، حيث يقول عن الفترة من 30 يونيو 1989م إلى مايو 1991م: "في هذه الفترة برزت بشكل واضح هيمنة (التنظيم) على (مقاليد الأمور)، وكانت (الدَّولة) .. مهمشة تماماً .. وقد ذهبت للدكتور الترابي في بيته بالمنشيَّة وقلت له: إن هذه الإزدواجيَّة سوف يأتي يوم إما أن (تبلع) الدَّولة التنظيم، أو أن (يبلع) التنظيم الدَّولة، أو أن يقع بينهما أمر لا يعلم منتهاه إلا الله" (أقواس التشديد من عندنا ، من حوار أجراه معه ضياء الدين بلال ، صحيفة "الرأى العام" ، 1/7/2000م).
    (49)
    إن النزوع لإحلال (طلاقات التديُّن) محلَّ (ثوابت الدّين)، توسُّلاً لإنجاز (الإحاطة) بـ (المجتمع)، وتذويبه، بالكامل، في جسم وعقل (الحركة) و(سلطانها) المتخفف من قيود (المثال)، يُجلى، ولا بُدَّ، نموذجاً حيَّاً لأطروحة الكواكبي التي سبق أن عرضنا لها حول احتياج (الاستبداد) لتدعيم (سلطانه) بمماهاته، لا بمبادئ (الدّين)، وقيمه، ومقاصده الكليَّة، وإنما، فقط، بقدرته الاستثنائية على التأثير في نفوس البشر، حتى يتيسَّر استرهابهم لحساب هذا (الاستبداد)، بحيث ".. يعظمون الجبابرة تعظيمهم لله" (عبد الرحمن الكواكبي؛ طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد، ص 36 ـ37).
    الدولة (الدينيَّة)، إذن، وليست (الإسلاميَّة) من زاوية الهويَّة الحضاريَّة التاريخيَّة، والفارق بينهما جلي، هي المطلب الرئيس ضمن شعار (التديُّن بالسّياسة)، وفق غالب الصورة التي يجرى طرحه بها، من حيث هو اختزال (المثال) إلى محض (طاقاته التأثيريَّة)، لا أكثر ولا أقل، واحتطاب (الواقع) بما يتيح من سوح التبحبُح فى أكناف (مقاصده السلطانيَّة) دون قيد أو شرط!
    لذا، فإن أحوج ما يحتاجه أيُّ مشروع نهضوي في بلادنا، بالثقل الإسلامي التاريخي فيها، هو التخلص من ذهنية (الدَّولة الدينيَّة) التي جابهتها البشريَّة بمحض الفطرة السليمة، بينما لا نزال نرزح تحت سنابك استلابها، رغم أننا لا نكفُّ عن التباهي بأن لدينا ما هو أرفع من محض الفطرة السليمة: الرسالة الخاتمة التي تعلمنا أن ما آتانا الرسول (ص) فإليه، أما أمور (دنيانا) فنحن أدرى بها، إشارة إلى الحديث الشريف الذي يكاد د. الترابي يتحاشاه في كل إسهاماته الفكريَّة!

    الإشارات:

    ٭ في حديثنا في ندوة (الأخوان المسلمين)، بقاعة الشارقة، مساء الاثنين 5/11/2001م، حول (تداعيات أحداث 11/9 على الساحة السودانيَّة)، أشرنا، عرضاً، إلى استخدام د. الترابي، أحياناً، لمنهج الدياليكتيك الماركسي، فقاطعنا د. الحبر نور الدائم، أحد أبرز قادة (الأخوان) المناوئين لتيار د. الترابي، معلقاً بتفكُّه: "دي من مصايبو"! ثمَّ استدرك قائلاً: "دي من مصايبكم يا كمال" .. فانفجرت القاعة بالضحك! وعندما رددنا عليه بأن الإسلام يحضُّ على أخذ الحكمة من أي طريق، كونها "ضالة المؤمن"، بقول الرسول (ص)، سارع للتأمين على ذلك، قائلاً بالحرف: "نعم .. نعم ، ليس ثمة ما يمنعني دينيَّاً من أخذ الحكمة من ماركس أو لينين أو ستالين"!

    ٭٭ لا يقلل هذا، موضوعيَّاً، من قيمة الإسهام العلمي الخلدوني في الكشف الباكر عن بعض الأشراط الباطنية للتطوُّر الاجتماعي، كنشوء (الدولة) على (العصبيَّة) باعتبارها أداة (ملك) ضروريَّة للعمران.
                  

11-21-2009, 06:44 AM

الهادي هباني
<aالهادي هباني
تاريخ التسجيل: 06-17-2008
مجموع المشاركات: 2807

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: عَتُودُ الدَّوْلَة ،،، ثَوابِتُ الدِّينِ أَم مُتَحَرِّكاتُ التَّدَيُّن؟! بقلم كمال الجزولي (Re: الهادي هباني)

    الحلقة الثامنة

    "أحاطت بالمجتمع .. وتأهلت لأن توحّده كله في إطارها، وتتمكن فيه بنمطها من التديُّن الأتمّ، والولاء الأرشد، في سبيل استكمال التحوُّل الاجتماعي الإسلامي الشامل .. وأخذ توجُّهها يتزكى .. نحو صفّ مطهَّر في كيفه، مقدَّر في كمِّه"! الترابي عن الحركة الإسلاميَّة قبل المفاصلة
    ـ "المؤتمر الوطني مجهول الهويَّة .. مصنوع .. اختلطت فيه رابطة الدّين برابطة السلطان .. ومتوسط التديُّن والتربية فيه ضعيف .. ومحاولة إبعادي عن السُّلطة كانت محاولة لإبعاد كلمة الإسلام وأصل الدّين"! الترابي بعد المفاصلة
    (50)
    سواء صحَّت تهمة (الدَّولة الدّينيَّة) في حق (المؤسَّسة) أم أعضائها (أولي الأمر)، فإن المرء قد لا يحتاج، لأجل التدليل على مفارقة مطلبها نفسه لما يُفترض أن يشكل (مثالها)، دَعْ مصادمته لـ (أصول) العرفان الديني، إلى أكثر من النظر في بعض تطبيقات (الحركة) على نموذج (دولتها) في السودان، ومن ذلك:
    (1) أن د. الترابي كان قد أثنى، فى كتابه (الحركة الإسلاميَّة في السودان: التطوُّر، الكسب، المنهج)، الصادر في خواتيم ثمانينات القرن المنصرم ومطالع تسعيناته، ثناءً عظيماً على هذه (الحركة) قائلاً إنها "أحاطت .. بالمجتمع .. وتأهلت لأن توحّده كله في إطارها، وتتمكن فيه بنمطها من التديُّن الأتمّ، والولاء الأرشد، في سبيل استكمال التحوُّل الاجتماعي الإسلامي الشامل" (ص 44). وكال المدح لـ (الجبهة الإسلاميَّة القوميَّة) التي أخذ توجُّهها ".. يتزكى .. نحو صفّ مطهَّر في كيفه، مقدَّر في كمِّه" (ص 50 ـ 51). ولأن ".. دواعي التحوُّل نحو الشَّعبيَّة كانت ملحَّة، وثقة الأخوان كانت مطمئنة، وتوكلهم كان كبيراً، (فقد) أحدثوا التحوُّل (فجأة)، ورتبوا منهاجاً للانتقال يحفظ خير القديم في إتمام الوعي بالتربية الفرديَّة، وإحكام التنظيم والحركة، ويجمع إليه خير الجديد من تعبئة وسائل التربية الإجماليَّة، وقوى الجماهير المؤمنة في سبيل بسط (التديُّن) في المجتمع، وتمكينه في (الدولة) .. توازنت الحركة فألفت بين (الصفوة) و(العامة) .. (و) ألقت أساساً (لوحدة) المجتمع المسلم" (أقواس التشديد من عندنا ـ ص 51 ـ 52). كما أطنب في تقريظ (الجَّماعة) التي أعانها ".. على تجاوز (محاذير) الانفجار الشَّعبي .. أن قد توافر لها .. رصيد موثوق من الفكر المركز الذي يؤمن عليه من الضلال والتبدُّد .. و .. عضويَّة قويَّة صاغتها وأنجبتها التجارب والمجاهدات يُعوَّل عليها إذا التحمت بالجماهير ألا تتلاشى أو تتسيَّب أو تتدهور بل أن (تحمل) الجماهير (بقدوتها) و(قوَّتها) إلى مستوى أعلى، و .. استوت لها خبرة عميقة في (فنون التنظيم) يُرجى أن تمكنها من (الإحاطة) بقطاعات الشعب دون انحلال في روابط الجَّماعة، أو ارتباك في نسقها المحكم، أو تراخ في فعاليتها العالية" (أقواس التشديد من عندنا ـ ص 125 ـ 126).
    (2) مع كل ذلك، عاد د. الترابي، أواخر تسعينات القرن المنصرم، وقد انقلبت عليه (دولة) حركته (الدينيَّة) التي لطالما مدحها، ونظـَّر لها، وسلخ عمراً بأكمله في تأسيسها، ووصفها بأنها مبرَّأة من أمراض (التلاشي) و(الانحلال)، عند الالتحام بالجماهير، بل هي مؤهَّلة، بـ (قوَّة القدوة)، لـ (حَمْل) هذه الجماهير إلى أعلى، فشنَّ عليها، هذه المرَّة، أعنف هجومه، وجام غضبه، بقوله عنها، في محاضرته الشهيرة بجامعة القرآن الكريم مساء 9/2/2000م، إنها: "تركت الجماهير تماماً، وصارت حركة إسلاميَّة بغير قاعدة"، وإن حزبها، المؤتمر الوطني، "مجهول الهويَّة .. مصنوع .. (اختلطت) فيه (رابطة الدّين) بـ (رابطة السلطان) .. ومتوسط (التديُّن) و(التربية) فيه (ضعيف) .. والولاء (ضئيل) .. و(الخلق) لا يقتضى (الالتزام) لـ (الجَّماعة) .. ولا (مناصحة) فيه أو (محاسبة) .. و(ضعفت) فيه أمانة (السر) وأمانة (المال) .. وصار هناك (صمت) و(تجاوز) عن (التجاوز) .. و(غابت) عنه (الشُّورى) .. حتى (نسيناها) .. والقيادات العليا فيه لا تأبه لـ (عهد البيعة)، لأنها جاءت من جماعة لا تخضع لـ (عهد) بل لـ (قائد) و(زعيم) .."! وإن (الحركة) كانت تعدُّ لإقامة (دولة إسلاميَّة) في السودان "ولكن الخطة (ماتت) .."! ويحمِّل الاستراتيجيَّة المعتمدة المسئوليَّة عن كل ذلك، حيث "أن طاقات الدّولة اتجهت إلى (القوَّة) بدلاً عن (الدَّعوة) .. (و) ألهت الناس بـ (السّياسة) بدلاً عن (الثقافة) .."! ثمَّ يعرج بنقده اللاذع للاقتصاد مؤكداً "أنه (خرج) من (الدّين) .. وأن بعضاً ممَّا جرَّه ذلك على الاقتصاد هو (انحطاط أخلاق) بعض الذين (دخلوا السوق) .. وأن (محاربة الربا) ما زالت (شعاراً) بعد" (أقواس التشديد من عندنا ـ الرأى العام، 11/2/2000م).
    (51)
    ولمَّا كان زعيم حركة الإسلام السّياسي في السودان ما يزال يستعصم بذهنيَّة (الدَّولة الدّينيَّة)، فإن مردَّ سياسة (دولته) لا بد أن يكون لـ (الدّين)، لا إلى (عقول) البشر. ويتبدى ذلك، بخاصة، في قوله في ذات المحاضرة: ".. علينا أن (نصوِّب) على (الخلاف)، وإن ذلك سيقود لتجربةٍ إذا ما تجاوزناها سنثبت (للعالم أجمع) .. أن الإسلام (يستطيع) أن (يقود) أهله إلى (تجاوز) الفتن السّياسيَّة" (أقواس التشديد من عندنا ـ الصحافة، 11/2/2001م).
    فإذا ما تابعنا منطق د. الترابي إلى نهاياته القصوى، فإن سؤالاً مشروعاً سيبرز، حينئذ، وبداهة، كالآتي: ها هم (بشر الحركة) لم يتجاوزوا، بعد، خلافاتهم، فهل يعنى ذلك، لدى د. الترابي، أن الإسلام (لا يستطيع) أن (يقود أهله) إلى (تجاوز) الفتن السّياسيَّة؟!
    ويقول في ذات السياق: "في حال تجاوزنا للأزمة قد (يعود) بعضنا و(يتوب)، ولكن البعض قد (يضيع) ويعود كما بدأ" (أقواس التشديد من عندنا ـ المصدر نفسه). ورغم أنه لم يفصح عمَّن (سيعود)، وإلى أين (سيعود)، وعمَّن (سيتوب)، وإلى من (سيتوب)، في قضايا خلاف (بشري) حول أمور (سياسيَّة/دنيويَّة)، إلا أننا، من واقع عُشرتنا مع استخدامات حركة الإسلام السّياسي في بلادنا، وأدبيَّات د. الترابى تحديداً، لهذه المصطلحات (الدينيَّة)، نستطيع أن نتكهَّن بهويَّة (التائبين)، ومضمون (توبتهم)، وإلى من (سيتوبون)! لقد طابق الرجل بين (ذاته) وبين (كلمة الإسلام) و(أصل الدين) حين اعتبر استهدافه بترتيبات (مذكرة العشرة ـ ديسمبر 1998م)، و(قرارات رمضان ـ ديسمبر 1999م)، والتي أقصته من السُّلطة، (خروجاً) على (الدين)، وذلك في قوله: "إن محاولة إبعادي عن السُّلطة كانت محاولة لإبعاد كلمة الإسلام وأصل الدّين"! (الشارع السّياسي، 13/2/2000م)؛ أو كما وصفها د. على الحاج، أحد أقرب معاوني د. الترابي، بأنها "عمل دقيق .. يمثل تمريراً لفصل الدّين عن الدَّولة"! (الصحافة، 6/1/2000م).
    وسواء صحَّ ما نسب إلى نائب رئيس الجمهوريَّة من تصريح، خلال مخاطبته لطلاب جامعة الخرطوم ، مساء 15/2/2000م، حول آفاق مفاوضات السَّلام مع (حركة قرنق)، بأن الحكومة "لا تمانع في الحوار حول مسألة (فصل الدّين عن الدَّولة) إذا كانت هذه القضية تهدد وحدة السودان"، أم صحَّ بيان رئاسة الجمهورية النافي، بتاريخ 19/2/2000م، لورود التصريح بهذا المعنى، فإن هبَّة د. الترابي وبعض معاونيه لمناوئة ذلك التصريح، وذيول وعقابيل تلك الحادثة، تكتسي دلالة خاصة، هنا، حيث اعتبر السيد يسين عمر الإمام، أحد المقرَّبين للترابي، وعضو هيئة قيادة حزب المؤتمر الوطني، وأمينه بولاية الخرطوم، آنذاك، أن مسألة فصل الدين عن الدولة "مستحيلة، وقد لا يستطيع أحد أن يقدم على قرار من هذا القبيل" (الصحافة، 18/2/2000م).
    بعد ذلك بيومين أكد د. الترابي نفسه للصحفيين، بمقر المؤتمر الوطني الذي كان ما يزال يشغل منصب أمينه العام، تعليقاً على التصريح المنسوب لنائب الرئيس: "إن ما قيل عن فصل الدين عن الدولة .. جاء فى سياق المفاوضات مع حركة التمرد". وأضاف قائلاً إن هذه الصيغة وردت و"وقعت فى بعض الأوراق، لكن الصحفيين لا يطلعون على الأوراق التي تذهب إلى المفاوضات"، معتبراً أيَّ حديث في هذا الاتجاه "حديثاً ليس فيه عقل أصلاً"! وعلى حين لم ينس التأكيد على موضوعته القديمة بأن "النظام الأساسي للمؤتمر الوطني موحَّد، والإسلام دين توحيد"، أضاف، واصفاً الحديث المنسوب لنائب الرئيس بقوله: "هذا كفر ببعض الكتاب وإيمان ببعضه" (الصحافة، 21/2/2000م).
    وها نحن لا نروم اهتبال فرصة قد تكون مواتية، إنْ كنا نروم سجالاً دائرياً، لا حواراً بناءً، للتعقيب المتثائب الكسول بأن ما (كشف) عنه د. الترابي قد وقع، حسب ما يُفهم من حديثه نفسه، أيَّام كان يتربَّع في قمة السُّلطة، دون أن يجأر، وقتها، بشكوى، أو تندَّ عنه نأمة احتجاج!
    (52)
    مع ذلك فإننا لا نملك، بإزاء سلاح (التكفير) الذي شهره د. الترابي، بغتة، في وجه نائبه السابق، سوى أن نعود للتأكد من تناقض ذلك الموقف مع رأى قديم سبق أن أفضى به، هو نفسه، للكاتب والصحفي التونسي محمد الهاشمي الحامدي، ردَّاً على سؤال الأخير له حول (التكفير والتكفيريين)، قائلاً إنها "ظاهرة تاريخيَّة في الدّين .. هذه الأمراض تصيب المسلمين كما أصابت من قبلهم أهل الكتاب .. بذلك أنا لا أبالى كثيراً بأمثال هؤلاء، وأعرف أنهم إما بقيَّة من أهل القديم حفظوا الدين محفوظات وتقاليد ميتة، وهؤلاء يتلاشون تقليديَّاً، ولا أريد أن أصوّب إليهم نظراً هاماً، أو آخرون يريدون أن يحموا مصالحهم وأهواءهم بأن يسلطوا من داخل جبهة التديُّن من يسكت هذا التديُّن الجديد الذي سيحول نظام الحكم ونظام الاقتصاد ونظام الثقافة والعلم تحويلاً يؤذى أهواءهم ومصالحهم، أو إذا كان من وراء هؤلاء آخرون في الغرب يرون أنه يمكن أن تثير حفيظة المسلم على المسلم لتضرب واحداً بأخيه .. لكن ما أحسب أن الذين أشرت إليهم .. هم الآن قوة ذات وزن تستحق أن نفرط في طاقاتنا المحدودة التي نسخرها لحمل الدّين و .. الدُّنيا كلها، ونصرفها للعناية بهؤلاء وترهاتهم. دعهم يتحدثوا حديثهم!" (محمد الهاشمي الحامدي؛ حسن الترابي: آراؤه واجتهاداته في الفكر والسياسة، ط 1، دار المستقلة للنشر، لندن 1996م، ص 144 ـ 145).
    ولا نحسبنا مستطيعين إضافة حرف واحد لهذا الإفصاح البليغ!
    (53)
    على أنه لم يكد ينقضي عام واحد على (جردة) د. الترابي وتيَّاره ضد التصريح المنسوب إلى نائب الرئيس باستعداد نظامه للتعاطي مع مطلب (فصل الدّين عن الدَّولة)، حتى أبرم حزب الترابي نفسه، في جنيف، مذكرة تفاهمه الشهيرة مع الحركة الشعبيَّة بتاريخ 19/2/2001م، والتي أدانت النهج الانقلابي الشُّمولي، والمشاريع الأحاديَّة للحكم، والعدوان على الحريَّات، وانتهاكات حقوق الإنسان، وعدم الاعتراف بواقع التعدُّد والتنوُّع الدّيني والسّياسي والثقافي في السودان، والتنكر لحقّ تقرير المصير كحقّ إنساني مشروع، ونادت بتجاوز أجواء التفاوض السَّابقة مع النظام، ومقاومته، سلميَّاً، حتى يتخلى عن نهجه الشُّمولي، كما نادت بضرورة إلغاء القوانين المقيّدة للحريَّات (قوانين الترابي نفسه)، وعدم سَنّ أخرى جديدة، ورفع حالة الطوارئ، وإطلاق سراح المعتقلين، والتوصُّل لاتفاق سلام عادل، ووحدة طوعيَّة ، وحلّ وطنيّ للأزمة السودانية يقرُّه الشَّعب وقواه السّياسيَّة كافة، وكذا بناء ديموقراطيَّة حقيقيَّة تصون الحريَّات والحقوق، وتضمن التداول السّلمي للسُّلطة في إطار حكم لا مركزي، وطالبت، إلى ذلك، بالتراضي على عقد اجتماعي جديد لا يسمح بالتمييز بين (المواطنين) على أساس الدّين أو الثقافة أو العرق أو النوع أو الإقليم، وباعتبار المحاسبة على القمع والجرائم التي ارتكبت أمراً مشروعاً وضروريَّاً لمستقبل الحياة العامة، وبانتهاج سياسة خارجيَّة تقوم على مبادئ حسن الجُّوار، والتعاون الإقليمي والدولي، وعدم التدخُّل في شئون الآخرين.
    (54)
    لئن لم يكن صدور مثل هذا الطرح، وقتها، من (حركة قرنق)، اتفق الناس أم اختلفوا معها، باعثاً على أدنى دهشة، أو حيرة، أو استغراب، فإن (تيَّار الترابي) فجَّر، على العكس من ذلك تماماً، كلَّ بواعث الدَّهشة والحيرة والاستغراب معاً، حين عَمَدَ، بإبرامه هذه المذكرة، للإقرار، صراحة، وعلى خلاف كلّ نهجه السابق، بأن (السّياسة) شأن دنيوىٌّ محض، تدور رحاه في الأرض، لا في السماء، فأعملَ بذلك ممحاة شديدة المضاء، ليس فقط على تاريخ طويل من أدائه السّياسي، بل، وأيضاً، على مجمل طروحاته الفقهوفكريَّة المعلنة، سطراً سطراً، بل كلمة كلمة، وحرفاً حرفاً.
    ومع ذلك فليست المشكلة في شئ من كلّ هذا، وإنما في كونه قد أقدم على ذلك كله دون أن يتكبَّد تقديم تفسير مقنع في إطار شكل مناسب من أشكال (النقد الذاتي) المطلوب بإلحاح، والذي لا مناص، في مثل هذه الحالات، من تقديمه، باستقامة، أمام الشعب بأسره، حيث لا سبيل، في جبهة الفقه والفكر بالأخص، لفهم أو قبول مثل هذه التقلبات الهوائيَّة somersaults بلا شروحات مقنعة، حتى لو أمكن (ابتلاع) ذلك أحياناً، وإنْ على مضض، فى جبهة السّياسة، وحيث لا تورث أية محاولة لتفادى هذا (النقد الذاتي)، أو التغافل عنه، سوى الحيرة، بل الإرباك، بل الضرر البليغ، بالضرورة، وبكل المعايير، وهو مآل لا يعقل أن يكون مرغوباً فيه بالنسبة لأيَّة حركة سياسيَّة.
    (55)
    رغم أن المذكرة لم تتناول، صراحة، علاقة الدين بالدولة، حسبما هي مطروحة، مصطلحاً وشعاراً، في فكر د. الترابي، إلا أن ثمَّة أمرين يضيئان، مع ذلك، حقيقة اشتمالها على هذه المسألة ضمناً، وإن كان ذلك في اتجاه مغاير تماماً لأطروحة د. الترابي الفقهيَّة تحت عنوان (التديُّن بالسّياسة)، أو (توبة الدَّولة إلى الدّين)، والتي تشكل الركيزة الأساسيَّة ضمن أجندة حركة الإسلام السّياسي الحديثة في السودان، والمتمثلة في طلبها الحثيث، في كلّ الأحوال، للسلطة أو (التمكين)، بصرف النظر عن كون هذه الحركة متحدة متضامَّة، أم متفرّقة متشاكسة:
    الأمر الأول: أن المذكرة نَحَت، بفكرها ولغتها ونبرتها ومزاجها العام، منحى يقطع، دون مواربة، مع صمديَّات طرح (الدَّولة الدّينيَّة) القديم، المفارق للإسلام نصاً ومثالاً، والقائم على المطابقة، بلا سند أو طائل ، بين (التوحيد) كمفهوم (ديني) وبينه كمفهوم (سياسي). ومع أنه ما من شكّ، البتة، في أن هذا التحوُّل يعتبر، من الناحية الموضوعيَّة، أمراً حميداً، إلا أن المشكلة تكمن في أن حركة الإسلام السّياسي، بقيادة د. الترابي، ما تكاد تبدى نزوعاً، في بعض أحوالها، للفكاك من أسر تلك الصَّمديَّات، والتهيُّؤ لنفض يدها عن عصيدة صمغها اللبيك، حتى تعود لتنكص، في أحوال أخرى، على أعقابها، مسارعة للتوحُّل في ذات المأزق مجدداً، وبلا هوادة، المرَّة تلو المرَّة. وكم في طروحات د. الترابي الفقهوفكريَّة من نماذج تكاد تلامس أفق الحقّ، بل تكاد تصيب كبده، حتى ليبدو ألحن بحجته من كثير من خصومه ونقاده، لولا تغيُّر المواقف بلا نقد ذاتي، وتبدُّل الأقوال بلا تفسير مقنع، وشبهة طلب (التمكين) من أي سبيل، كمنهج يجرح التجرُّد. وعلى كلّ فإن السؤال الذي ما يلبث أن ينطرح، هنا، بإلحاح، هو: ما تراه، على وجه اليقين، الشئ الذي ما تنفكُّ تطاله يد التغيير، المرَّة تلو المرَّة، بين كل حال وحال: (المطلق) أم (النسبى)؟! (النصُّ) أم (الفقه)؟! (ثوابت الدّين) أم (متحرِّكات التديُّن)؟!
    الأمر الثانى: أن حقيقة تأسيس معادلة (الحقّ) و(الواجب) على مبدأ (المواطنة)، لا (الدّين)، تكفى بمجرَّدها للإشارة القويَّة، إن لم يكن للدَّلالة الحاسمة، إلى تخلى تيار د. الترابي، في هذه المذكرة على الأقل، عن قطعيَّات فقه (الدَّولة الدّينيَّة) القديم الذي يلتبس فيه (الدّين) بـ (الدُّنيا)، و(الخطأ) بـ (الكفر)، و(الاختلاف السياسي) بـ (الخروج عن الملة). وحتى نحكم سدَّ أيّ مسرب قد تنفذ منه، فى هذا الشأن، ولو أوهى صنوف المكابرات الممجوجة، والمغالطات العقيمة، نسارع للاستشهاد بإفصاحات د. الترابي نفسه الذي لا نشكُّ، لحظة، في أنه إنما يعني تماماً ما يقول، والذي لم يترك أصلاً، ومنذ الوهلة الأولى، أيَّ لسان لمكابر أو لمغالط في عدم اشتمال الوثيقة على نص مباشر صريح حول الموقف من الشعارين المتقاطعين: (وصل الدّين بالدَّولة)، من جهة، و(فصل الدّين عن الدَّولة) من الجّهة الأخرى. فالرَّجل ما لبث أن أعلن بنفسه، صراحة، وبكلمات لا تحتمل اللبس، من خلال مؤتمر صحفي سارع إلى عقده شخصياً نهار اليوم التالي لتوقيع المذكرة، عن أنه "ليس هنالك (خلاف) بيننا وبين الحركة الشعبيَّة حول (علاقة الدّين والدَّولة) .. الاتفاق سيكون (بالتراضي) على (ترك) الأمر (لخيار) الأغلبيَّة .. وللمذكرة ما وراءها" (الصحافة، 21/2/2001م). فما الذى، تراه، من المرجَّح أن يكون هو (ما وراء) التطابق المفاجئ بين الطرفين حول (علاقة الدّين بالدَّولة) سوى تخلى حركة الإسلام السّياسي، بقيادة د. الترابي، عن (فرض) مطلبها القديم الخاطئ بـ (وصل الدّين بالدّولة)، باعتبار ذلك واجباً دينيَّاً، وإبداء استعدادها التام للانضمام إلى الشعار المناوئ: (فصل الدّين عن الدَّولة)، في ما إذا قرَّرت ذلك الأغلبيَّة؟! أم، يا ترى، يتوجَّب علينا فهم أن (حركة قرنق) هي التي تخلت، في تلك المذكرة، عن مطلب (الفصل)، وفى الناس فطانة؟!
    (56)
    قد يقول قائل إن نشدان (الاستقواء) بـ (التحالفات) في ملابسات (صراع) أجنحة الإسلامويين المتشاققة على (السُّلطة) هو الذي أفضى بـ (جناح الترابي) إلى إبرام تلك المذكرة مع الحركة الشعبيَّة، تأسيساً على (فقه الضَّرورة). ومع أن (الاستقواء) بـ (التحالف) مع الأشباه والنظائر، وما يستتبع من مساومات هنا وتنازلات هناك، هو سلوك جائز، بطبيعة الحال، في ميادين (التدافع) السّياسي على تدبير أمور (الدنيا)، وإن كان يخضع، هو الآخر، إلى قدر لا يُستهان به من (المبدئيَّة)، إلا أن محاولة إلباسه (غلالة دينيَّة)، بتوطينه في (فقه الضَّرورة) على هذا النحو، ما تلبث أن تثير من فورها، أيضاً، السؤال المقلق التالي: إذا كان الخلط والتخليط جائزاً هكذا بين (الدّين) وبين (السّياسة)، حيث نحن، من جهة، متخففون من سلطة (المثال) في (تديُّننا)، ومسارعون، في الوقت ذاته، من الجهة الأخرى، وفي كلّ حال ومآل، لإسباغ هالات من (قداسة الدّين) على تصرفاتنا (البشريَّة/الدُّنيويَّة)، وقاعدون لخصومنا كلَّ مرصد، مضيِّقين عليهم إلى درجة (التكفير)، وموسِّعين، في الوقت ذاته، على أنفسنا مسارب اللواذ بـ (فقه الضَّرورة) إلى هذا الحد من التبحبح الطليق في أكناف مقاصد (الدنيا)، فما الذي يتبقى من (الدّين) إذن؟! ما الذي يتبقى من معايير (التديُّن)، ومن مبدأ (التمييز) بين ما هو (دين) وما هو (دنيا)، كمبدأ إسلامي مؤسَّس جيّداً على قاعدة الحديث الشريف: "ما أمرتكم بشئ من (دينكم) فخذوه ، أما ما كان من أمر (دنياكم) فأنتم أدرى به"؟!
    هكذا، وفى ظلّ غياب (النقد الذاتي) المفصح المبين المقنع، والذي ما يزال اقتضاؤه مطلوباً من د. الترابي، باستقامة وإلحاح، فإن السؤال بإزاء هذا الانقلاب التام في مشروع (الدَّولة الدّينيَّة) المعتمد، وشعارها المطروح، سوف يبقى على حاله شاخصاً في أفق حركة الإسلام السّياسي بأسرها، دَعْ أفق تيَّارات التشدُّد التي أتاحت لها (الحركة)، بمشروعها هذا، أن تمتهن (التكفير): ما الذى تغيَّر، حقيقة، في ذينك (المشروع) و(الشعار) ما بين حال تمكين د. الترابى من السلطة وحال إقصائه عنها: (ثوابت الدّين)، يا ترى، أم (متحرِّكات التديُّن)؟!
                  

11-25-2009, 07:08 AM

الهادي هباني
<aالهادي هباني
تاريخ التسجيل: 06-17-2008
مجموع المشاركات: 2807

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: عَتُودُ الدَّوْلَة ،،، ثَوابِتُ الدِّينِ أَم مُتَحَرِّكاتُ التَّدَيُّن؟! بقلم كمال الجزولي (Re: الهادي هباني)

    الحلقة التاسعة

    "مبادئ مايو لا تخرج عن مبادئ الإسلام التي تقوم على العدل والإحسان ومحاربة الظلم والفساد، لذلك فإن الوقوف بجانبها واجب ديني قبل أن يكون واجباً وطنيَّاً، والخروج عليها خروج على أمر الله، ومخالفة صريحة لأهداف ومبادئ الإسلام"!
    (من بيان "علماء الإسلام" حول أحداث الجزيرة أبا وودنوباوي ـ صحيفة الأيام، 3/4/1970م)
    (57)
    إتخذت (دولة الانقاذ) موقفها من مذكرة التفاهم المبرمة بين حزب الترابي والحركة الشعبيَّة، بجنيف في 19/2/2001م، بلسانين: لسان القائمين، فعلياً ومباشرة، بأمر هذه الدَّولة، من جهة، ولسان الممثلين الفقهوفكريين للقوى الاجتماعيَّة الداعمة لهجين سلطتها، من الجهة الأخرى.
    فالقائمون بأمر الدَّولة عَمَدَوا، لسبب ما، إلى منحى عملي حذر، مبدين حرصاً واضحاً على محاصرة خصومهم أصحاب المذكرة، بقيادة د. الترابي، في ميدان التدابير والرؤى والإجراءات السياسيَّة والقانونيَّة المحضة، والنأي بمعركتهم عن مجال الدين والفقه، إلا في حدود بالغة الضّيق، الأمر الذي شكل، في الواقع، مفارقة كبيرة، بالنظر إلى طبيعة البيئة والمنطلقات الفكريَّة لصراع الطرفين، حيث:
    (1) لم يكن من المتعذر ملاحظة ذلك المنحى السّياسي العملي، ابتداءً، في إقدام الحكومة على اعتقال الترابي وبعض معاونيه، كما وفي البيان الصادر عن رئاسة الجمهورية بتاريخ 21/2/2001م، والذي وصفت فيه اتفاق (المؤتمر الشَّعبي) مع (الحركة الشَّعبيَّة) بأنه "تأكيد لمنهجه المضطرد في تهديد الاستقرار السّياسي، ويمثل خروجاً على القانون .. وحلقة جديدة من سلسلة التآمر على البلاد"، معلنة عن ".. عدم تهاونها في الحفاظ على أمن وسلامة البلاد .. وأرواح المواطنين"، باعتبار ذلك أوجب واجباتها، ومؤكدة على أن ".. الإنقاذ فتحت أبواب العمل السّياسي لكل من يحمل فكراً شريطة أن ينبذ العنف وينأى عن الوسائل الإرهابيَّة".
    (2) كما لم يكن صعباً ملاحظة ذلك الحرص على النهج العملي في ثنايا الأفكار التي ساقها الناطق باسم الحكومة، وقتها، د. غازي صلاح الدين، واللغة التي عبَّر بها عن الموقف (الرسمي) من المذكرة، حيث وصفها بأنها "اتفاق للتآمر والتخريب والتهديد بالعنف .. وأنها تتضمن بنوداً سريَّة .. وأنها اتفاق بين انتهازيين لا مبدأ لهم سوى محاربة الحكومة بكل وسيلة" (الصحافة، 22/2/2001م). وحتى عندما لم يكن من الممكن تفادى (المسألة الدّينيَّة)، فضل د. غازي النفاذ إليها من الجانب العملي، بالغاً ما بلغ من الحدَّة، دون الولوج إلى لبِّ الجوانب الفقهيَّة، مكتفياً بإشارة مقتضبة إلى "أن الاتفاق خلا من علاقة الدّين بالدَّولة"، وأنه ".. لا شيء في مبادئ الدَّولة والدّين يجعلنا نعامل مجرماً متواطئاً مع أعداء البلاد باعتباره شيخاً للدّين، لذلك سيكون التعامل واحداً مع الطرفين"، مومئاً إلى تطابق موقف السلطة من الترابي وقرنق معاً! وإلى ذلك استهجن د. غازي أن "يتحدث الترابي عن المجاهدين وهو الذي يضع يده الآن مع قتلة المجاهدين والدَّبَّابين والشهداء"، ودعا "كلَّ من بقي في دواخله هوى من دين وفطرة سليمة ممَّن خُدعوا بالشعارات الجوفاء للاستماع لصوت الفطرة والابتعاد عن هذا الطريق" (المصدر نفسه).
    (3) وعلى ذات نهج السياسة العمليَّة جاء تصريح د. نافع على نافع، أمين الاتصال التنظيمي بالحزب الحاكم، آنذاك، قائلاً "إن التنسيق بين الطرفين، والذي تؤسس له المذكرة، عمل غير قانوني، وغير دستوري، وتآمري، يستهدف النظام بوسائل غير مشروعة، وهو رسالة للمتعاطفين مع حركة التمرُّد، وخاصة أمريكا" (الصحافة، 23/2/2001م).
    (4) وحدُه الأستاذ على عثمان طه، نائب د. الترابي السابق في قيادة (التنظيم)، والنائب الأوَّل، أيَّامها، لرئيس الجمهوريَّة، والرجل الذي رماه أستاذه القديم د. الترابي، صراحة، بـ "الكفر ببعض الكتاب"، واستهدفته تصريحات السيد يسن عمر الإمام ذات النبرة الدينيَّة العالية، على خلفيَّة حديث (فصل الدّين عن الدَّولة) الذي نسب إليه قبل عام من ذلك، هو مَن أخرجته أسئلة الصحفيين المباشرة شيئاً عن خط الحرص الرَّسمي على توخّي المنحى العملي في التعاطي مع واقعة المذكرة، فصرَّح مرجّحاً اشتمالها، بين السطور، على مسألة (فصل الدّين عن الدَّولة)، مبرّراً ذلك بأن ".. الموقف من علاقة الدّين بالدَّولة هو جزء من حملة الحركة، فلا يُعقل أن تكون قد توصلت إلى اتفاق مع المؤتمر الشَّعبي دون أن تكون قد توصَّلت إلى إجابة على هذه النقطة"؛ وفسَّر عدم بروزها، صراحة، في الاتفاق بأن ثمَّة "بنوداً أخرى لم يعلن عنها"، مشيراً إلى "أن هذه البنود ربما تثير كثيراً من الأسئلة الصَّعبة حول طبيعة التزام المؤتمر الشَّعبي نفسه بقضيَّة علاقة الدّين بالدَّولة، والتي كان طرفاً فيها عبر السنوات الماضية" (المصدر نفسه). أما في بداية حديثه، قبل أن يواجه بأسئلة الصحفيين المباشرة حول هذه النقطة تحديداً، فقد نحى الرَّجل، أيضاً، ذات المنحى السياسي العملي في التعاطي، رسمياً، مع المذكرة، معتبراً أن أخطر ما فيها هو دعم المؤتمر الشَّعبي للحركة الشَّعبيَّة في حملها السلاح خارج الأطر الشَّرعيَّة، ليس ضد (دولة الشَّريعة) أو (دولة الإسلام) أو حتى (دولة المشروع الحضاري)، فحسب، وإنما ضد أنظمة أخرى مختلفة تعاقبت على حكم السودان؛ فقد عزا الإجراءات ضد د. الترابي وحزبه إلى كون مذكرة التفاهم "تمثل دعماً لموقف حركة التمرُّد التي ظلت تحمل السلاح خارج الأطر الشَّرعيَّة لإسقاط النظم المتعاقبة، والخطأ الأساسي للشَّعبي هو دعم هذا الموقف .. الذي هو ضد السودان"، باعتبار أن "من يدعم حامل السلاح يكون شريكاً في الجَّريمة وفق القانون" (المصدر نفسه).
    على كلٍ، فإن المفارقة، في هذا الموقف العملي، ما انفكت تطن طنيناً صخَّاباً بين تركيز (الإنقاذ)، من جهة، على اعتبار التعاطي (السّياسي) مع حملة السلاح جريمة تستوجب الإدانة والعقاب، وبين عدم استنكاف حزبها، من الجهة الأخرى، عن التعاطي (سياسياً) مع معارضيها حملة السلاح، بما في ذلك الحركة الشعبيَّة، بوجه خاص، ومنذ أمد بعيد.
    (58)
    أما (فقهاء الإنقاذ) فقد خاضوا، من جهتهم، في كل ما تفادى القائمون المباشرون بأمر دولتها الخوض الصريح فيه بإزاء (مذكرة التفاهم): أي مسائل الدين والفقه، مصطلحاً وفـُتيا، وذلك على النحو الآتي:
    (1) بتاريخ 22/2/2001م سارعت الأمانة العامة لـ (هيئة علماء السودان) إلى إصدار بيان أدانت فيه المذكرة، معتبرة ما توصل إليه طرفاها "فتنة وبغياً ومهدداً للشريعة .. ودعوة للحرب وإسقاط السلطة الإسلامية في السودان". وأمَّنت الهيئة، على لسان أمينها العام محمد عثمان صالح، على ".. عدم جواز إجراء اتصالات أو عقد اتفاقات مع الفصائل التي تحمل السلاح لـ (غير السلطان) .. وأن الهدنة والمصالحة من واجبات أولياء الأمر وحدهم فقهياً"، وخلصت إلى وجوب "توجيه النصح والاستتابة" لقائد الحركة الإسلاميَّة د. حسن الترابي "حتى يثوب إلى أمر الله وأمر السلطان عما اكتسبه من إثم"، ودعت الدولة "لأخذ الباغين مأخذ الجد، ومعاملتهم بالحزم والحسم، حيث لا عدوان إلا على الظالمين" (الصحافة، 23/2/2001م).
    (2) وفى ذات السياق وصف (المجلس الأعلى للحج والدعوة والأوقاف)، على لسان رئيسه الشيخ محمد إبراهيم محمد، د. حسن الترابي بـ "الخروج عن الملة، حيث أن موالاة الكفار من المُحرَّمات .. وأقل ما توصف به أنها من الكبائر .. والاتفاق بين حزب الترابي وقرنق ضدَّ الدّين .. حيث لا مصلحة للشَّرع فيه، ويدور حول هدف واحد هو إسقاط الحكومة، وتحطيم الدَّولة الإسلاميَّة"؛ ووجَّه أئمَّة المساجد والعلماء "بتبنى حملة لإرشاد المسلمين بتوضيح الجريمة التى ارتكبها الترابي وأبعادها"، داعياً الدَّولة "لاتخاذ إجراءات قويَّة لردع الخارجين" (المصدر نفسه).
    (3) ومن جانبه، أيضاً، صبَّ سليمان طه، الملقب بـ (شيخ المجاهدين)، غضبه على حركة التمرُّد، واستنكر المذكرة، محدّداً احتمالين، فقط، لتوقيعها: "فإما أن قرنق سيجنح للسلم، ويقبل بأحكام الشريعة، أو أن الطرف الآخر سيتخلى عن الشَّرع" (المصدر نفسه).
    (59)
    مناخات (التكفير) هذه، والتي هيَّأتها، ابتداءً، (الدَّولة الدّينيَّة)، بشقيها المتشاكسين (القصر ـ المنشيَّة)، أغوت، بصورة أكثر إفصاحاً، نفس مَن درجوا على استثمار مثل هذه المناخات لإطلاق فتاواهم المسمومة في جميع الاتجاهات، كي يصدروا، بعد أشهر من المذكرة، بياناً (يكفر) د. الترابي وحزبه (المؤتمر الشَّعبي)، باسم (جماعة من العلماء) وقعه عنهم، آنذاك، نفس الأشخاص الذين عادوا، الشهر الماضي، لـ (تكفير) الحزب الشيوعي: محمد عبد الكريم وسليمان أبو نارو وعبد الحي يوسف وآخرون.
    شنَّ بيان الفتوى بتكفير د. الترابي وحزبه هجوماً عاصفاً عليهم، وذلك بمناسبة تأييدهم لحركة (طالبان)، خلال حرب أمريكا على أفغانستان في عقابيل تفجيرات 11/9/2001م، حيث اعتبر البيان موقف حزب الترابي مجرد "مزايدة على الحدث الجلل .. طمعاً في استمالة الجماهير .. للزجّ بهم في أتون مخططاتهم .. حتى يحاولوا عبثاً اختزال قضية المسلمين في أفغانستان لاتخاذها مطية لتوجيه الغوغاء لتحقيق مآربهم .. وتلك شنشنة فى المكر عرفناها من (شعبي الترابي) حين كانوا في سدة الحكم .. إن دعاة الإسلام (براء) من هذا الحزب وغيره من الأحزاب التي لا تتخذ دين الله وشرعه دليلاً، أو يبغونه (عوجاً) ويريدون أن يتخذوا بين الكفر والإسلام سبيلاً، قال تعالى: (إن الذين فرَّقوا دينهم وكانوا شيعاً لست منهم في شيء)، إن على (شعبي الترابي)، قبل أن (يزايد) بقضيَّة الإمارة الإسلاميَّة في أفغانستان، ويدهن بمواقف علماء ودعاة هذا البلد، أن يعلن (البراءة) من الترابي ومقولاته (الإلحاديَّة) التالية: إباحة الرّدَّة عن الإسلام وقوله بالنص الصريح "يجوز للمسلم كما يجوز للمسيحي أن يبدّل دينه" ـ قوله بإنكار الحور العين ـ قوله بأن اليهود والنصارى ليسوا بكفار ملة ـ قوله عن النبي صلى الله عليه وسلم إنه غير معصوم ويقول أخباراً (تطلع غلط) ـ وأن التجديد في الإسلام حدُّه الأعلى هو تطوير الدين ـ وأن أوَّل البشر خلقاً هي حواء وليس آدم عليه السلام ـ قوله إن صور الأحكام التي كانت تمثل الحقَّ قبل ألف عام لا تمثل الحقَّ الآن ـ دعواه بأنه يمكن لامرأة متقدمة في السّن أن تؤم الرّجال في الصلاة، إلى غير ذلك من (الهرطقات) .. ونصيحتنا لمن اغتر ببريق شعارات (شعبي الترابي) .. الحذر الحذر من اتباع كلّ (ناعق)، والميل نحو كلّ (مارق)، فإنما يهدم الإسلام جدال (المنافق) بالكتاب .. والحقُّ أبلجٌ لا يتبعه إلا مهتد مفلح ، كما الباطل لجلج لا ينصره إلا (ضالٌ مخسر)، واعتزال المسلم للباطل خير من تكثير سواده، والبراءة من أهله في الدنيا أحرى من الملاعنة في يوم معاده كما قال تعالى: (ثمَّ يوم القيامة يكفر بعضكم ببعض ويلعن بعضكم بعضاً) .. ولئن يُبتلى المرء بكل رزيَّة في دينه لأهون من التلاعب بدين الله تعالى وشرعه، فالنجاء النجاء لمَن أراد الله والدار الآخرة "!
    ولقد حقَّ لمسلمي هذا البلد أن يرفعوا حواجب الدهشة عالية أمام هذا التناقض (الأخلاقي)، دَعْ (الدّيني)، والمتمثل في (الانفجار) المفاجئ لأنصار (الحقّ الأبلج) هؤلاء في وجه (قائد) مسيرة (الركب الإسلامي) بعد أن تمَّ عزله من (مناصبه) أجمعها، وتجريده من (مرجعيَّته السُّلطويَّة) كلها، وإقصائه من (مواقع النفوذ) كافة، وهم الذين اعتادوا، في ما مضى، أن يطأطئوا رءوسهم خنوعاً في حضرته المهيبة، وصَغَاراً أمام سلطانه المطلق، ملتزمين صمت القبور إزاء كلّ ما انقلبوا يصفونه، اليوم، بلا أدنى خجل إنساني، أو مثقال ذرَّة من حياء فطري، بـ (الكفر) و(الإلحاد) و(الهرطقة) و(النعيق) و(المروق) و(النفاق) و(الضلال) و(التلاعب) بدين الله وشرعه، إلى آخر النعوت التي توخَّت الحكومة نفسها الحذر من الخوض فيها، خشية مغبَّتها السّياسيَّة، تاركة أمرها، في تقسيم عمل مكشوف، لمناصريها من (الفقهاء)، فانتثرت، في بيان فتواهم، كما ينتثر الصديد من الدّمّل المفقوء، بينما كانوا قد استخذوا، في سالف الأوان، أيَّما استخذاء، عن أن يلتمسوا في أنفسهم خردلة من هذه النخوة (الدينيَّة) المزعومة، والغيرة المُدَّعاة على الحقّ، بما كان حريَّاً به أن يجعلهم، وهم مع النَّمر في بَرّ واحد، يتجرَّأون على المجاهرة ولو بعُشر معشار هذا (البصق) في وجهه أوان ذاك، وليس بعد أن استطالت بينهم وبينه حوائط السَّلامة، وتمدَّدت بيدٌ دونها بيد، حتى اطمأنُّوا تماماً، وقرَّ في روعهم، نهائيَّاً، أنهم أضحوا بمأمن من حكمه النافذ، ومن يده الباطشة!
    (60)
    لا بد لنا، قبل مغادرة هذه الناحية، من تسجيل أربع ملاحظات نحسبها شديدة الأهميَّة في هذا السياق. وتتعلق أولى هذه الملاحظات بواقعة التناقض الرأسي العميق بين التصريح القائم على المنطق السّياسي، لا الدّيني كما قد يبدو للوهلة الأولى، والذي أدلى به د. غازي صلاح الدين، الناطق باسم الحكومة، وقتها، وفحواه أن إبرام الترابي مذكرة التفاهم مع (الحركة الشعبيَّة) إنما يعني وضْعَ يده في اليد التي تقتل المجاهدين، ما يسلبه حقّ الحديث عنهم (الصحافة، 22/2/2001م)، وبين قول سليمان طه، الملقب بـ (شيخ المجاهدين)، في اليوم التالي مباشرة، ما يُفهم منه أن مسألة تخلى د. الترابي وتيَّاره، دينيَّاً، عن (الشريعة)، بتوقيع المذكرة، لم تتأكد بعد (الصحافة، 23/2/2001م).
    حديث د. غازي يلمّح لـ (الدّين) من بُعد، بينما يركز على (السّياسة)، فيدين الترابي! أما حديث (شيخ المجاهدين) فيهمل (السّياسة)، وينصبُّ، بكليَّاته، على (الدّين)، فيشكك في صحَّة هذه الإدانة!
    (61)
    وتتعلق ثاني هذه الملاحظات بواقعة الاختلاف الأفقي الواسع بين موقف الحكومة وفقهائها من المذكرة، وبين موقف الثقل المسلم في قوام المعارضة، والذي لم ير فيها ما رأته الحكومة من الناحية السياسيَّة، أو ما رآه (فقهاؤها) من الناحية الدينيَّة. فلقد رفض السيد الصادق المهدي، مثلاً، وصفَ الحكومة للاتفاق بأنه تمَّ "بين طرفين متناقضين، ولا تفسير له إلا بأنه موقف انتهازي"، نافذاً إلى معنى مغاير تماماً بقوله "وإنما لأنهما جرَّبا التطرُّف، ومحاولة استئصال الآخر، واقتنعا بفشل هذا المشروع، فانتقلا إلى أرضيَّة مشتركة"، ومؤكداً على ترحيب حزبه بالاتفاق "لأنه يغذى الاعتدال" (الصحافة، 22/2/2001م). وعلى الرغم من أن هذه التفسير كان ينبغي أن يصدر عن تيار د. الترابي نفسه، في سياق النقد الذاتي المطلوب، قبل أن يتبرع به السيد الصادق، إلا أنه يعكس، مع ذلك، موقفاً مخالفاً لموقف السلطة وفقهائها، سياسيَّاً ودينيَّاً. ولا يقلل من ذلك استدراك السيد الصادق، لاحقاً، بأن طرفي المذكرة التي تعتبر، حسب قوله، دليلاً إيجابيَّاً على التخلي عن التعصب الأيديولوجي، قد "أفسدا هذا المعنى بنصّ يفتح جبهة مواجهة جديدة في ظروف ضاق فيها أهل السودان والإقليم والعالم بجبهات المواجهة في السودان، وشَقيَ أهل السودان بآثار هذه المواجهات" (خطبة عيد الأضحى بالجزيرة أبا، مارس 2001م). وطالب حزب الأمة بتقديم د. الترابي لمحاكمة عادلة "إذا كان هنالك ما يدينه"، أو إطلاق سراحه فوراً (الصحافة 23/2/2001م). ومن جهتها اتخذت بقية القوى السّياسيَّة ذات الموقف، تقريباً، حيث رأت أن المذكرة "شأن سياسي فينبغي وضعه في الإطار السّياسي"، وأن اعتقال د. الترابي ورموز تياره "ليس بعيداً عن الضغائن"، وأنه "نتاج تفاقم الصّراع بين حزبي المؤتمر الوطني والشعبي"، واعتبرت أن اتفاق حزب د. الترابي مع الحركة الشعبيَّة من شأنه "أن يفتح آفاقاً جديدة للحوار بين القوى المعارضة والحكومة"، وأبدت تخوُّفها من "أن الاتهامات التي وُجّهت للترابي ستصبح سيفاً مسلطاً على كلّ القوى السّياسيَّة" (المصدر نفسه).
    (62)
    أما الملاحظة الثالثة فتتعلق بأن مَن أوكلت إليهم (الإنقاذ) أمر التحدث بلسان الدّين والفقه والفتيا، ضمن (تقسيم العمل) الذي اعتمدته في جبهتها، على الأقل لمواجهة قضيَّة المذكرة، هم، وفق شهادة لا يستهان بقيمتها من داخل الحركة نفسها، أفراد يتمُّ تعيينهم، في العادة، من أهل الولاء للسُّلطة "لأن الأنظمة الشموليَّة لا تقبل، بطبيعتها، أن تناقش مثل هذه الأمور الحسَّاسة في العلن، وحتى عندما يتمُّ عقد لقاءات فإنها تكون صوريَّة، وقراراتها مطبوخة سلفاً، والمدعوون لها يتمُّ اختيارهم تحديداً لأنهم سيلعبون الدَّور المنوط بهم في التمثيليَّة" (د. عبد الوهاب الأفندى؛ "قضية الوحدة والانفصال في السودان والعودة إلى الخطاب العقيم"، الصحافة 30/8/2001م). فليس لهؤلاء (الفقهاء)، إذن، باستثناء (سلطة الدَّولة)، ما يدعم إصدارهم (حكم السَّماء) على هذه المذكرة، أو على أيّ موقف سياسي بوجه عام، رغم الألقاب الدينيَّة الفخيمة التي أسبغوها على أنفسهم، أو أسبغتها عليهم السُّلطة السّياسيَّة، تماماً مثلما لم يكن، أيضاً، لتيَّار د. الترابي، البادئ بـ (التكفير)، قبل عام من ذلك، كما قد رأينا، مثل هذا الحق.
    لقد استجار كلا الطرفين بـ (مصحفه المُتخيَّل)، أي بـ (نمط تديُّنه) النابع من تصوُّراته الذاتيَّة، ومصالحه الخاصة، يستخدمه سلاحاً في الصراع من أجل الاستحواز على (عتود الدولة).
    والواقع أن لأكثر هذه (الجَّماعات)، في السودان، تاريخاً حافلاً بمثل هذه المواقف التي تتلبَّس (صحيح الدّين)، في حين أنها لا تعبّر، في حقيقة أمرها، سوى عن محض (مصالح) دنيويَّة خاصة، ترتبط في غالبها بوشائج لا تنفصم مع مصالح الأنظمة السّياسيَّة القائمة في كل مرحلة أو فترة تاريخيَّة. ففي خواتيم القرن التاسع عشر كفر مشايخ أزهريُّون الإمام المهدي، ممالأة للحكم التركي. وفي مطلع القرن العشرين بارك (مجلس علماء جامع أم درمان)، برؤية تكفيريَّة واضحة، تنكيل الإدارة الاستعماريَّة بالشيخ على ود عبد الكريم الذي كان يحرِّض على مناهضتها، حتى لقد لاحظ تيم نبلوك، في كتابه (صراع السُّلطة والثروة فى السودان، 1990م)، أن تلك الفتوى الدينيَّة منحت ذلك التنكيل السياسى "بُعده الشَّرعى"! وفي 1968م صدر الحكم بردَّة الأستاذ الشهيد محمود محمد طه، ونفذ الحكم مطالع عام 1985م. وفي 1970م أصدر (علماء السودان) بياناً، على خلفيَّة المواجهات المسلحة في (الجزيرة أبا) وود نوباوي، بين نظام (مايو) اليساري آنذاك، وبين تحالف (الأنصار) و(الأخوان المسلمين) وغيرهم، من الجهة الأخرى، حيث وصفوا تلك الأحداث ".. بالفتنة المتدثرة بثوب الإسلام، و .. إن مبادئ مايو لا تخرج عن مبادئ الإسلام التي تقوم على العدل والإحسان ومحاربة الظلم والفساد ، لذلك فإن الوقوف بجانبها واجب ديني قبل أن يكون واجباً وطنيَّاً، والخروج عليها خروج على أمر الله، ومخالفة صريحة لأهداف ومبادئ الإسلام"!! (صحيفة الأيَّام، 3/4/1970م). وكان الشَّاعر التيجاني يوسف بشير قد تعرض، في أواخر عشرينات القرن المنصرم، للتكفير والتهديد، مثلما تعرَّض لهما الشاعر عبد الرحيم أبو ذكرى في أواسط ستيناته! وخلال العقد الماضي اغتيل الفنان خوجلي عثمان، وجرت محاولة لاغتيال الفنان عبد القادر سالم، كما تمَّ تكفير وقتل مصلين من أنصار السُّنة في مساجد مختلفة بالعاصمة وخارجها! وفي سياق الصِّراع السّياسي كفر وهُدِّد د. حيدر ابراهيم علي، والحاج ورَّاق، وعصمت الدَّسيس، ود. فاروق كدودة، وكاتب هذه السطور، حيث دعا متطرفون إلى قتلهم مقابل عشرة مليون جنيه للرأس! وفى 2007م، أهدر نائب والي الولاية الشماليَّة دم إمام الأنصار، ورئيس حزب الأمة، الصادق المهدي، لموقفه المؤيد لنشر قوات دوليَّة ـ أفريقيَّة هجين لحماية المدنيين في دارفور. وتمَّ، مؤخَّراً، تكفير الأستاذ ياسر عرمان، نائب الأمين العام للحركة الشعبيَّة، وتهديده بالقتل، كما جرت محاولة عمليَّة لتنفيذ هذا التهديد بزرع قنبلة في مكتبه. وكان قد جرى، قبل ذلك، تكفير، وتهديد، بل واغتيال المرحوم محمد طه محمد احمد، رئيس تحرير صحيفة الوفاق!
    ولم يقتصر تكفير د. الترابي على تلك الوقائع وحدها، بل لقد كفره، بعدها أيضاً، (مجمَّع الفقه الإسلامي)، حين وصف آراءه بأنها "تصادم القرآن والسُنة!"، ودعاه إلى "التوبة إلى الله من التقوُّل عليه بغير علم، وتضليل المسلمين!"، وحرَّض السُّلطة على "التعامل معه بما يقضى الحقُّ ويوقف الشرَّ!" (الصحافة، 20/4/2006م). كما وصفته (الرابطة الشَّرعيَّة للعلماء والدُّعاة بالسودان)، وهي المنظمة نفسها التي كفرت الحزب الشيوعي الشهر الماضي، بأنه "كافر مرتد يجب أن يعلن توبته، مفصَّلة، على الملأ، ويتبرَّأ .. أمام أهل العلم"! وطالبت بالحجر عليه وعلى كتبه ومقابلاته (السوداني، 23/4/2006م).
    وكانت أذرع طاحونة التكفير هذه قد امتدَّت، متجاوزة الأفراد، لتطال أطراً تنظيميَّة بأكملها، بخلاف الحزب الشيوعي وحزب المؤتمر الشعبي، كجماعة أنصار السُّنة، والجبهة الديموقراطيَّة للطلاب، وكلِّ "أحزاب ومعتنقي الديمقراطيَّة والإشتراكيَّة والموالين للنصارى!"، على حدِّ تعبير فتوى نشرت في 4/6/2003م، دون أن تحرِّك السلطات ساكناً لحماية المستهدفين بها!
    غير أن الإسلام، مهما يكن من شئ، لا يشتمل على أدنى سند لمؤسسة (رجال دين) يجوسون في ضمائر الأفراد والجماعات، أو ينوبون عن الله سبحانه وتعالى في إصدار القول الفصل حول إيمان العباد وشركهم، وبخاصة في الأمور السّياسيَّة، فيثيبون ويعاقبون، ويكفرون أو يمنحون صكوك الغفران، على غرار ممارسات (الإكليروس) الكنسي في التاريخ القرووسطي الأوربي. الإسلام، على العكس من ذلك تماماً، ".. يحترم وعى الإنسان ، فلا يفرض عليه ثيوقراطيَّة تجبره على طاعته، ولا .. يحدِّد مراكز معينة يحتكر لها تفسير نصوصه"، وحتى ".. الاجتهاد فى فهم النصوص، وفى تحديد رأى الدين في المستجدات، الذي يقوم به مؤهلون خلقياً وعلمياً، هو إجراء وضعي، ونتائجه سيكون مختلفاً عليها"، ولذلك ينبغي أن ".. يكون الرأي الفاصل حول جميع القضايا هو رأى الجماعة المنتخبة انتخاباً حراً. ينبغي أن تضبط هذه الإجراءات البشريَّة ضبطاً محكماً، ويعتمد عليها في حسم كل القضايا غير المعلومة بالضرورة، وغير قطعيَّة النصّ والدَّلالة" (الصادق المهدي؛ تحديات التسعينات، شركة النيل للصحافة والطباعة والنشر، القاهرة، ص 192 ـ 193).
    (63)
    وأما الملاحظة الرَّابعة فتتعلق بأنه، حتى بافتراض ثبوت الشُّورية المؤسَّسيَّة في هؤلاء الرّجال، رغم أنهم ليسوا منتخبين، فإن ذهاب قولهم بوجوب (استتابة) د. الترابي أدراج الرياح، وسط علوّ صوت الإجراءات القانونيَّة والسّياسيَّة المغايرة، وقد اتخذتها السلطة نفسها التي يدعمونها فقهيَّاً، يهدر هذا الافتراض من أساسه. (فالاستتابة) لم تعرض على د. الترابي في أيّ وقت. والسُّلطة لجأت، بدلاً من ذلك، لاتهامه بتهم جنائيَّة وضعيَّة، لا دينيَّة، كإثارة الحرب ضدَّ الدَّولة .. الخ، وحبسه، من ثمَّ، على ذمة التحقيق، حيناً، والاستمرار فى حبسه إدارياً، حتى بعد إسقاط تلك التهم، حيناً آخر، وقبول مبدأ وساطة بعض رموز الإسلام السّياسي في المنطقة، كالقرضاوي والزنداني وغيرهما (للمِّ الشَّمل) و(تسوية الخلاف)، حيناً ثالثاً. والسؤال: لو كان الشأن شأن دين، كما سعى لتصويره أولئك التكفيريون، فكيف أجازوا فيه مثل تلك الوساطات والتسويات والتدابير العقابيَّة والإداريَّة الوضعية؟!
                  

12-01-2009, 08:07 AM

الهادي هباني
<aالهادي هباني
تاريخ التسجيل: 06-17-2008
مجموع المشاركات: 2807

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: عَتُودُ الدَّوْلَة ،،، ثَوابِتُ الدِّينِ أَم مُتَحَرِّكاتُ التَّدَيُّن؟! بقلم كمال الجزولي (Re: الهادي هباني)

    الحلقة العاشرة
    "تدوم دولة الكفر مع العدل، ولا تدوم دولة الإسلام مع الظلم"!
    مأثور
    (64)
    مهما يكن من أمر فتاوي التكفير المتبادلة بين جناحي حركة الإسلام السّياسي الرَّئيسة في السودان، بعد ما لا يزيد كثيراً على عقد واحد من صعودها إلى السُّلطة عن طريق الانقلاب العسكري عام 1989م، فإن شيئاً من هذه الفتاوى، خصوصاً ما ينطوي منها على مطابقة ملتبسة بين (أمر السلطان) و(أمر الله)، لم يتجاوز، في جوهره، فهوم (الخوارج) في معركة (صفين)؛ ولم يضف جديداً، في غياب النصوص قطعيَّة الورود والدَّلالة، إلى فقه (الأحكام السلطانيَّة) القديم، العائد ببداية تاريخه إلى منتصف القرن الثاني من الهجرة، حين بدأ التأليف في فقه السّياسة وأحوالها، والقائم، في جُله، على اجتهاد فقهاء وفلاسفة ومتكلمين ومؤرخين وأدباء وكتاب إداريين هم، في المبتدأ والمنتهى، بشر عاديُّون لم يكونوا يتلقون الوحي من السَّماء، بل كانوا محكومين، أساساً، بالظروف السّياسيَّة التي عاشوا وأنتجوا فقههم تحتها، وبما توفر لديهم من معرفة محدودة نسبيَّاً بأحوال أنظمة ملوك ذلك الزمان، وقياصرته، وأكاسرته، وخواقينه، ومشكلات العلائق مجهولة تاريخ النشأة بين الزرادشتية وسلطة الفرس القدامى، وبين المسيحيَّة وسلطة الروم التي سبقتها بقرون. لذا انصبت دروسهم، في غالبها، على الاستقصاءات الحثيثة، من جهة، لأحوال (السُّلطة) في خبرات تلك الأمم، والمدى الذي تحققت فيه لديهم، أو لم تتحقق، الرابطة التأسيسيَّة بين تلك (السُّلطة) وبين (الدّين)، والقدر الذي أثر به، أو لم يؤثر، كون ذلك الدّين موحى به من السماء أم وضعياً، وما ترتب على كل ذلك من تأثير على مفهومي (العدل) و(الظلم) في الأفق الحضاري لتلك الأمم، مثلما انصبت تلك الدروس، من جهة أخرى، على مباحث اجتهاديَّة حول الفرق في الإسلام، ظهورها، وأبرز رموزها، وآرائها العقديَّة والفقهيَّة السياسيَّة، وأصل السُّلطة (الإمامة) في تاريخ المسلمين، ونظريَّتها، وشروطها العامة، من حيث ضرورتها ووحدتها وشرعيَّتها. وكان من أبرز الذين ألفوا في هذه المسائل، فتباينت آراؤهم، في مختلف فترات التاريخ الإسلامي، الإمام الشافعي وابن الطقطقي وابن المقفع وصاعد الأندلسي والدينوري والمسعودي والعامري والماوردي وغيرهم.
    (65)
    حصر ابن المقفع (ت: 142 هـ) المُلك في ثلاثة: مُلك دين، ومُلك حزم، ومُلك هوى. ومع غلبة الطابع الأخلاقي على هذه الصياغة الأدبيَّة، إلا أنه لم يصعب، في أكثر القراءات سداداً، استنتاج أن رأى هذا الأديب المفكر إنما يتلخص في إمكانية تأسيس (المُلك) لا على (الدّين)، بل على المصلحة المُدرَكة بالعقل، والسّياسة المستمرَّة بالعدل، وذلك بتأثير عكوفه الطويل على ترجمة مأثورات الدولة الفارسيَّة التي لم تتأسس، في أصلها، على دين، ومع ذلك دامت لآلاف السنوات بفضل (العدل)، حسب رأيه ورأى غيره ممَّن أطنبوا في اعتبار (العدل) أساساً لـ (الشرعيَّة)، سواءً في خبرة (الدَّولة) الفارسيَّة التي اشتهرت بذلك عند المسلمين، حتى ضربوا المثل بكسرى آن شروان السَّاساني (531م ـ 578م) ولقبوه بـ (الملك العادل)، أم في خبرات أمم أخرى، كالرُّوم والإغريق والهنود والصينيين، ممَّن لم تتأسَّس (الدولة) عندهم، هم أيضاً، على (الدّين)، وإنما على (المصلحة) و(السّياسة) المُدركتين بـ (الفطرة) و(العقل)، مما أشار إليه، أيضاً، الدينوري والمسعودي وصاعد الأندلسي، وآخرون كثر، حتى راج المأثور القائل: "تدوم دولة الكفر مع العدل، ولا تدوم دولة الإسلام مع الظلم". وفي نفس هذا الاتجاه وضع ابن الطقطقي مؤلفه (الفخري في الآداب السلطانيَّة)، خلال القرن السادس الهجري.
    ولكن أبا الحسن العامري (ت: 381 هـ) كان قد رفض، من جهته، نظريَّة العدل الفارسي والرومي هذه، قبل ظهور كتاب ابن الطقطقي هذا بنحو من قرنين.
    وكان الإمام الشافعي (ت: 205 هـ) قد وضع، قبل ذلك، رسالة عن أهميَّة (وحدة السلطان)، الأمر الذي لا ينفصل عن المسألتين المتصلتين بـ (ضرورته) و(شرعيته)، وذلك بعد أن شهد صراع الأمين والمأمون، وأدرك فداحة ما ترتب على انقسام (الخلافة) باستقلال بعض الأمويين بإمارة الأندلس تحت قيادة عبد الرحمن الأموي، إثر وقوع الانقلاب العبَّاسي (132 هـ).
    أما أبو الحسن الماوردي (ت: 450 هـ)، وهو أشهر من ألف في هذا المجال، فقد أرسى نظريَّته العامَّة حول نشأة الدَّولة في كتابيه: (نصيحة الملوك) و(تسهيل النظر وتعجيل الظفر). وفي هذا الأخير أسَّس لأطروحته حول (دولة الدّين)، بافتراض انعقاد (الإجماع) في المجتمع المعيَّن على دين واحد، سماوي أم وضعي، بحيث أنه ما أن يتجه هذا المجتمع لإنشاء سلطة تنظم أموره، وتحفظ كيانه، حتى يبرز، إلى جانب خياري (دولة القوَّة) و(دولة الثروة)، خيار (دولة الدّين)، في معنى (الدَّعوة الدينيَّة) التي تتحوَّل، بعد استحوازها على (الإجماع)، إلى شكل (السُّلطة السّياسيَّة)، إما بدافع حرص الأتباع، بعد وفاة المؤسّس، على حمايتها، أو بدافع اعتبارهم أن المجتمع قد انحرف عن دينه الواحد، فينهضون لإعادته إلى الجَّادَّة. وبعد استبعاده لاحتمال استمرار (دولة القوَّة)، كونها تقوم على (عصبيَّة العسكر) في التصدّي للعدوان الخارجي، فتنتفي مسوِّغاتها بمجرَّد انتفاء هذا العدوان؛ وبعد استبعاده، أيضاً، لاحتمال استمرار (دولة الثروة)، كونها تتأسَّس على توسُّل الأثرياء إلى السلطة، في ظروف الانفلات، بقوَّة المرتزقة ورشوة المتنفذين؛ عَمَدَ الماوردي إلى إعمال نظره في ما توافر له من معارف زمانه، فانتهى إلى ترجيح النموذج الإسلامي للسُّلطة (الخلافة)، باعتباره الأصلح والأبقى للأمَّة، وأفرد له، من ثمّ، كتابه الثالث (الأحكام السُّلطانيَّة)، والذي درس فيه طريقة قيام هذه (السُّلطة)، كشكل من أشكال (الدَّعوة الدّينيَّة)، وتتبَّع تطوُّر مؤسَّساتها، وأسباب انقلابها إلى شكل (السَّلطنة)، أو (دولة القوَّة)، كطور (مؤقت)، حسب نظريَّته، في سياق سيرورتها (للمزيد من التفصيل، راجع: د. رضوان السيد؛ "السُّلطة والدَّولة في الفكر الإسلامي" ـ ضمن: رؤى إسلاميَّة معاصرة، تقديم د. محمد سليم العوا، ط 1، كتاب العربي، الكويت، يوليو 2001م، ص 59 ـ 68).
    هكذا نشأ وتراكم فقه (الأحكام السُّلطانيَّة)، وتباينت الآراء فيه، ما بين القرنين الثاني والسادس الهجريين. ولكن (الخلافة) نفسها تقلبت، أثناء ذلك وبعده، في مسار تجربتها كنظام حكم، ما بين صعود وهبوط، وقوَّة وضعف. فقد شهدت القرون التالية لانحلال خلافة الأمويين، ووقوع الانقلاب العبَّاسي، قيام خلافة الفاطميين الشيعيَّة، المستقلة عن بغداد، بل والمنافسة لها، في مصر وتونس (351 هـ). وكان أن جرى غزو هولاكو لبغداد (358 هـ)، وآلت الأمور، لاحقاً، إلى المماليك في مصر، فما لبث الظاهر بيبرس أن استتبعها مجدَّداً كخلافة رمزيَّة للعبَّاسيين، ونصَّب أحد أمرائهم خليفة عليها، فأخذ خلفاؤهم يتوارثونها، من بعده، حتى دخل العثمانيون القاهرة (1517م)، وأجبروا الخليفة العبَّاسي على التنازل لهم عن الخلافة، فتولوها، وأعادوا مجد دولتها، فازدهرت وتوسعت على أيديهم، قبل أن يصيبها الضعف والانحلال، عشية الحرب العالمية الأولى، وتصبح (رجل العالم المريض)، لتنقضَّ عليها ضواري الإمبرياليَّة الذين احتاجوا، وقتها، لإعادة تقسيم مناطق النفوذ الاستعماري من خلال ترتيبات تلك الحرب، الأمر الذي انتهى بصعود كمال أتاتورك، وإعلانه إلغاء الخلافة، نهائيَّاً، عام 1924م.
    (66)
    جابه (اجتماع) المسلمين تحديات جديدة على صعيد التطور الحضاري لشكل (الدَّولة)، حيث انقضت (الخلافة) دون أن ينقضي احتياج المسلمين، حيثما كانوا، (للدَّولة) أو (السُّلطان)، وإنْ بكيفيَّات جديدة. سوى أن تعاقب الأحداث التاريخيَّة، منذ عصر الماوردي، طبع بصماته العميقة على ذلك الفقه السياسي القديم، فأورثه الحاجة، بدوره، للتجديد، كي ما يتوافق مع مطلوبات العصر، ويجيب على أسئلته المُلحَّة. لقد أثبت التطوُّر أن "الخلافة ليست نظاماً واحداً محدداً، وإنما هي .. وصف أطلق على رئاسة الدَّولة، كما أطلق على النظام السياسي للدَّولة التي تجمع المسلمين .. أو غالبيتهم .. (و) أن أسلوب الحكم قد اختلف اختلافات واسعة من عهد إلى عهد، ومن رئاسة إلى رئاسة" (د. أحمد كمال أبو المجد؛ "الحركات الاسلاميَّة والحكومات" ـ ضمن: رؤى إسلاميَّة ..، ص 14). فمع كون الإسلام عقيدة وشريعة، إلا أن "العقيدة ثابتة، وكذا أحكامها الشَّرعيَّة، ولكن فقه المعاملات في الشَّريعة متطوّر. لا يوجد نظام حكم معين في الإسلام، ولا يوجد نظام اقتصاد معين في الإسلام. إن فقه الأحكام قائم على استنباطات قاصرة على اجتهاد أصحابها وظروفهم التاريخيَّة، وغير ملزمة لأحد، تستثنى من ذلك أحكام محدَّدة قطعيَّة الورود والدَّلالة" (الصادق المهدي؛ تحديات التسعينات، ص 120).
    لذا فمن الخطر "أن يتبنى الدَّاعون إلى نظام حكم إسلامي صورة واحدة من الصُّور التاريخيَّة للممارسة السّياسيَّة، ويضفون عليها وحدها وصف (النظام الإسلامي)، وبذلك يلزمون أنفسهم ومجتمعاتهم ما لا يلزم، ويقيّدون حركة المجتمع، ويقفون في وجه سُنة التطوُّر، معتقدين أنهم بذلك (يحكمون بما أنزل الله) .. (أو) أن تنتقل فكرة (التوحيد) و(الوحدانيَّة) في فكر بعض دعاة الإسلام السّياسي من نطاق (العقيدة) إلى ميدان (الحياة السّياسيَّة، وكما أن الحقَّ واحد في منطق المؤمنين، فكذلك (الحقيقة السّياسيَّة)! ومعنى هذا أن يصير هذا (الحزب السّياسي الإسلامي) في تصوُّر أصحابه هو (حزب الله)، وتصير (الجماعة الإسلاميَّة) التي يؤسسها نفر منهم هي وحدها (جماعة المسلمين)، ويصير كل من عداها (خارجاً) .. تجرى عليه أحكام (الخارجين)! وبذلك يفتح الباب .. للتنكيل بالخصوم، وإزالتهم من طريق (الفرقة الواحدة الناجية)، ويُقفل الباب، نهائيَّاً، في وجه (التعدُّد السّياسي)، وتلك كلها كوارث يبرأ الإسلام منها .. (إن) هذا اللون من الفكر البدائي المُشوَّه زراية بالعقل، واستخفاف بالنقل، وعبث بمصالح الأمَّة، لا موضع لمجاملته، أو السكوت عليه، فضلاً عن أن يُحسب على الإسلام، أو يُنسب إليه" (د. أحمد كمال أبو المجد؛ مصدر سابق، ص 14 ـ 15).
    ولئن راج مثل هذا النمط (التكفيري) في الكثير من مناهج الفقه والعمل بين حركات الإسلام السّياسي المعاصرة، فإن الذين أنار الله بصائرهم فيها يعزونه، لا للإسلام، وإنما "للجمود الذي أصاب فئات متنوّعة، شباباً وشيباً، ممَّن .. سمعوا درساً فظنوه الدرس الوحيد، والتقوا بطالب علم فاعتقدوا أنه منتهى إقدام العلماء، وقرأوا كتاباً فحسبوه لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، ولم يعلمهم شيوخهم، إن صحَّ وصفهم بهذا، أن للعلم وجوهاً عدَّة، وأن في النظر الصحيح سعة" (د. محمد سليم العوا؛ "في مواجهة التطرُّف وسعياً نحو الاعتدال" ـ ضمن المصدر، ص 7).
    (67)
    لقد تنكَّب كلا تياري حركة الإسلام السّياسي، التي استولت على السُّلطة في السودان عام 1989م، طريق الحقّ في تكفيرهما لبعضهما البعض. وما ذلك، كما سبق أن قلنا، إلا لكون كليهما قد استجار، فى معمعة الصراع للاستحواز على (عتود الدولة)، بـ (مصحفه المُتخيَّل) ، في معنى (تديُّنه) الخاص بشعار (وصل الدّين بالدَّولة)، والنابع من محض تصوُّراته الخاصَّة لجوهر (التدافع)، وفهمه لمعاييره القيميَّة، وسيرورته التاريخيَّة، واتجاهاته، ومآلاته، أي (أيديولوجيَّته الوضعيَّة) بعد إلباسها لبوس (الدّين).
    أما (الإسلام) نفسه فلا سند فيه، كما أثبتنا أيضاً، لادّعاء الإنابة عن الله سبحانه وتعالى في تقرير (الإيمان) أو (الشّرك)، وبخاصة في ما يتصل بمتحرّكات (السّياسة/الدَّولة)، بعد سحبها باسم (التديُّن)، تعمُّلاً وقسراً، إلى دائرة قطعيَّات (الدّين)، على غرار ممارسات (الإكليروس) الكنسي في القرون الوسطى الأوربّيَّة. لا سند في الإسلام لـ (كهنة) يدَّعون عصمة، أو قداسة، أو يحتكرون معرفة الكتاب والسُّنة. طبيعة (السُّلطة/الدَّولة) في الإسلام مدنيَّة "أنتم أدرى بأمور دنياكم" ـ "ولانا الله على الأمَّة لنسدَّ لهم جوعتهم، ونوفر لهم حرفتهم، فإن أعجزنا ذلك اعتزلناهم". ولا سبيل، البتة، للتوفيق بين هذا المبدأ الإسلامي، وبين مفهوم (الدَّولة الدّينيَّة) في الفكر الثيوقراطي. فصاحب السُّلطة عند المسلمين، مهما لجَّ البعض في الجدال، "ليس بالمعصوم، ولا هو مهبط الوحي، ولا من حقه الاستئثار بتفسير الكتاب والسنة .. (كما ولا حق في هذا) للقاضي أو للمفتى أو شيخ الإسلام .. وكلُّ سلطة تناولها واحد من هؤلاء هي سلطة (مدنية) .. ولا يسوَّغ للواحد منهم أن يدَّعى حقَّ السيطرة على إيمان أحد، أو .. ينازعه في طريق نظره" (د. محمد عمارة؛ الإسلام والعروبة والعلمانيَّة، دار الوحدة، بيروت 1984م، ص 129 ـ 130، وراجع أيضاً حلقات مقالتنا "يسألونك عن الفرو المقلوب"، صحيفة الرأي الآخر، مارس 1998م).
    (68)
    عند هذا الحدّ لا بُدَّ لنا من مقاربة شعار (فصل الدّين عن الدَّولة)، كما يتبدَّى في ما يُثار على ساحة الصراع السوداني. غير أنه يلزمنا، قبل ذلك، بل لأجل ذلك، استقصاء جذور (المفهوم والمصطلح) في تربتهما الفكريَّة الأصليَّة، لنرى ما إذا كانا يعبِّران، حقيقة، أو لا يعبّران، عن (الشّعار/المطلب)، على ما هو عليه في بلادنا.
    إن أبرز، بل أوَّل ما يصادفنا بهذا الاتجاه، هو العُروة الوثقى التي لا انفصام لها بين مفهومي (فصل الدّين عن الدَّولة) و(العلمانيَّة)، فما يكاد ينطرح واحدهما حتى يستتبع الآخر، ضربة لازب. ومن زاوية النظر التاريخيَّة والفكريَّة فإن (المفهوم الأصل) هو (العلمانيَّة) التي تمخَّضت عن جملة مفاهيم من بينها (فصل الدّين عن الدَّولة). وهكذا فإن المدخل الصائب لهذا المفهوم الأخير إنما يمرُّ عبر المفهوم الأوَّل، ونشأته في تاريخ الفكر الأوربي في مطالع عصر (الحداثة)، بحقبه الثلاث المعروفة: (النهضة ـ الإصلاح الدّيني ـ التنوير).
    وإذن، فالعلمانيَّة secularism، بالمصطلح الأوربي العام، أو اللائكيَّة laicisme، فى طورها الفرنسي الخاص، هي مفهوم محدَّد أنتجه الفكر البرجوازي الأوربي بدلالة تحرير (السلطة الزمنيَّة) من قبضة (الإكليروس الكنسي)، كمؤسَّسة اجتماعيَّة ذات مصالح (دنيويَّة) ارتبطت بكل المظالم التي أفرزتها التشكيلة الاقتصاديَّة الاجتماعيَّة للإقطاع، وكحارسة أيديولوجيَّة لعلاقات إنتاجها، وصائغة لتبريراتها الروحيَّة، قبل أن تهبَّ تلك البرجوازيَّة، رافعة مجموع الشعب الكادح على طريق ثوراتها التاريخيَّة، وأشهرها الثورة الفرنسيَّة البرجوازيَّة العظمى (1789م)، لتقوِّض سلطة (الإكليروس)، عملياً، بمصادرة أملاكه الإقطاعيَّة، وإلغاء الأتاوات التى كان يفرضها على (المؤمنين)، بل، أكثر من ذلك، بتصفية النظام الإقطاعي نفسه، وإصدار (الإعلان الفرنسي لحقوق الإنسان والمواطن)، تحت التأثير المباشر لفلسفة (الأنوار)، وإلحاق شئون الأسرة ومسائل التربية والتعليم وما إلى ذلك باختصاصات السلطة (المدنيَّة).
    لقد تلازم صعود المركانتليَّة، ومفاهيمها حول المدنيَّة والتمدُّن، مع عمليَّات التهميش الثوريّ المتسارع للاقتصاد الطبيعي الريفي الذي كان يشكل أساس نفوذ وسطوة (الإقطاع) و(الكنيسة)، مما هيَّأ لصعود مناهج جديدة في الفلسفة والميتافيزيقيا كتفكير في الوجود خارج مفاهيم اللاهوت، ورتب لواقع فكري جديد، أصبحت فيه الفلسفة عقليَّة، على حين بقي اللاهوت نقليَّاً (د. برهان غليون؛ إغتيال العقل ـ محنة الثقافة العربيَّة بين السلفيَّة والتبعيَّة، ط 1، دار التنوير، بيروت 1985م، ص 229 ـ 230).
    ورغم أن (العلمانيَّة) لم تستهدف، أوَّل أمرها، إنجاز مفاصلة ما مع (الدّين)، بقدر ما هدفت إلى إخضاع الكنيسة الكاثوليكيَّة لسلطة (الدَّولة) باستقلال عن كنيسة روما، إلا أن ثمة عوامل تاريخيَّة محدَّدة لا يجوز فكريَّاً فصلها عن تاريخ (المصطلح)، أو إغفالها عند تناول (المفهوم)، دفعت ب (العلمانيَّة)، وبخاصَّة طبعتها الفرنسيَّة (اللائكيَّة)، على طريق التحوُّل إلى أيديولوجيا مصادمة للدّين (ديفيد مارتن، النظرية العامة للعلمنة، ضمن رضا هلال؛ م/العصور الجديدة، ع/8، أبريل 2000م). من ذلك، مثلاً، التغيُّرات التي طرأت على أوضاع (الكهنة) في أعقاب الثورة الفرنسيَّة، حيث أصبحوا، بموجب القانون المدني لرجال الدّين لسنة 1790م، مجرَّد موظفين مدنيين، أو ساسة يخوضون الانتخابات للفوز بأصوات المواطنين، (متديِّنين) و(غير متديِّنين)، فكان أن انحياز (الإكليروس) إلى قوى (الملكيَّة) في (الثورة المضادَّة) لإعلان الجُّمهوريَّة عام 1793م، ممَّا أنتج وضعاً جماهيريَّاً عامَّاً معادياً، ليس فقط للإكليروس، بل وللدّين كله، بحيث اتخذت المعركة بين (الجُّمهوريين) و(الملكيين) طابع العداء بين (العلمانيَّة/اللائكيَّة)، وبين (الإكليروس) المتحوِّل، في الذهنيَّة العامَّة، إلى معادل موضوعي لمفهوم (الدّين) نفسه. ثم ما لبث الأمر أن تطوَّر ليفضى، في الجمهوريَّة الثالثة، إلى مواجهة شاملة بين (الدّين) و(الدَّولة)، بين القيم (المسيحيَّة الملكيَّة) والقيم (اللائكيَّة الجمهوريَّة).
    (69)
    هكذا، وبما أن لكلّ ثقافة وحضارة (عقلانيَّتها) الخاصَّة، فإن (العلمانيَّة/اللائكيَّة) ليست، في حقيقتها، سوى مظهر لـ (عقلانيَّة أوربا) الحداثيَّة، كمنجز حضاري تاريخي جرت صياغته، كما قد رأينا، في سياق وقائع محدَّدة لصراع المجتمع ضدَّ الإكليروس، بحيث أصبحت هذه (العقلانية rationalism) أسلوباً في التفكير والتفلسف ينطلق من فرضيَّة محدَّدة، مفادها أن (العقل) الإنساني قادر على إنتاج المحاكمات الواعية لمختلف الظاهرات وتعليلها، سواء في الحياة اليوميَّة أم في الممارسة المعرفيَّة. ومن المهمّ جداً أن ندرك أن أغلب الفلسفات السائدة في الغرب اليوم إنما تعود بجذورها إلى فلسفات تأسَّست في اليونان وروما القديمة، على أيدي ديمقريطس وتلميذه أبيقور، فضلاً عن لوكريتس كار (حوالي 99 ـ 55 ق.م)؛ ثمَّ تطوَّرت، لاحقاً، عند فلاسفة الإلحاد البرجوازي الذين جعلوا من (نقد الدّين)، خلال القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، عملهم الأساسي، كديدرو، وهيلفيتيوس، وفويرباخ، وغيرهم. أما الفلسفة الوضعيَّة positivism التي أنشأها الفرنسي أوغست كونت، فى مطلع القرن التاسع عشر، وتطوَّرت في خواتيمه وبداية القرن العشرين، في مرحلة (الوضعيَّة الثانية) أو (مذهب نقد التجربة)، على أيدي السويسري إيفيناريوس والنمساوي ماخ، ثم خلال النصف الأول من القرن العشرين، في مرحلة (الوضعيَّة الجديدة)، أو (الوضعيَّة المنطقيَّة) أو (التجريبيَّة المنطقيَّة)، على أيدي أعضاء (حلقة فيينا)، ولاحقاً على أيدي برتراند راسل والكثير من علماء اللسانيَّات والرياضيَّات والفيزياء والمنطق وغيرها من العلوم، هذه الوضعيَّة المعاصرة، الأكثر تأثيراً، الآن، على حركة العلم والثقافة في بلدان الغرب الرأسمالي، تشغل مكانة متميّزة في منظومة الفلسفات الأوربيَّة التي سعت إلى تجاوز الدّين على خلفية شديدة الخصوصيّة والتعقيد من معطيات التاريخ الأوربي. غير أنها تظل مشدودة، بوجه خاص، إلى ظروف وملابسات الصّراع الذي أنتج مفاهيم (الحداثة) البرجوازيَّة بين القرنين السادس عشر والثامن عشر، وعلى رأسها (العلمانيَّة). وأما كارل ماركس (1818م ـ 1883م) فعلى الرغم من أنه وافق (العقلانيَّة) في فكرتها الأساسيَّة القائلة بقدرة (العقل) على تجاوز المعطيات المباشرة للتجربة الحسيَّة، إلا أنه انتقدها بشدَّة لكونها تغالي، من جهة، في إبراز دور (العقل)، ومن الجهة الأخرى في إسقاط أية أهميَّة لتجربة (الحواس).
    (العلمانيَّة)، إذن، سواء في نسختها الأوربيَّة العامَّة أم الفرنسيَّة الخاصَّة، وسواء في الفكر البرجوازي أم الماركسي، هي، في أصلها، جنين (العقلانيَّة) الأوربيَّة الوضعيَّة، الطالعة، بدورها، من رماد الحرب الضروس التي اندلعت هناك، ردحاً من الزمن، بين (إكليروس) زعم لنفسه نيابة مطلقة عن (السَّماء) في (الأرض)، ومن ثمَّ سلطاناً مقدَّساً لإرادته البشريَّة على السُّلطة الزمنيَّة، والحياة السّياسيَّة، والاقتصاديَّة، والاجتماعيَّة، وحركة العلم والفلسفة، والثقافة، وبين (مجتمع مدني) صارع لتحرير حكومته، وثقافته، وعلومه، وسائر مقدراته ومقوّمات حياته، من بين فكي تلك الهيمنة الإكليروسيَّة، فكان لزاماً أن يصبح الاصطدام (بالكهنوت)، في مرحلة معينة من التطوُّر، أمراً محتوماً في أفق ذلك الصراع، ومآلاته التاريخيَّة، وأن يطبع بطابعه (عقلانيَّة) أوربا التي أنتجت (العلمانيَّة) كمفهوم ألقت دلالات المواجهة مع (الدّين)، في ذلك الإطار الحضاري المحدَّد، بظلالها الكثيفة عليه، بالقدر وإلى المدى الذي عَمَدَ (الكهنوت)، به وفيه، إلى ترتيب التماهي، فى الذهنيَّة الأوربيَّة، ثمَّ عموم الذهنيَّة الغربية، بين (ذاته) الدنيويَّة المحدودة، وبين (السماء) في تعاليها المطلق، وفق الأساليب والمناهج الثيوقراطيَّة التي اعتمدها.
    (70)
    ومع ذلك فإن (العلمانيَّة) المعاصرة لا تفترض (الإلحاد) بالضرورة، وإن كانت قد اندفعت باتجاهه، كما قد رأينا، في بعض نماذجها التاريخيَّة المحدَّدة، كالنموذج اللائكي الفرنسي. ولكنها سرعان ما عادت لتبقى، بوجه عام، (مؤمنة)، سواء كانت كاثوليكيَّة أم بروتستانتيَّة، كما نشاهد في عالم اليوم (م. إبراهيم نقد، حوار مع م/بيروت المساء، ع/أغسطس 1985م).
    لذا، فإن الخلط بين (العلمانيَّة) و(الإلحاد)، ضربة لازب، ودون استصحاب المعطيات التاريخيَّة لملابسات تأسيس (عقلانيَّة) السلطة المعنويَّة (الحضاريَّة/ الثقافيَّة) الصاعدة فى خواتيم القرون الوسطى، ومطالع عصر (الحداثة)، بإزاء انحلال نظام (الإكليروس) القديم الذي جرى تحميله وحده، في التاريخ الأوربي، أوزار الانحطاط وزوال الحضارة، لهو، في حقيقته، خلط متعمَّل يرمى إلى دمغ مجمل الجهود الفكريَّة والسياسيَّة، الراديكاليَّة والإصلاحيَّة، التي اتخذت موقفاً معادياً (لاستثمار) العاطفة (الدّينيَّة) في تسويق ما لا يمكن أن يقرُّه، في الواقع، أي دين: الظلم الاجتماعي!
                  

12-03-2009, 07:51 AM

الهادي هباني
<aالهادي هباني
تاريخ التسجيل: 06-17-2008
مجموع المشاركات: 2807

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: عَتُودُ الدَّوْلَة ،،، ثَوابِتُ الدِّينِ أَم مُتَحَرِّكاتُ التَّدَيُّن؟! بقلم كمال الجزولي (Re: الهادي هباني)

    الحلقة الحادية عشر

    "شعار (الإسلام هو الحل) مجرَّد (شعار فضفاض)، والحركات الإسلاميَّة مدعوَّة للصمود أمام تحدّيات (الحداثة)، ومواجهة الأوضاع المعقدة لـ (المرأة)، و(الأقليَّات)، و(الحريَّات)، في العالم الإسلامي، دون أن تكون (الشعارات) منافذ للهروب الأمامي"! د. غازي صلاح الدّين
    (71)
    برزت إشكاليَّة (الدّين والدَّولة)، بصورتها الرَّاهنة في ساحة الصّراع السّياسي السُّوداني، لأوَّل مرَّة، مع ظهور التيَّار الأساسي (السُّلطوي) ٭في حركة الإسلام السياسي الحديثة، بتركيبته الرأسيَّة الضيّقة، ومنهجه القائم في الاجترار المتواصل، بلا طائل، لنظام القيم، عوضاً عن إنتاج نظام للمفاهيم مطلوب بإلحاح في حقول الفكر والسياسة. وهى، بهذا، لا تختلف كثيراً عن سائر حركات الإسلام السّياسي في المنطقة ، والتي يرى د. عبد الله فهد النفيسي، أحد أهمّ مفكريها، أن جُلَّ ما تنشره، بشتى مسمياتها، "يتناول نظام القيم .. ولكن ما نحتاجه الآن وبشكل مُلِح هو، تحديداً، نظام للمفاهيم، وبدون التحديد العلمي الموضوعي للمفاهيم لا يمكن بلورة النظريَّة الإسلاميَّة المتكاملة" (الحركة الاسلامية: رؤية مستقبلية ـ أوراق فى النقد الذاتى، مكتبة مدبولى، القاهرة 1989م، ص 18). ويعزى بعض الكتاب هذا القصور، تحديداً، إلى احتياج هذه (الحركة) للتحصُّن بالإلهي والمقدَّس لمواجهة أي نقد أو حوار يأتي من خارجها (د. حيدر أبراهيم على؛ الدين والثورة: لاهوت التحرير في العالم الثالث، ط 2، مركز الدراسات السودانية، القاهرة 1999م، ص 11).
    تبلور هذا التيَّار في السودان، حول قضيَّة (الدّين والسّياسة)، منذ أواخر أربعينات القرن الماضي، لا كمشروع نهضوي يستوعب طاقات المجتمع بأسره، ويستند فكريَّاً وسياسيَّاً إلى مبادئ الإسلام الرفيعة المتمثلة في الحريَّة، والمساواة، والشورى، والكرامة الإنسانيَّة، والعدالة الاجتماعيَّة وما إليها، وإنما كمجرّد تعبير شعاري عن رفض الشيوعيَّة، وكمحض تنظيم مناوئ للتيَّار الماركسي الذي ظهر آنذاك (د. حسن مكى؛ حركة الأخوان المسلمين في السودان 1944-1969م، دار الفكر بالخرطوم، ص 8 ـ وأنظر كذلك: تيم نبلوك؛ صراع السُّلطة والثروة في السودان، ترجمة الفاتح التجاني ومحمد علي جادين، ط 1، الخرطوم 1990م، ص 138 ـ 139). فبسبب من إحساسه المستبطن، ولا بُدَّ، بذلك القصور، وبمحدوديَّة الوسائل والأدوات، وقتها، آثر هذا التيار، لا أن يتحصَّن بالمقدَّس، فحسب، بل وأن يتركز، في المدى القريب، كجماعة ضغط، أملاً في التمكن، في المديين المتوسط والبعيد، من وراثة جماهير أحزاب الحركة الوطنيَّة الرئيسة، ببنائها الأفقي العريض، وبالثقل المطلق للعنصر المستعرب المسلم في قيادتها وقواعدها.
    من جهتها، وبرغم استنادها إلى النفوذ الطائفي، إلا أن أحزاب الحركة الوطنيَّة هذه تنشَّأت على (بداهة عقلانيَّة) عامَّة في العمل السّياسي، بحيث لم تستشعر، أوَّل أمرها، أيَّ تعارض بين الإسلام وبين الديموقراطيَّة البرلمانيَّة القائمة على التعدُّديَّة الحزبيَّة، والحريَّات العامَّة، والحقوق الأساسيَّة، والتداول الانتخابي للسُّلطة. على أن هذه الأحزاب لم تعمل على تطوير (عقلانيَّتها) تلك خطوة واحدة، وعلى مدى سنوات طوال، خارج حدود (البداهة العامَّة)، ممَّا حال دون توطنها في (فقه) أو (فكر) أكثر وثوقاً وإلهاماً، وهذا ما طبعها، عموماً، بهشاشة فكريَّة غالبة.
    هكذا وجد التيار (السُّلطوي) بغيته في تلك البنية الفقهوفكريَّة الهشَّة لـ (عقلانيَّة) تلك القوى السياسيَّة التي ينحدر معظم زعمائها وكوادرها الأساسيَّة من الطبقة الوسطى، مثلهم مثل السواد الأعظم من شريحة الإنتلجينسيا/الأفنديَّة، سلالة المؤسَّسة الغردونيَّة التي فرضت عليها خطط الإدارة الاستعماريَّة، منذ مطالع القرن الماضي، القطع مع التعليم الديني المهدوي التقليدي، دون التزوُّد من المعارف المتروبوليَّة (الحداثيَّة) بغير قشور فنيَّاتها، لمجرَّد سدّ الاحتياج لشغل بعض الوظائف ضئيلة الشَّأن في أدنى سلم تلك الإدارة. وبالنتيجة كان لا بُدَّ أن تستعصي، مع الزمن، في مدارك الإنتلجينسيا/الأفنديَّة، منطقياً، إمكانية المقاربة لقضية (الدَّولة) من منظور فقهي وثيق لـ (العقلانيَّة الإسلاميَّة)، ديناً وحضارة، مثلما انبهمت أمامها الخطوط الموصلة بين هذا (الموروث) العقدي المفترض، وبين (عقلانيَّة) الحداثة الغربيَّة الوافدة، فتجَمَّد (الإسلام) في ذهنيَّة هذه الشَّريحة، إما في ديباجات مسطحة، ومنمنمات فجَّة، خالطت خطاب الهويَّة والسّياسة لديها، أو في تصوُّر للدّين محصور، عموماً، في ما يُعرف بـ (الكتب الصفراء)، وفق مصطلح الإستعلاء (الحداثوي)، ومدار علومها الصلوات، والزكوات، والصوم، والحجُّ، والكفارات، والأنكحة، والمواريث، وغسل الجنازات، فأوكلت تلك الذهنيَّة أمر هذه (المعارف)، على سبيل (التخصُّص) الموروث، أصلاً، منذ (السلطنة الزرقاء)، لذوي التأهيل (الأزهري) من شريحة الإنتلجينسيا (الأخرى)، أو (رجال الدّين/المولانات)، أهل اللحى والعمائم والكاكولات والدشداشات، الذين تقولبوا في خصائص مائزة، ثقافة ومظهراً، منذ أيام المعهد العلمي، ومجلس جامع أم درمان الكبير، وشُعَب التربية الإسلاميَّة واللغة العربيَّة بالمدارس، وإلى ذلك ما صار يعرف لاحقاً، وبخاصة منذ الاستقلال، بهيئات ولجان وجماعات وروابط (علماء السودان) الذين احتكروا مهام (الفتيا) الطليقة في حقل السّياسة، على ما تتسم به من تعقيد في العصر الحديث، وما يقترن بها من معارف مفترضة في الفلسفة، والاقتصاد، والانثروبولوجيا، والتاريخ، والاجتماع، والعلاقات الدوليَّة، ونظم الإدارة الحديثة .. الخ. وقد التحق بهؤلاء الإنتلجينسيا/المولانات حتى أهل القضاء الشرعي، برغم تخرُّجهم، هم أنفسهم، في المؤسَّسة الغردونيَّة، وما ذلك، بحسب د. عبد الله علي إبراهيم، إلا لغبنهم الناتج عن تمييز أهل القضاء المدني عليهم، ردحاً طويلاً من الزمن، في سلك الوظائف والترقيات والامتيازات (راجع:A. A. Ibrahim; Manichean Delirium: Decolonizing the Judiciary and the Renewal of Islam in Sudan “1885 – 1985”, Leiden 2008). لقد فرض على شريحة الإنتلجينسيا/المولانات هؤلاء الانقطاع، بحكم (تخصُّصهم)، عن هذه الحقول، ولم يُعرف لأغلبهم، طوال عُشرة الناس مع فتاواهم، (تديُّن) في علاقة (المحكوم) بـ (الحاكم) غير (الطاعة) لـ (أولي الأمر)، أجانب أم سودانيين، عسكريين أم مدنيين، قابضين على السلطة فعلياً، أم هم، في خارطة توازن القوى، على أهبة توليها أو الانقضاض عليها، فانكبوا، في الحالين، يوالونهم بـ (الفتاوى) المطلوبة لتمرير مشاريعهم السياسيَّة عبر مختلف الفترات التاريخيَّة، وعلى اختلاف الأنظمة والحكومات، مدفوعين بحزازتهم القديمة التي غذتها في نفوسهم السّياسة الاستعماريَّة تجاه شريحة الإنتلجينسيا/الأفنديَّة من أصحاب التعليم (الحديث) الذين التهموا جُلَّ (كيكة الميري) تاركين لهم الفتات، دون أن يعدل معظم هؤلاء الإنتلجينسيا/المولانات، ولو بمقدار عقلة إصبع، عن ارتيابهم التقليدي في أي مشروع (حداثوي)، كونه يقوم بالمطلق، وفق نظرتهم هذه، على كثير من (التخنث!) و(الفسوق!) و(الخروج) عن (الدّين!)، ويصطلحون على ذلك، إجمالاً، بـ (العلمانيَّة)!
    (72)
    من هنا، تحديداً، تشكلت نقطة الهشاشة الأساسيَّة، التي لازمت قوى (عقلانيَّة البداهة) في هذا المجال، على التمظهر الغالب في استسلامها لابتزاز التيار (السُّلطوي) لها، كتكتيك ثابت، مكتفية، في أفضل الأحوال، بالتعبير عن محض (التململ) العاجز عن صياغة منظور فقهوفكري يُعتدُّ به لسؤال (التراث والمعاصرة)، ولو بالحدّ الأدنى من الوثوق أو التماسك المنهجي (للمزيد من التفصيل راجع كتابنا: (إنتلجينسيا نبات الظل، دار مدارك 2008م).
    ولعلَّ أخطر استجابات تلك (الهشاشة) لذلك (الابتزاز) من جهة الأحزاب التقليديَّة هو ما ظل يتبدَّى، دائماً، في (فزعها) من تصنيف التيَّار (السُّلطوي) لها ضمن معسكر (العلمانيَّة). فهذه الأحزاب، ودون التقليل من أثر تصاعد النشاط الجماهيري المستقل على لجوئها، بعد ثورة أكتوبر 1964م، إلى نشر جوّ من الدَّجل اليميني، والتقائها على مشروع (الدُّستور الإسلامي)، في محاولة لتأسيس سلطة (رجعيَّة) باسم الدّين، ظلت تسارع، في كثير من الحالات، تحت ضغط (الفزع) من ذلك (التصنيف)، لإهدار جلّ طاقاتها في خانة (الدفاع) الذي ليس نادراً ما يسلمها إلى نمط من التراجع غير المنتظم حتى عن (عقلانيَّة البداهة) الهشَّة تلك، بل وإلى الانخراط، في غير القليل من الحالات، في شكل أو آخر من (المزايدة) على نمط (تديُّن) التيَّار السُّلطوي نفسه!
    أما أخطر تلك الاستجابات من جهة القوى الوطنيَّة الديموقراطيَّة، فهو ركونها لـ (الاستهانة) العقيمة بوصف التيَّار (السُّلطوي) لها بـ (العلمانيَّة)، بكلّ محمولات المصطلح الأصليَّة القديمة، سواء في طبعته الأوربيَّة العامَّة، أم الفرنسيَّة الخاصَّة، بما في ذلك (الإلحاد)، كما في حالة الحزب الشيوعي وغيره من القوى الحديثة، سياسياً ومهنياً ونوعياً. وبالنتيجة، ترك هؤلاء الساحة خالية لهذا التيَّار يزايد عليهم في أقدس مقدَّسات الذهنيَّة الشعبيَّة، مكتفين، في الغالب، إما بإطلاق اتهام كسول، وإن كان صحيحاً، لهذا التيَّار بـ (المتاجرة بالدّين)، أو بالانفلات بالمعركة برمتها من داخل ميدانها المفترض، لإدارتها خارج سياقها، كالترافع عن (الديموقراطيَّة) في ساحات المحاكم، أو الدفاع عن حقوق المُساكنين من (غير المسلمين) في السودان، فلكأن المشكلة كانت ستنتفي، في ما لو لم يكن ثمة مساكنون من هؤلاء في البلاد!
    (73)
    مهما يكن من أمر، فإن الحقيقة الجوهريَّة التي ما تلبث أن تتكشف بجلاء، فى سياق أيّ بحث موضوعي مدقق، والتي قد تبدو غريبة للوهلة الأولى، رغم أنه لا مراء فيها البتة، هي أنه ليس في دعاوى أيّ من (عقلانيّي البداهة) هؤلاء، بثقلهم المسلم، يميناً أو يساراً، وسواء استخدموا مصطلح (فصل الدّين عن الدَّولة) نصاً، أم حسبه المحللون ضمن خطابهم الفكري أو السياسي حكماً، ما يمكن اعتباره مطالبة فعليَّة تنصبُّ، قصداً وعملاً، على ترتيب هذا (الفصل) بالمعنى (العلماني) الأصلي للاحتجاج على وضعيَّة (الدّين) في الحياة الاجتماعيَّة، أو الاعتراض على أيٍّ من مهام الدَّولة السودانيَّة، أو أجهزتها الوظيفيَّة، من زاوية اعتبار (الدّين)، أو النهوض بمقتضياته! ولو أن العكس كان صحيحاً لاتسم هذا الصّراع بالوضوح، ولكانت المشكلة أيسر على الفهم!
    وإذن، لا يكاد المرء يقع، منذ فجر الاستقلال، على (علمانيَّة) ما في أداء هذه القوى ذات الثقل المسلم، لا من خلال الرَّصد الوقائعي للأحداث والأنشطة التاريخيَّة، ولا من حيث المضمون الفكري أو السّياسي لمختلف الخطابات الدعويَّة/الترويجيَّة/التحشيديَّة. وحتى في حملة معارضة السَّواد الأعظم من (المسلمين) لـ (الأسلمة) بعد مصالحة عام 1977م، أو لإصدار (قوانين سبتمبر)، باسم (الشَّريعة الإسلاميَّة)، عام 1983م، أو لمشروع (الدَّولة الدّينيَّة) الذي تهيَّأ، في أواخر ثمانينات القرن الماضي ومطالع تسعيناته، للدَّفع باتجاه نهاياته القصوى، فإن شيئاً من هذه (العلمانيَّة) المزعومة لم يتبدَّ في أيّ من برامج أو مشاريع أو أدبيات هذه القوى.
    كذلك لم يظهر شئ من ذلك في الراهن السّياسي المتصل منذ انقلاب عام 1989م، والذي تبلور الاستقطاب، في بعض فتراته، كما لم يتبلور من قبل، بين الحكومة (الإسلاميَّة)، من جهة، والتي أمسك التيَّار (السُّلطوي) بزمامها، مستخدماً القوَّة المسلحة، وبين معارضة (التجمُّع)، بثقل العنصر المسلم فيها، والتي اتخذت شكل التحالف العريض بين أوسع الأقسام السّياسيَّة المدنيَّة والعسكريَّة، يميناً ويساراً، ومن مختلف الملل والنحل السودانيَّة، دينيَّاً وإثنيَّاً وجهويَّاً، فلا يكاد ملمح واحد من البرامج التي طرحتها هذه القوى المعارضة، حتى وهى تمتشق السلاح لمجابهة مشروع (الدَّولة الدّينيَّة)، يفصح عن أية خطة بديلة تستهدف (إقصاء) الدين من الحياة العامَّة، أو (كشطه) من حقول نشاط الأسرة، أو المجتمع، أو الدَّولة، أو من دوائر الفكر، أو الثقافة، أو التربية، أو التعليم، أو الإعلام، أو ما إلى ذلك ممَّا قد علمنا من (العلمانيَّة) في أصل المصطلح الغربي، كمظهر لـ (عقلانيَّة أوربا) الحداثيَّة، وجنينها الشَّرعي: (فصل الدّين عن الدَّولة)، علماً بأننا لا نتحدَّث، هنا، عن محض (التمييز) بين ما هو (ديني) وما هو (دنيوي/سياسي)، حسب التوجيه النبوي الشريف، فليس هذا (التمييز) من (العلمانيَّة) في شئ، وإنما هو (أصل) مؤسَّس جيّداً، كما قد رأينا، على مداميك شديدة الرسوخ تحت أعمدة الإسلام الأساسيَّة، وإنْ كان من الميسور ملاحظة و(فهم) القدر من الحرص الذي ظلت تبذله حركة الإسلام السّياسي في السودان، بالأخص، لتفاديه في كل أدبياتها!
    (74)
    على أن الباحثين يستطيعون أن يلمحوا، وبيسر، كيف أن التيَار (السلطوي) في حركة الإسلام السّياسي في بلادنا كان قد نجح، خلال السَّنوات التي أعقبت الاستقلال، في ابتزاز قوى (عقلانيَّة البداهة) التقليديَّة المسلمة، تدريجيَّاً، عن طريق اتهامها، حثيثاً، بـ (العلمانيَّة)، والعمل على (فصل الدّين عن الدَّولة)، فدفعها، دفعاً، للتخلي عن (عقلانيَّتها) تلك، حيث:
    أ/ أدرجت (مبادئ ونظريات الإسلام) ضمن (مصادر التشريع) بنص المادة/36 من دستور جمهورية السودان لسنة 1958م.
    ب/ واستخدمت، في مذكرة (هيئتها الوطنيَّة) لـ (الدستور الإسلامي)، نفس الدّيباجات المغرقة في الإبهام والتعميم، والتي لطالما وسمت خطاب التيَّار (السُّلطوي) ذاته، ومنها أن "الدستور الإسلامي صالح لكلّ زمان ومكان .. وأن الفقه الإسلامي فيه ما يكفى المسلمين لتشريعاتهم المختلفة، إن لم نقل فيه ما يكفى البشريَّة كلها، وفيه من القابليَّة للتطوُّر ما يفوق كثيراً النظم الحديثة" .. الخ (أنظر: مذكرة الهيئة الوطنيَّة للدستور الإسلامى، برئاسة الدّرديري محمد عثمان، إلى أعضاء الجمعيَّة التأسيسيَّة في 1/5/1967م).
    ج/ وعرَّفت (السودان)، بنص المادة/7 من مشروع ذلك الدستور (1968م)، باعتباره "جمهوريَّة .. تقوم على هدى الإسلام".
    د/ وجعلت (الشَّريعة الإسلاميَّة)، وفق المادة/113 منه، بمثابة "المصدر الأساسي لقوانين الدَّولة".
    هـ/ ونصَّت، تبعاً لذلك، ضمن المادة/115 منه، على وجوب "أن تصدر من التشريعات ما تعدَّل به جميع القوانين التي تعارض أيّ حكم من أحكام الكتاب والسُّنة".
    (75)
    ولعلنا نجد معنى كبيراً، في هذا السياق، لعودة د. غازي صلاح الدين، أحد أبرز مفكري نخبة الإسلام السّياسي الحاكمة الآن في السودان، بعد أكثر من ثلاثين عاماً من ذلك التاريخ، وأكثر من عشر سنوات من الانفراد بالسُّلطة، ووطء جمرها عملياً، كي يوجّه نقده الصريح لشعار (الإسلام هو الحل)، والذي كان شباب الإسلامويين ينظرون إليه، يوماً ما، كما لو كان آية قرآنيَّة، أو حديثاً شريفاً، فيعتبره د. غازي، مجرد "شعار فضفاض"، على حدِّ تعبيره، ويدعو، من ثمَّ، الحركات الإسلاميَّة، في عموم المنطقة، للصمود أمام تحدّيات (الحداثة)، ومواجهة الأوضاع المعقدة لـ (المرأة)، و(الأقليَّات)، و(الحريَّات)، في العالم الإسلامي، دون أن تكون (الشعارات) منافذ للهروب الأمامي من مواجهة أزمات الماضي والحاضر والمستقبل، وذلك من خلال التأكيد على (التعدُّديَّة الحزبيَّة)، واستيعاب (التيَّارات الحديثة)، وضبط مفهوم (الأمَّة) في سياق (الظرف) الدَّولي القائم، بقوانينه وتشريعاته المعروفة، والسَّعي لخلق (تحالفات) واسعة مع الثقافات (المغايرة) في آسيا وأفريقيا، و(تجنب) الدخول معها في (مواجهات عدائيَّة) تهيئ لاستقطابها من جهات معادية للعالم الإسلامي؛ فبدون ذلك لن يكون كسب هذه الحركات، حسب د. غازي، سوى الفشل والانزواء، حيث لن يذهب (الدّين)، وإنما ستذهب هذه (الحركات)، وتأتى حركات جديدة ربما تتبنى الإسلام جزئيَّاً، وربما لا تتبناه إطلاقاً (أقواس التشديد من عندنا، ضمن رصد "ضياء الدين بلال" لندوة "المركز القومي للإنتاج الإعلامي" بعنوان "مستقبل الحركات الإسلاميَّة بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر"، الرأي العام، 23/11/2001م).
    (76)
    مهما يكن من أمر ، فإن أمواج (التدافع) الفكري والسّياسي التي ما انفكت تتلاطم، بلا هوادة، طوال تاريخنا الحديث، وبالأخص منذ مطالع تسعينات القرن الماضي، حول جملة إشكاليَّات، من أهمّها وأخطرها إشكاليَّة (الدّين والدَّولة)، قد أخذت ترفع معها إلى أعلى حالة (الهشاشة) التي وسمت، في ما مضى، (عقلانيَّة) القوى الوطنيَّة الفاعلة، وسط الجَّماعة السودانيَّة المسلمة، يميناً ويساراً، وأن تهيئ لمقاربتها من منصَّة أعمق رسوخاً في الاستجابة لنداءات الواقع، ومقتضيات المعاصرة، وأكثر وثوقاً في الانتماء إلى (عقلانيَّة الإسلام)، ومنابع الحركة والتجدُّد في ثقافته، دون أن يفضى شئ من ذلك لإهدار (الدّين)، بالضرورة، الأمر الذي لم يكف، بعدُ، التيَّار (السُّلطوي) عن إفزاعها منه، وابتزاز مواقفها به.
    والواقع أن حالة (الإفزاع العام) باسم (الدّين) لهي ممَّا يناسب، تماماً، هذا (التيَّار) الذي لا بُدَّ له من (الإلحاد) عند الاشتراكيين حتى يبرّر وجوده، ومن (العلمانيَّة) عند الليبراليَّين حتى يعي ذاته، ومن (النصرانيَّة) في شكايات الجنوبيين حتى يصرخ: "وا إسلاماه"! فإن لم يجد شيئاً من هذا على أرض الواقع لاخترعه! وقد مضى هذا (التيَّار) يخترع، بالفعل، ويصمِّم لخصومه السّياسيين أقمصة (الإلحاد) و(العلمانيَّة) و(الكفر)، لما يربو على نصف القرن، تساعده، في ذلك، وتشدُّ من أزره، مؤسَّسات وقوى اجتماعيَّة، من أنشطها، كما سلف القول، هيئات ولجان (العلماء)؛ ولاتَ ساعة أهميَّة ألا تجئ هذه الأقمصة على مقاسات الخصوم، إذ يكفي أن تجئ على مقاسات المناهج التي يعتمدها هذا (التيار)، ويتبعها في التفكير وفى العمل السّياسي، أي (نمط تديُّنه) الخاص الذي يخلع عليه وحده قدسيَّة (الدّين)، من أوَّل رؤيته لقضايا الحرب، والسلام، والتشريع، والاقتصاد، والسّياسة الخارجيَّة، إلى آخر تصوُّره لمسائل الغناء، والاختلاط، وتعدد الزوجات، وكرة القدم، والأزياء النسائيَّة. ولا ريب أن لشعار (وصل الدّين بالدَّولة)، وسط هذا كله، مكانته المركزيَّة المعلاة.
    لقد درج هذا (التيار) على تفسير أيّ موقف مخالف لنمط (تديُّنه) هو، حول أيّ من هذه المسائل، باعتباره يتحرَّك فقط على خلفيَّة (الأهواء الذاتيَّة)، وباعتبار (مرتكبيه) محض (هوائيين) مَتهومين فى دينهم وأخلاقهم! فقد وصف د. الترابي، مثلاً، معارضى (قوانين سبتمبر) من المثقفين الشماليين المسلمين بأنهم "منافقون مارقون من بين صفوف المسلمين .. يتصنعون الغيرة على حقوق المواطنة .. وأنهم بحماية الأقليَّة غير المسلمة في الجنوب يريدون أن يلقنوا تلك الأقليَّة لتعبّر عن (أهوائهم) التي لا يستطيعون أن يفصحوا عنها" (من محاضرة له عن تطبيق الشَّريعة الإسلاميَّة في السودان ـ ضمن عبد الله على إبراهيم؛ الثقافة والدّيموقراطيَّة في السودان، ط 1، دار الأمين، القاهرة 1996م، ص 25). هكذا نرى أن خطة هؤلاء (المعارضين) لا تفعل أكثر من أن تفتح شهيَّة خصومهم، في التيَّار (السُّلطوي)، لدمغهم "بالتحايل للمروق عن الدّين"، بينما لا تفيد حتى في الدّفاع عن حقوق غير المسلمين الذين قد يرغبون أن يروا العرب المسلمين في السودان متمتعين بحقوقهم في الاعتقاد والرَّأي وأنواع الشغف الأخرى أوَّلاً، قبل أن يُصدّقوا مشروعهم (عبد الله على إبراهيم ، المصدر نفسه).
    (77)
    لذلك كله، لم يعد ثمَّة مناص، كما أشرنا، من أن ترتفع (عقلانيَّة البداهة)، وسط الجَّماعة السودانيَّة المسلمة، من حالة (هشاشتها) القديمة، لتدرج في مراقي الوعي بذاتها، وبمرجعيَّتها المتوطنة في قلب تربة الإسلام، بمبادئه الأساسيَّة، ومقاصده الكليَّة، الأمر الذي لا يمكن أن يتحقق طالما استمرَّ نطح السّياسة على حالته السّجاليَّة الرَّاهنة (فكي صلي .. ما بصلي)، دون أن تتصعَّد، داخل ثقافة هذه الجَّماعة، وتائر (تدافع) مطلوب بإلحاح، وقد تسبَّبت في تأجيله، طويلاً، حساسيات مُتوَهَّمة باسم الدّين، بين مَن يؤمنون بـ (عقلانيَّة الإسلام) السّياسيَّة القائمة، بالأساس، على الإعلاء من شأن العقل، والكرامة، والحريَّة، والشُّورى، والعدالة الاجتماعيَّة، وتمييز ما هو (دين) عمَّا هو (دنيا)، وبين فكر (التيَّار السُّلطوي) الذي ما ينفكُّ يثير غباراً كثيفاً حول (علمانيَّة) الآخرين، لا لـ (غرض) سوى أن (يتمكن)، خلف ذلك، من مصادمة كلّ هذه القيم والمبادئ! وباتجاه التدقيق في مدى سداد هذا الحكم، ينبغي تناول نماذج ساطعة من الأداء السّياسي لأبرز القوى التي يشكل ممثلو الجماعة المستعربة المسلمة (في السودان) ثقلاً معتبراً داخلها، بما فيها الحزب الشيوعي نفسه، وذلك للوقوف، عمليَّاً، على ما إذا كان ثمَّة، حقيقة، حزب (علمانىٌّ) واحد بينها. لكن، وبما أن كلَّ مصطلح هو، في الواقع، تاريخه الخاص، فلا بُدَّ من الانتباه، بادئ ذي بدء، إلى أن من يدعو، بين هذه القوى، في خطابه النظري، أحياناً، إلى (العلمانيَّة) أو (فصل الدّين عن الدَّولة)، فإنه سرعان ما يعود، من خلال أدائه العملي، للتأكيد على أنه إنما يستخدم هذه (المجازات) خارج سياقها الفكري الخاص في التاريخ الأوربي.
                  

12-06-2009, 07:26 AM

الهادي هباني
<aالهادي هباني
تاريخ التسجيل: 06-17-2008
مجموع المشاركات: 2807

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: عَتُودُ الدَّوْلَة ،،، ثَوابِتُ الدِّينِ أَم مُتَحَرِّكاتُ التَّدَيُّن؟! بقلم كمال الجزولي (Re: الهادي هباني)

    الحلقة الثانية عشر
    "يجب أن يحذر المسلمون في السودان من إكساب الدَّولة أيَّة صبغة دينيَّة، فهذا من شأنه زيادة حدَّة الاستقطاب والفعل المضاد"! الصادق المهدي
    (78)
    لئن كانت (علمانيَّة) عصر (الحداثة) الأوربي، بالمعنى الحرفي، هي ما يسعى التيَّار (السُّلطوي) لإسباغه على صورة القطاع المسلم من القوى الوطنيَّة السودانيَّة، وترويجه عنه في الذهنيَّة والوجدان الشَّعبيين، فلسوف تكشف أعجل نظرة إلى مطلوبات هذا القطاع، في مظانها الأصليَّة، عن كونه لم يسْعَ، يوماً، لإقصاء (الدّين) من حساباته، حتى وهو يتخذ موقف المعارضة المسلحة لمشروع (الدَّولة الدّينيَّة)، وإنما ظلَّ يستهدف تجذير مشروعه هو في قلب تربة (العقلانيَّة الإسلاميَّة)، والفرق بين المشروعين جلي.
    هكذا، وعلى حين انغلق التيَّار (السُّلطوي) في إسار التوتر (الشعاري) لمطلب (وصل الدّين بالدَّولة)، جاعلاً منه ترياقاً مضاداً لـ (حقوق الإنسان) التي تسم روح العصر، فإن البيان الختامي لمؤتمر أسمرا للقضايا المصيريَّة (23/6/1995م)، والذي يُعتبر أشمل التعبيرات التواثقيَّة التي صدرت حتى الآن عن (التجمُّع الوطني الديموقراطي)، بالثقل المسلم بين صفوفه، وبألوان طيفه شديدة التعدُّد والوسع، يميناً ووسطاً ويساراً، لم يستخدم، البتة، مصطلح (العلمانيَّة)، رغم أنه صدر بعد انضمام (الحركة الشعبيَّة)، بالثقل غير المسلم داخلها، لـ (التجمُّع)؛ بل استبطن (منهج المصلحة)، بذهن منفتح، ليخلص إلى حظر تأسيس الأحزاب على أسس دينيَّة، واعتماد المواطنة أساساً للحقوق والواجبات، وإلزام الدَّولة باحترام تعدُّد الأديان والمعتقدات، وعدم رؤية أيّ تناقض بين الإسلام وبين المبادئ العصريَّة لحقوق الإنسان المضمَّنة في المواثيق الدوليَّة والإقليميَّة، فضمَّنها مرجعيَّته الدستوريَّة، وأسَّس عليها برامجه الإعلاميَّة والتعليميَّة والثقافيَّة.
    (79)
    جاءت تلك المقرَّرات تلخيصاً لكل ما سبقها من تعبيرات تواثقيَّة بين أطراف التجمُّع الوطني، ومنها، على سبيل المثال، نصُّ المادة/10 من مشروع (الدستور الإنتقالي) الذي كان اقترحه التجمُّع، وأجازه في دورة الانعقاد الثانية لهيئة قيادته بلندن (26 يناير ـ 3 فبراير 1992م)، على واجب الدَّولة في أن "تعامل .. معتنقي الأديان السماويَّة وأصحاب كريم المعتقدات الأرواحيَّة دون تمييز بينهم في ما يخصُّ حقوقهم وحريَّاتهم المكفولة في هذا الدستور كمواطنين، ولا يحقُّ فرض أيّ قيود على المواطنين أو على مجموعات منهم على أساس العقيدة أو الدّين"؛ كما نصّت، بصيغة أشبه بـ (الصحيفة/دستور المدينة)، على أن "يهتدي المسلمون بالإسلام ويسعون للتعبير عنه، (و) يهتدي المسيحيون بالمسيحيَّة ويسعون للتعبير عنها، (و) يُحظر الاستخدام المسئ للأديان وكريم المعتقدات الروحيَّة بقصد الاستغلال السّياسي".
    ومن ذلك، أيضاً، النصُّ في (إعلان نيروبي، 17 أبريل 1993م)، حول (الدّين والسّياسة)، على "اعتبار مواثيق حقوق الإنسان الدوليَّة جزءاً من القوانين السودانيَّة، وبطلان ما يخالفها، وكفالة القانون للمساواة بين المواطنين على أساس حقّ المواطنة، واحترام معتقداتهم، وعدم التمييز بينهم بسبب الدّين أو العرق أو الجّنس، وبطلان ما يخالف ذلك، وعدم جواز تأسيس أيّ حزب سياسي على أساس ديني، ووجوب اعتراف الدَّولة واحترامها لتعدُّد الأديان وكريم المعتقدات، وتحقيقها للتعايش والتفاعل والمساواة والتسامح (بينها) .. وسماحها بحريَّة الدَّعوة السلميَّة للأديان، ومنعها الإكراه أو التحريض على إثارة المعتقدات والكراهيَّة العنصريَّة، والتزام التجمُّع بصيانة كرامة المرأة، والاعتراف لها بالحقوق والواجبات المضمَّنة في المواثيق والعهود الدوليَّة بما لا يتعارض مع الأديان٭، وتأسيس البرامج الإعلاميَّة والتعليميَّة والثقافيَّة القوميَّة على الالتزام بمواثيق وعهود حقوق الإنسان الإقليميّة والدوليَّة".
    ثمَّ جاء (مشروع التجمُّع للإجماع الوطني، منتصف يوليو 2003م)، ليؤكد على كلّ تلك المعاني، ويشدّد على حقيقة التعدُّد والتمايز الدّيني والعرقي والثقافي في السودان، وعلى دور الأديان السماويَّة وكريم المعتقدات، كمصادر للقيم الروحيَّة والأخلاقيَّة التي تؤسّس للتسامح والأخوَّة في الوطن والتعايش السّلمي والعدل والمساواة، وعلى ضرورة إقامة السَّلام العادل والدائم والوحدة الوطنيَّة التي تحقق الاستقرار والسَّلام الاجتماعي على أسس العدل والإرادة الحُرَّة والطوعيَّة لأهل السودان، وتضمين الدُّستورين، الانتقالي والدائم، جملة تدابير تؤسّس لاعتراف الدَّولة واحترامها لهذه المبادئ والقيم، وأن تشكل مواثيق حقوق الإنسان الدوليَّة والإقليميَّة جزءاً لا يتجزأ من الدُّستور، بحيث يُنص عليها تفصيلاً، وألا يُعتبر أيُّ تعبير يرد في الدستور أو في أيّ قانون بالإشارة إلى خضوع أيّ من تلك الحقوق (للقانون) أو (وفق إجراءات القانون) أو (وفق قانون عادل)، مقيِّداً لأيّ من تلك الحقوق، بل منظماً لممارستها، وأن يُعتبر أيُّ قانون أو مرسوم أو قرار أو أمر أو إجراء يصدر بالمخالفة لذلك باطلاً وغير دستوري.
    ولا يمكن ، بالطبع ، وصف شئ من كلّ هذا بـ (العلمانيَّة)، وفق ما استقرَّت عليه في حرفيَّة المصطلح الغربي، إلا بالكثير من المكابرة الفجَّة، والمغالطة الغليظة!
    (80)
    أما حزب الأمَّة فقد أعلن، مراراً وتكراراً، تمسُّكه بمقررات أسمرا، رغم مغادرته (التجمُّع)، بل واقترح على الحكومة التوقيع عليها "إختصاراً للوقت .. بحيث تكتمل الصورة، ويغلق باب المماحكة والجدل العقيم" (الصحافي الدولي، 10/9/2001م). علاوة على ذلك فإن الحزب ما يزال ناشطاً، إلى جانب (كيان الأنصار)، في تعميق رؤيته لإشكاليَّة (الدّين والدَّولة) من منظور (العقلانيَّة الإسلاميَّة)، ممَّا انعكس، مثلاً، في ورقة العمل التي أجازها مكتبه القيادي بتاريخ 9/7/2001م، حاملة موقفه التفاوضي النهائي في المؤتمر التحضيري الذي كان مزمعاً انعقاده للتداول حول الحلّ السّياسي الشامل، قبل (نيفاشا)، حيث طالب الحكومة بإجلاء (مسألة الدّين والدَّولة) بما "يؤكد أن المواطنة هي أساس الحقوق والواجبات .. (وأنه) لا يحق لأيّ مجموعة .. أن تنال امتيازات بسبب انتمائها الدّيني، (وأن) الأحزاب .. تقوم على أساس مفتوح لكلّ المواطنين .. ولا تفرّق بين الناس على أساس ديني، (وأن) القوانين السَّارية على كل المواطنين مصادرها تكون مقبولة لهم جميعاً، (وأن) القوانين ذات المصادر غير المقبولة للجميع يكون تطبيقها مخصَّصاً .. (و) أن تكون مصادر التشريع هي إرادة الأمَّة على ألا تخالف الشَّريعة، الأديان السماوية، الثقافات الوطنية والمواثيق الدولية".
    ولا يستطيع، أيضاً، سوى مكابر أن ينسب إلى (العلمانيَّة) ، بمفهومها الغربي الأصلي، شيئاً من عناصر هذه الرؤية، أو من نتاج الكدح النظري المرموق للسيد الصادق المهدي، رئيس الحزب، وإمام الأنصار لاحقاً، والذي ظل يتحمَّل، منذ ظهور مؤلفه (أحاديث الغربة)، في منتصف سبعينات القرن الماضي، وحتى صدور كتابيه (نحو مرجعيَّة فقهيَّة جديدة) في منتصف هذا العقد، ثمّ (الإنسان بنيان الله)، خلال يوليو الماضي، فضلاً عن العديد من مقالاته ومنبريَّاته، بمنهجيَّة رصينة، وبصرف النظر عن أيّ تقويم لأدائه السّياسي العملي، سواء في الحكم أم في المعارضة، فذاك شأن آخر، قدراً لا يستهان به من عبء المنازلة الفقهوفكريَّة للتيَّار (السُّلطوي) في حركة الإسلام السّياسي في بلادنا، والتصدّي لمشروع الدَّولة الدّينيّة الذي دشَّنه النميري، بمعاونة هذا التيَّار، خلال السَّنوات التي سبقت انتفاضة أبريل 1985م، وتواصل بعد عودة هذا التيَّار للدفع باتجاه النهايات القصوى للمشروع منذ مطالع تسعينات القرن الماضي.
    (81)
    على تعدد الجَّوانب التي انداح إليها جهد هذا الفقيه المفكر، ظلت موضوعة (الديموقراطيَّة) هي محور عمله النظري الأساسي، فلا ينفك يعود إليها، المرَّة تلو المرَّة، باذلاً جهداً مقدَّراً في توطينها في تربة الإسلام الذي ".. يوافقها في خاماتها المبدئيَّة، ولكنه لا يفصّل نظاماً ديموقراطياً محدَّدا، ويترك ذلك لظروف الزمان والمكان" (أحاديث الغربة، ص 38). ويبدى استنارة كبيرة حين يؤكد أن الإسلام "ليس (فيه) نظام حكم معيَّن، و(أن) النظم التي أقامها المسلمون في تاريخهم نظم بشريَّة .. لا يوجد ما يُلزم بها الآخرين .. جاء الإسلام بمبادئ سياسيَّة مثل الحريَّة، العدل، المساواة، ضرورة الحكم للجَّماعة، ألا يعاقب أحد إلا بقانون، ألا يعاقب أحد بجريمة غيره، أن يكون الأمر شورى .. هذه المبادئ التي أتى بها الإسلام، منذ خمسة عشر قرناً، تطوَّرت حتى ماثلتها النظم الديموقراطيَّة الحديثة .. (التي) وضعت للمبادئ السّياسيَّة ضوابط مؤسَّسة لممارستها بدقة، والحيلولة دون الانحراف (عنها) .. إن أهمَّ صفة للتعاليم الإسلاميَّة السّياسيَّة أنها خلت من تلك الضوابط خلوَّاً كان يُنتظر أن يعالجه الناس، اجتهاداً، بوضع النظم والمؤسَّسات .. ولكن هذا لم يحدث، ممَّا جعل (تلك المبادئ) معلقة بحيث أهملها حكام المسلمين في أغلب تاريخهم السّياسي. إن استصحاب الضوابط التي طوَّرتها نظم الحكم الحديثة .. ضرورة، وما لا يتمُّ الواجب إلا به فهو واجب .. (هذه) المبادئ طابق فيها تطوُّر الفكر الإنساني حقائق الوحي .. (ولكن) تقنين الالتزام (بها)، والمؤسَّسات اللازمة لتطبيقها .. ممارسات بشريَّة يقرّرها البشر، ولا توجد فيها أنماط ملزمة لأحد" (تحديات التسعينات، ص 197). كما يبدى استنارة مجيدة حين يستند إلى رأى الإمام الفخر الرَّازي في انعقاد العصمة من الخطأ لمجمل الأمَّة، لكي يعقد السيادة للشعب، ويجعل المرجعيَّة لهيئاته المنتخبة، انتخاباً حراً، في تقرير كلّ شئ، بما في ذلك التقرير بشأن فهم (النصوص) غير القطعيَّة، وتحديد رأي الدّين في المستجدَّات، لأن ".. هذا النهج وحده هو الذي يجنبنا متاهات عانى منها الفكر الإسلامي قروناً طويلة " (نفسه، ص 193). ويبدي، أيضاً، ذات القدر من الاستنارة حين يحذر المسلمين النيجيريين من مغبَّة التطبيق القسري، والانفعالي، للشَّريعة الإسلاميَّة، على حساب وحدتهم الوطنيَّة، وتجربتهم الديموقراطيَّة، والحكمة المتاحة لهم في التعلم من تجارب الآخرين، مهما جاءهم من يزيّن لهم ذلك، ضارباً المثل باستقدام النميري، في سبتمبر 1984م، ضمن احتفاله بمرور عام على تطبيقه الوحشي للشَّريعة، بعض الضيوف من العالم الإسلامي، (فهنأوه) على (إنجازه)، "ولكن، بعد سقوط نظامه، دعوتُ، في فبراير 1987م، علماء ومفكرين من كل أنحاء العالم الإسلامي .. ليأتوا ويراجعوا مغامرة نميري الإسلاميَّة، وبعد أن درسوها قالوا إنها معيبة في جوهرها، وصياغتها، وتطبيقها!" (من محاضرته بكادونا، برعاية جمعيَّة المسلمين في نيجيريا، في 30/6/2001م، الصحافي الدولي، 22/7/2001م). ويبدي ذات الاستنارة، كذلك، حين يحذر المسلمين في السودان من "إكساب الدَّولة أية صبغة دينيَّة، (فهذا) من شأنه زيادة حدَّة الاستقطاب والفعل المضاد" (الرأي العام، 20/8/2001م)، وذلك في مواجهة الصيحات المتشنجة التي ما تزال، حتى الآن، تعيد إنتاج شعار (الحاكميَّة) الخوارجي الأجوف.
    ومع ذلك فإن السيّد الصادق كثيراً ما عبَّر عن رفضه لاستخدام مصطلح (علمانيَّة) في توصيف النظر الذي يتبناه هو وحزبه لإشكاليَّة (الدّين والدَّولة)، كون هذه الكلمة "حُبلى بدلالات فلسفيَّة غير مقبولة"، على حد تعبيره، مقترحاً "أن الوصف الأمثل للدُّستور القائم على المساواة بين المواطنين، بغضّ النظر عن الدّين أو الثقافة أو الهويَّة الإثنيَّة أو النوع، هو أن يوصف كذلك" (من محاضرته بكادونا ، مصدر سابق).
    لذا، وانطلاقاً من أن لكلّ ثقافة (عقلانيَّتها) الخاصَّة، فعندما يؤكد السيّد الصادق موقف حزبه الرافض لمفهوم ومصطلح (فصل الدّين عن الدَّولة)، ويصف ذلك بأنه "شعارات وتهريج لا بد من إيقافه باعتباره أمراً محسوماً بموجب ميثاق القضايا المصيريَّة في أسمرا" (المصدر نفسه)، فإننا لا نجد أدنى شبهة تناقض بين احتجاجه هذا وبين (النهج) الفقهوفكري المستنير الذي اختطه واعتمده هو وحزبه، بقدر ما نلمس تعبيراً صريحاً عن الرغبة في الاتساق المستقيم مع (العقلانيَّة الإسلاميَّة)، ورفض الالتباس غير المرغوب فيه، والذي يورثه، من جهة، مصطلح (وصل الدّين بالدَّولة) الذي يؤسّس، باستخدامه من جانب الإسلام السّياسي المعاصر، لمشروع (الدَّولة الدّينيَّة) المنبتّ عن (عقلانيَّة الثقافة الإسلاميَّة)، في ما يتصل بوجوب (التمييز) بين ما أمر به الرسول (ص) المؤمنين من (الدّين) فوجب اتباعه، وبين ما كان من أمر (الدنيا) فهم أدرى به، تماماً كالالتباس الذي يمكن أن يخلقه، من جهة أخرى، مصطلح (فصل الدّين عن الدَّولة)، بظلاله (العلمانيَّة)، كمظهر لـ (عقلانيَّة الثقافة الغربيَّة)، وكأسلوب معيَّن، في التفكير والتفلسف، يختلف عن أسلوب (الثقافة الإسلاميَّة)، تأسس في أوربا في مطالع عصر (الحداثة)، نتيجة ملابسات محدَّدة لصراع محدَّد جرى في ظرف تاريخي محدَّد بين المجتمع وبين (الإكليروس الكنسي) في القرون الوسطى الأوربيَّة، كما سبق وأوضحنا.
    وإنْ تبقت، بعد ذلك، مساحة للاختلاف المحتمل والمشروع، وسط الجَّماعة المسلمة، فلتكن (للحوار) العقلاني حول تفسير وتطبيق مفهوم (التمييز)، بدلاً من شغلها (بالسجال) العبثي، أو (حوار الطرشان)، بين مصطلحي (الوصل) و(الفصل) بلا طائل.
    (82)
    أما الحزب الاتحادي الدّيموقراطي، فمع كونه خاض تجربة (الدّيموقراطيَّة الثالثة) تحت شعار وبرنامج (الجمهوريَّة الإسلاميَّة)، إلا أن رؤيته (العقلانيَّة) لقضيَّة (الدّين والدَّولة)، في منظور (المصلحة)، انعكست، عمليَّاً، في جملة من مواقفه وترتيباته السياسيَّة، أبرزها (مبادرة السَّلام السودانيَّة) التي أطلقها مع الحركة الشعبيَّة بأديس أبابا، في 16/11/1988م، لتهيئة المناخ الملائم لعقد (المؤتمر القومي الدُّستوري) الذي ظلت تطالب به غالبيَّة الشَّعب وقواه الأساسيَّة. وقد نصَّ البند (أ/1) من تلك الاتفاقيَّة على "تجميد موادَّ الحدود والمواد ذات الصلة في قوانين سبتمبر 1983م، وألا تصدر أيَّة قوانين تحتوى على مثل تلك الموادّ .. إلى حين قيام المؤتمر". ولئن كان مطلب الحركة الشعبية الثابت، في ما مضى، هو إلغاء تلك القوانين التي أصدرها النميري، بدعم ودفع التيَّار (السُّلطوي) في السودان وفى المنطقة، فإن الحزب الاتحادي، بقيادة رئيسه السيّد محمد عثمان الميرغني، زعيم طائفة الختميَّة، أبدى مستوى مرموقاً من الاستعداد لمنازلة (الشعارات الفضفاضة)، وتغليب (منهج المصلحة)، لأجل التوصُّل إلى ذلك الاتفاق الذي استقبل بترحيب هائل من الشارع السوداني، المسلم وغير المسلم، كونه فتح، في ذلك الوقت الباكر، باباً واسعاً للأمل في إمكانية وقف الحرب الأهليَّة، وتجاوز حالة الاختناق الوطني إلى آفاق الوحدة، والسَّلام، والمساواة، والدّيموقراطيَّة.
    وفى خطابه إلى الرئيس النيجيري إبراهيم بابنجيدا، فى 21/9/1991م، بمناسبة إطلاق الأخير لمبادرته من أجل السلام في السودان، في أعقاب انقلاب (الجبهة الإسلاميَّة) في الثلاثين من يونيو 1989م، والذي قطع الطريق أمام إنفاذ (اتفاق الميرغني ـ قرنق)، تعمَّد الزعيم الاتحادي تذكير الرئيس النيجيري بأن ذلك (الاتفاق) كان يهدف، في الواقع، لمعالجة كلّ قضايا السودان، لا (قضيَّة الجنوب) وحدها، وأنه كان قد حظي بموافقة الحكومة المنتخبة، وكلّ القوى الأخرى، ما عدا حزب (الجبهة الإسلاميَّة)، وأن الحكومة كانت قد حدَّدت، فعليَّاً، يوم 14/7/1989م موعداً لإبلاغ الحركة الشعبيَّة بتلك الموافقة، كما حددت شهر سبتمبر من ذلك العام موعداً لعقد المؤتمر، باعتباره الآلية الوحيدة المجمع عليها من كلّ تلك القوى التي كانت قد انضوت، وقتها، تحت لواء (التجمُّع الوطني)، وهي الآليَّة التي أثبتت التجربة السودانية أنه ليس ثمة طريق سواها "لإيقاف الحرب الأهليَّة، ونزيف الدَّم، والخراب، والدمار .. (و) تأسيس السودان الحديث .. فى إطار الوحدة، والسلام الدائم، والدّيموقراطيَّة، و .. حقوق الإنسان".
    وفي مذكرته إلى سكرتاريَّة الإيقاد، بمناسبة تضمينها مطلب (الدَّولة العلمانيَّة) في صلب (مشروع إعلان المبادئ) الصادر عنها في 20/5/1994م، اتخذ الميرغني موقفاً ناقداً من استخدام (المصطلح)، مؤكداً على "أهمية إعطاء الأولويَّة لوحدة السودان، وتجنب المصطلحات التي تقود إلى البلبلة وسوء الفهم" (مذكرة حول السلام والوحدة والدّيموقراطيَّة، 27/12/1994م).
    وفى (نداء السودان) الصادر في القاهرة بتاريخ 1/3/2001م، عن رئيسي حزبي (الاتحادي) و(الأمة) اللذين هما، في الوقت نفسه، زعيما أكبر طائفتين دينيَّتين في البلاد، عرَّف الطرفان (السلام العادل) و(التحوُّل الدّيموقراطي) المطلوب تحقيقهما، بأنهما يعنيان: كفالة "الحرية، والمساواة على أساس المواطنة، و .. التعايش بين الأديان والثقافات .. وحقوق الإنسان .. (و) التبادل السلمي للسُّلطة عبر انتخابات عامة حرة يحتكم فيها الجميع للشعب .. (و) نبذ العنف، ورفض القهر والتسلط .. (و) الاحتكام للشعب وسيلة لحسم الخلافات، وتحديد المسئوليات في ظل دستور ديموقراطي يكفل الحقوق للجميع".
    وفى رسالته التي وجَّهها من القاهرة، فى منتصف 2001م، طالب السيد محمد عثمان الميرغني جماهير حزبه "بالالتفاف حول مبادئ الحزب وثوابته المتمثلة في الدّيموقراطيَّة وحقوق الإنسان وبناء السودان الجديد القائم على المساواة وحقوق المواطنة" (الأيام، 24/7/2001م).
    ويمكننا، بالطبع، أن نلمس في هذا الطرح تغليباً لنفس الاجتهاد الذي يتبناه السيّد الصادق وحزبه، والقائل بأن النظم الديموقراطيَّة الحديثة تماثل المبادئ التي جاء بها الإسلام قبل خمسة عشر قرناً، ويطابق تطوُّر الفكر الإنساني فيها حقائق الوحي. كما يمكننا، كذلك، ملاحظة الاتفاق بين الزعيمين الدّينيين على الأخذ بـ (فقه المصلحة) الذي يعقد السَّيادة للشعب، ويجعل المرجعيَّة في تقرير أموره إلى هيئاته المنتخبة ديموقراطيَّاً، حيث العصمة لمجموع الأمَّة، لا لإمام فرد، أو لنخبة حاكمة.
    ولا يجوز، هنا أيضاً، نسبة شئ من هذه الرؤية (العقلانيَّة) الإسلاميَّة إلى (العلمانيَّة)، وفق أبجدية المصطلح الغربي، اللهم إلا من باب (الحَوَل) الفكري والسّياسي!
    (83)
    ولا بُدَّ أن نشير هنا إلى أن للترابي نفسه طرحاً يكاد يكون مشابهاً، لولا أنه يحوم، بتقلقل، حول الموقف الإسلامي من قضيَّة (الدّيموقراطيَّة)، والتي يفترض أن تشمل الحريَّات والحقوق، دون أن ينصبَّ على المفهوم نفسه بثبات. فعلى حين يقرُّ، مثلاً، بـ (المقتضى المتقارب)، على حدّ تعبيره، لآليتي (الشُّورى) و(الدّيموقراطيَّة)، يعود، من فوره، ليضرب جداراً سميكاً بينهما، يتمثل، حسب رأيه، في اشتمال الأولى على العنصر (الأخلاقي)، وافتقار الأخرى له (من حديثه لتلفزيون أبو ظبي مساء السبت 5/2/2000م). غير أن مجتهداً آخر، هو الشيخ محمد الغزالي، ينفذ إلى المسألة بشكل أكثر وثوقاً، حيث يستشهد بالحديث الشريف: "الحكمة ضالة المؤمن، أنَّى وجدها فهو أحقُّ الناس بها"، ليؤكد أن "الدّيموقراطيَّة تنظيم للعلاقة بين الحاكم والمحكوم (بما يوفر) الكرامة .. للمؤيّد والمُعارض، و .. يشيّد أسواراً قانونيَّة عالية لمنع الفرد من أن يطغى، ويشجّع المُخالف على أن يقول بملء فمه: لا .. (دون أن) يخشى سجناً ولا اعتقالاً .. الاستبداد كان الغول الذي أكل ديننا ودنيانا، فهل يُحرَّم على .. المسلمين أن يقتبسوا بعض الإجراءات التي فعلت الأمم الأخرى لمَّا بُليَت بمثل ما ابتلينا به؟! إن الوسائل التي نخدم بها عقائدنا .. جزء من الفكر الإنساني العام .. إن دولة الخلافة الراشدة اقتبست .. من مواريث الروم والفرس دون غضاضة .. إنه ليس من العقل أن نغمض العين على مقابح الحكم الفردي عندنا، وننظر بازدراء إلى الضمانات التي توفرت لصلاح الحكم في بلاد أخرى. إنه ليس من العقل أن نجمِّد الجهاز الفقهي عندنا قرونا طويلة ثم ننعى على الذين اجتهدوا وتصبّب عرقهم وهم يضبطون سياسة الحكم والمال في بلادهم .. إنه لممّا يثير الآلام أن عدداً من المتديّنين .. يستقى ثقافته من كتابات ظهرت وشاعت أيام الاضمحلال الفكري في تاريخنا، أو أيام الموالاة للظلمة .. إن التعصُّب للجَّهل والقصور بلاهة وسخف!" (دستور الوحدة الثقافية بين المسلمين، ص 182 ـ 186).
    (84)
    أما الحزب الشيوعي، الأكثر تعرُّضاً للاتهام بالإلحاد، فلم يكن، للمفارقة، بثقل العنصر المسلم في قيادته وقواعده، بعيداً، في أيّ وقت، عن الطرح (العقلاني) لقضيَّة (الدّين والدَّولة)، فقد سعى، عمليَّاً، عندما احتدم الجدل حولها عام 1988م، إلى فضّ الالتباس الذي يخلقه استخدام مصطلحات (دولة علمانيَّة/دستور علماني/دستور إسلامي .. الخ)، وتقديم البديل الاصطلاحي والمفهومي المناسب، وذلك خلال المشاورات التي أجراها (مجلس رأس الدولة)، آنذاك، مع الكتل البرلمانيَّة، بعد إقالة السيّد الصادق لحكومته الثانية، تمهيداً لتوسيع الائتلاف الحاكم بإشراك الجبهة الإسلاميَّة القوميَّة، حيث شدَّد الحزب على أنه ليس معنياً بحرفيَّة المصطلحات، أو بما إذا كان مصطلح (العلمانيَّة) بكسر العين أو بفتحها، وإنما يولى كلَّ اهتمامه لـ (الدّيموقراطيَّة) كحريَّات عامَّة، وحقوق أساسيَّة، ونظام حكم ومؤسسات، وأنه يعارض (الدَّولة العلمانيَّة) عندما تصادر (الدّيموقراطيَّة)، كما فعل مع ديكتاتوريَّة عبود (العلمانيَّة)، ومع نظام مايو الذي بدأ يساريَّاً وعلمانيَّاً، قبل أن يعلن قوانين سبتمبر 1983م، وينصّب نميري إماماً! ودعا الحزب إلى تجاوز استقطاب (دولة دينيَّة/دولة علمانيَّة)، مقترحاً مفهوم ومصطلح (الدولة المدنيَّة)، باعتبار عُشرة السودانيين، في الشمال والجنوب، مع القانون المدني، والمحاكم المدنيَّة، والشَّريعة الاسلاميَّة، والمحاكم الشرعيَّة (راجع: م. إبراهيم نقد؛ حول الدولة المدنيَّة، دار عزة).
    مع ذلك وغيره، جرى، وما زال يجرى التركيز على تكفير الحزب، منذ خمسينات القرن الماضي، وحتى صدور الفتوى المعطوبة، الشَّهر الماضي، من (الرابطة الشَّرعيَّة). فما تراه تفسير ذلك في خلفيَّة الحقائق الموضوعيَّة المتصلة بفكر الحزب، وتاريخه، ونشاطه العملي؟!
    الهامش:
    ٭ أثارت النصوص المتعلقة بحقوق المرأة في هذه المواثيق خلافاً كبيراً داخل صفوف (التجمع) نفسه، والقوى الاجتماعيَّة الداعمة له، حيث رأى فيها الكثيرون تمييزاً ضد المرأة يصادم المعايير الدوليَّة لحقوق الإنسان. ولأن هذه قضية تفصيليَّة تقع خارج نطاق مبحثنا هذا، فإننا نكتفي، هنا، بالإشارة إلى كونها تشكل، في جوهرها، أحد الأسئلة الشائكة على صعيد المستوى السائد من الوعي الاجتماعي وسط الجماعة المستعربة المسلمة في بلادنا، بأكثر من كونها مجرَّد موضوع (للاحتجاج) السياسي المطلبي على أهميته. ولذلك فهي رهينة للجهود الفقهوفكريَّة المرغوب فيها، حثيثاً، ضمن حركة الاستنارة المرجوَّة من الأقسام المتقدّمة لهذه الجماعة، نساءً ورجالاً.
                  

12-08-2009, 08:10 PM

الهادي هباني
<aالهادي هباني
تاريخ التسجيل: 06-17-2008
مجموع المشاركات: 2807

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: عَتُودُ الدَّوْلَة ،،، ثَوابِتُ الدِّينِ أَم مُتَحَرِّكاتُ التَّدَيُّن؟! بقلم كمال الجزولي (Re: الهادي هباني)

    الحلقة الثالثة عشر


    "أصبح لزاماً على حزبنا أن ينمِّى خطه الدعائي حول قضيَّة الدّين الإسلامي وعلاقته بحركة التقدُّم الاجتماعي، أهميَّة هذا الخط لا تقتصر على الرُّدود على ما يُثار، بل تتعدَّى ذلك لجعل الدّين الإسلامي عاملاً يخدم المصالح الأساسيَّة لجماهير الشَّعب، لا أداة في يد المستغلين والقوى الرَّجعيَّة"
    عبد الخالق محجوب من تقريره السّياسي أمام المؤتمر الرابع
    (الماركسيَّة وقضايا الثورة السُّودانيَّة) أكتوبر 1967م
    (85)
    إنتبه الحزب الشيوعي (السوداني) ٭باكراً لأهميَّة (الدّين) الحاسمة، ليس في مستوى الحياة الفرديَّة، فحسب، بل وعلى صعيد الوعي الاجتماعي٭٭، والصراع الفكري والسياسي، مثلما واصل التعبير، في شتى المناسبات، وبمختلف الأشكال، عن ضرورة إعادة صياغة الإشكاليَّة٭٭٭ المتعلقة بـ (الدّين والدَّولة) من منظور (عقلاني إسلامي)، بصرف النظر عن مواضعات الماركسيَّة التقليديَّة في هذا الشأن، ضمن السّياق التاريخي العام لتطور الفلسفة الأوربيَّة كلها من عقلانيَّة مغايرة تشكلت في رحم الثقافة الإغريقيَّة القديمة، كما سنرى لاحقاً، الأمر الذي يفضح كون اتهامه بـ (الإلحاد) هو محض (مزايدة) مكشوفة في سياق التشويه المتعمَّد لحقائق الحياة الفكريَّة والسّياسيَّة في بلادنا.
    لقد ظلَّ الحزب يراكم، منذ نشأته الأولى، بل منذ ما قبل الإعلان حتى عن تكوينه، رسميَّاً، عام 1946م، إشارات، كما إشارات الفنار المتقطعة، في ما يصدر عنه مؤسَّسيَّاً، أو من خلال التعبيرات المفصحة لمختلف قادته ورموزه، نحو معنى واضح، فحواه: (ماركسيون نعم، ولكننا لسنا ملحدين، وليس في فكرنا أو سياستنا إلحاد). فعلى سبيل المثال:
    (1) صرَّح بذلك حسن الطاهر زروق، أحد أبكار مؤسِّسي الحزب، حين ألمح، وقتها، إلى الخلل الأساسي في التجربة السوفيتيَّة، وإلى إمكانية نشوء نظام جديد يتفادى سلبياتها، قائلاً: "ليس بالضرورة أن نتطابق (معها) .. قد نستفيد (منها) ونتفادى سلبياتها مثل غياب ضمانات حريَّة وسلامة الفرد، وعدم تقدير دور )الدّين( في حياة الشعوب" (السودان الجديد، 1/9/1944م ـ ضمن محمد نوري الأمين، رسالة دكتوراه).
    (2) وعلى أيام (الفتنة الأولى)، في أكتوبر 1954م، عندما وُزّع منشورٌ مدسوسٌ على الحزب يتهجَّم على الإسلام، نشر عبد الخالق محجوب، السكرتير السابق للحزب، والذي أعدمه جعفر نميرى، لاحقاً، عام 1971م، مقالاً في الصحف، نيابة عن (الشيوعيين السودانيين)، ينفى فيه عنهم تهمة الإلحاد، وهو المقال الذي استشهد به الإمام عبد الرحمن المهدي، آنذاك، محذراً من الفتنة، ومعتبراً ذلك النفي كافياً للمسلمين (م. س. القدَّال؛ معالم في تاريخ الحزب الشيوعي السوداني، ص 83).
    (3) وفى إثر انشقاق حزب الشعب الديمقراطي من الحزب الوطني الاتحادي، عام 1956م، هاجم الاتحاديون السيّد على الميرغني، مطلقين شعارات (الكهنوت مصيرو الموت) و(مصرع القداسة على أعتاب السّياسة)، فنعى عبد الخالق على الحزب الوطني الاتحادي انه لم يضع مفهوماً إسلاميَّاً، أو نظريَّة إسلاميَّة، لتحرير الجَّماهير من الطائفيَّة (الإسلام والسياسة، ص 135، ضمن المصدر نفسه، ص 92).
    (4) وإبَّان الأزمة التي انفجرت داخل الجمعيَّة التأسيسيَّة، في سياق (الفتنة الثانية) التي وقعت في عقابيل حادثة معهد المعلمين العالي (1965م)، حيث تطاول طالب بالتباذؤ على بيت النبوَّة، فنسبه (الأخوان المسلمون)، في لهوجة مريبة، إلى الحزب الشيوعي، الأمر الذي انتهى بقرار الجمعيَّة التأسيسيَّة بحلِّ الحزب وطرد نوابه منها، خطب محمد إبراهيم نقد، نائب دوائر الخريجين عن الحزب، أيَّامها، وسكرتير الحزب حاليَّاً، مؤكداً براءة الحزب من تهمة الإلحاد، ومنبّهاً إلى أن موقف الحزب من الدّين واضح في دستوره، وفى تاريخه الطويل، وتاريخ أعضائه (المصدر، ص 157).
    (5) وفى 1967م جاء في كلمة عبد الخالق في الاحتفال الجماهيري بفوز أحمد سليمان، مرشح الحزب بدائرة الخرطوم شمال وقتها، قوله: "إن الاشتراكيَّة الوضَّاءة هي إسلام القرن العشرين" (المصدر، ص 172).
    (6) وفى يناير 1968م أصدر عبد الخالق كتيّباً فند فيه فكر (الأخوان المسلمين)، فميَّز بين الإسلام الذي وصفه بأنه دعوة "للحقّ والعدل والإيمان"، وبين الدعوة (الأخوانيَّة) التى هاجمها بقوة لكونها، على حدّ تعبيره "تتقمَّص ثياب الإسلام، فتظهر شيئاً وتخفى شيئاً .. (و) تسوق الناس على حساب العقيدة، وهي تعلم أن صريح العقيدة والدّين لا يساير ما تهدف إليه" (أفكار حول فلسفة الأخوان المسلمين، دار الفكر الاشتراكي، ص 6).
    (7) كما أصدر الرشيد نايل المحامي، والقيادي البارز بالحزب، عام 1968م أيضاً، كتيّباً آخر في تفنيد دعوى (الأخوان) جاء فيه أن مهمَّة الدَّعوة الإسلاميَّة "تزكية نفوس (البشر) .. من أدران الشّرك، وظلام الجاهليَّة، والظلم، وتعليمهم الحكمة، والكتاب، ونقلهم من .. الأميَّة والتأخُّر إلى .. العلم والإدراك"؛ وأن رسالة محمد (ص) جاءت "لتنقل العرب من أوضاعهم الجاهليَّة المتأخّرة إلى حالة اجتماعيَّة وأخلاقيَّة .. متقدّمة؛ وأن القرآن .. يدعو (المؤمنين) إلى العمل الصالح، والبرّ، والإحسان إلى الفقراء المساكين، والبُعد عن طغيان السُّلطة، وطغيان الثراء .. (وإن) الذين يعتبرون أيَّة دعوة أخلاقيَّة أو إصلاحيَّة اجتماعيَّة أمراً مخالفاً للمنهج الإسلامي إنما يسعون إلى هدم أركان الإسلام ومبادئه" (الأخوان المسلمون أعداء الله وأعداء كتابه، ص 38 ـ 40).
    (8) وفي أبريل من نفس عام 1968م قدَّمت فاطمة أحمد إبراهيم، عضو اللجنة المركزيَّة للحزب، محاضرة بجامعة القاهرة فرع الخرطوم، حول (قانون الأحوال الشَّخصيَّة)، أكدت فيها أن الإسلام أنصف المرأة، في جوهره، غير أن تخلف قوانين الأحوال الشخصيَّة "في معظم البلدان الإسلاميَّة .. ناتج من .. أن شعوب تلك البلدان .. تجهل جوهر الإسلام .. وتخلط (بينه) وبين المعتقدات الطائفيَّة ، والمفاهيم الخرافيَّة، والعادات والتقاليد الموروثة، و .. (قد) لعب بعض (رجال الدّين) والمنظمات الإسلاميَّة دوراً .. أساسيَّاً في استمرار ذلك الوضع .. وهذا بالطبع ، لا يعفى القوى ذات المصلحة .. في التغيير من مسئوليَّتها في .. التعمُّق .. في .. الدّين، وإبراز جوهره .. التقدُّمي الذي يتعارض .. مع حركة التغيير .. لمصلحة الجماهير .. إن الدّين الإسلامي ضد الاستعباد، والاستغلال، والاستبداد، والتسلط، والظلم، والعنف، والانحلال .. (و) مع العدل، والشُّورى، أي الدّيموقراطيَّة، والمساواة، والتحرُّر، والقيم الحميدة .. و .. لا تعارض بين الدّين الإسلامي والاشتراكيَّة .. (التي) تدعو لنفس الأهداف، وتعتبرها مبادئ أساسيَّة" (حول قضايا الأحوال الشخصيَّة ، ص/ أ ، ب ، ج ، ن 37).
    (9) وفى مذكرته إلى المجلس العسكري، عام 1985م، طالب الحزب بأن يضمن الدُّستور الانتقالي أعلى درجة من احترام الأديان، وأكد على أن الحزب ".. يستمدُّ .. من أصول الشريعة الإسلاميّة ما يلائم العصر من أحكام، ويحترم كلَّ الأديان وكريم المعتقدات، ويعارض كلَّ دعوة فوضويَّة للمساس بمعتقدات وبمقدَّسات الشَّعب، ويعارض، بنفس المستوى، المتاجرة بالدّين في السّياسة وشئون الحكم" (المذكرة، أغسطس 1985م).
    وما من شك، هنا أيضاً، في أن أحداً لا يستطيع، إلا بالكثير من حُمرة العين، أن ينسب شيئاً من هذا الطرح إلى (العلمانيَّة)، على حدّ المصطلح الغربي!
    (86)
    ولأن الواقع هو المختبر الحقيقي لاتساق وصدقيَّة الأفكار والأفعال، فلا بُدَّ، في هذا المقام، من إيراد الحقائق التالية:
    (1) على حين ظلت طبول الاتهام بالإلحاد تقرع حول الحزب، لم يشعر أيُّ عضو فيه، ولو للحظة واحدة، بأنه ملزم بأن يصير (ملحداً) كي ينال أو يستمر في عضويَّته! إن أقصى ما اجتذب الشيوعيين السودانيين إلى الماركسيَّة أنها نظريَّة علميَّة دنيويَّة يمكن التعويل عليها في تفسير ظاهرات وعلاقات الاقتصاد والاجتماع والثقافة وما إلى ذلك. وعليه فإن (إلحاد الماركسيَّة) لم يمثل بالنسبة لهم، في أيّ وقت، شيئاً أكثر من إمكانيَّة (دمغ) الكيمياء أو علوم الفلك بالإلحاد، كون علاقة منهجها بالدّين لا تختلف عن علاقة أيّ منهج علميّ وضعيّ آخر به. وفى الحقيقة "لم يمنع اختلاف المنهج الدّيني مع المنهج العلمي العديد من العلماء المتديّنين من الوصول إلى أبهر النتائج العلميَّة. وكما أنه لا يوجد عاقل اليوم .. يتساءل إن كان من المباح شرعاً القول بكرويَّة الأرض، وإجراء العمليَّات الجراحيَّة لاستئصال المرض .. فكذلك لا يجب أن يتساءل عاقل اليوم إن كان من المباح شرعاً الأخذ بالنظريَّة العلميَّة الماركسيَّة لتحليل المجتمع" (مصطفى التواتي؛ التعبير الديني عن الصّراع الاجتماعي في الإسلام، ص 17 – 18).
    (2) تشترك الماركسيَّة، كفلسفة ماديَّة، مع كلّ الفلسفات الماديَّة الأخرى، منذ الإغريق حتى عصر الحداثة البرجوازيَّة، في النظر العلمي، ولا يوجد سبب واحد لتخصيص الماركسيَّة وحدها بالهجوم تحت شعار (الإلحاد) سوى أنها، وعلى عكس الفلسفات الأخرى، لم تعتبر هدفها الأساسي (تفسير الطبيعة)، مجال المواجهة الكلاسيكي بين (الفلسفة) و(الدّين)، وإنما اعتبرت مهمتها الأساسيَّة "تغيير المجتمع". وقد لخص ماركس هذا الفهم بعبارته الشهيرة: "لم يفعل الفلاسفة سوى تفسير العالم بطرق مختلفة، لكن المهمَّ، الآن، هو تغييره" (ماركس ـ ضمن "حول الدّين" ، ص 28).
    (3) إذن فإن (تغيير) العالم هو (جريرة) ماركس الكبرى التي استحقَّ عليها، من دون سائر الفلاسفة الماديين، غضبه (مالكي) العالم من الطبقات المستغلة (بكسر الغين)، وتتمثل المفارقة الغريبة، هنا، في أنه ".. في حين أن عداوة الدّين .. كانت تكبيرة الحرب التي شنَّها فلاسفة البرجوازيَّة على الإقطاعيَّة وحليفتها الكنيسة .. تتخفى هذه البرجوازيَّة نفسها، اليوم، في محاربتها للماركسيَّة بأقنعة دينيَّة لطالما حاولت بالأمس تمزيقها والتشنيع عليها" (المصدر، ص 17). فبكلمة (تغيير) الواردة في النصّ المشار إليه "كان ماركس يعهد إلى الفلسفة بدور جديد .. كان يحدث ثورة في الفلسفة غايتها الأولى تحقيق ثورة في العالم. لم يعد مرجع الفلسفة تاريخها الذاتي .. بل أصبح الواقع الموضوعي المطلوب تغييره هو مرجع الفلسفة .. ولهذا لم يعد غريباً أن يهجر ماركس .. أو أن يرمى بعيداً بالأسئلة الفلسفيَّة .. التي كانت قائمة في زمانه .. ليذهب إلى حقل نظري يتوافق مع مشروعه الجديد، فيبحث في السّياسة والاقتصاد وآليَّة المجتمع الرَّأسمالي، أي كان ينتج معرفة نظريَّة عن مستويات المجتمع المطلوب تثويره، فكان يحقق وحدة السّياسة والنظريَّة، أو العلم والسّياسة، أو بشكل أدق: كان ينتج علم الثورة" (فيصل دراج، م/النهج، ع/23/24، 1989م، ص 187 – 188).
    وربَّما لا يحتاج المرء، بعد إدراك هذه الحقيقة، إلى كبير عناء لمعرفة (السّرّ) الذي أقام دنيا البرجوازيَّة في وجه الماركسيَّة، ولم يقعدها حتى الآن، لما يزيد على القرن ونصف القرن!
    (4) ومع كون الماركسيَّة فلسفة ماديَّة، إلا أنها تتميّز عن الفلسفات الماديَّة الأخرى، بكونها، للمفارقة، الأكثر بُعداً عن الانشغال بـ (نقد الدّين)، بل إن مشروعها نفسه قد تأسَّس، في حقيقته، أصلاً، على (نقد النقد للدّين) الذي كان رائجاً، أوان ذاك، في الفلسفة الغربيَّة، من باب تفسير عذابات الإنسان، ممَّا عدَّته الماركسيَّة وعياً زائفاً. وقياساً بحجم إنتاجيهما في المجالات الأخرى، فإن ما كتبه ماركس وإنجلز، حول هذه القضيَّة، من الضآلة بمكان، وقد انحصر جُله في نقد ماركس، عام 1845م، وفي ما لا يتجاوز الخمسة وستين سطراً، للنقد الذي كان خصَّصه أستاذه السابق فويرباخ للدّين، حيث لخَّص ماركس أفكار الأخير، في هذا الصَّدد، بقوله: "ينطلق فويرباخ من أن الدّين يجعل الإنسان غريباً عن نفسه، ويشطر العالم إلى عالم ديني موضوع للتمثل، وعالم واقعيّ دنيويّ، ويرى أن عمله يقوم على جرِّ العالم الدّيني إلى قاعدته الدنيويَّة" (حول الدين، ص 55). ومن أهمّ ما أخذ ماركس وإنجلز على فويرباخ أنه توهَّم أن (الدّين) هو مصدر (الاستلاب)، و"ظنَّ أن إلغاء الدّين سيؤدّى .. إلى إلغاء الاستلاب عن الإنسان (التواتي؛ ص 15) . ومن ثمَّ خرج ماركس بفكرته الأساسيَّة التي تنبّه إلى "استلاب العلاقات الاقتصاديَّة في المجتمع الرَّأسمالي، ولذلك فمن الواجب البحث عن أصل الداء (الاستلاب) في موضعه الأصلي، لا في الدين". هكذا "فرَّق ماركس بين الفلسفات التي تكتفي بالبحث عن تفسير مثالي للكون، ومن ضمنها فلسفة فويرباخ، وبين الفلسفة التي تخدم التاريخ"، واعتبر أن مهمَّة هذه الأخيرة "إزالة القناع عن الاستلاب الذاتي في أشكاله (غير المقدَّسة)، وبذلك يتحول نقد السَّماء إلى الأرض، ونقد الدّين إلى الحقوق، ونقد اللاهوت إلى نقد السّياسة" (نفسه ، ص 16 –17). ولعلَّ المفارقة المدهشة تتبدَّى، هنا، جليَّة، في أنه، وعلى حين يجرى، بنشاط جم، وإصرار عنيد، تصوير الماركسيَّة، صباح مساء، وكأنها لم تتأسَّس ، أصلاً، في أفق الفلسفة الإنسانيَّة إلا لنشر (الإلحاد)، فإن أيَّة قراءة موضوعيَّة لنصوصها سرعان ما تكشف عن الحقيقة التي لا مراء فيها، والتي جرت، دائماً، محاولة طمسها من جانب آلة الدعاية البرجوازيَّة، وهي إن الماركسيَّة لم تنشغل، فى الواقع، أصلاً، بما انشغلت به الفلسفة الكلاسيكيَّة: الصّراع مع (اللاهوت) حول (تفسير الطبيعة)، وإنما اهتمَّت، على العكس من ذلك تماماً، بإخراج الفلسفة ذاتها من حقل الميتافيزياء ####physics إلى حقل التاريخ وتفسير المجتمع، ولم تكن معنيَّة تبعاً لذلك، منطقاً وفعلاً، بـ (نقد الدّين)، بل بـ (نقد نقاد الدّين) البرجوازيين الذين اعتبروا الإلحاد شرطاً أساسياً في مشروعهم النضالي الرامي لقلب البنية الاجتماعيَّة القديمة. و"هكذا حوَّل ماركس مفهوم الاستلاب من مجال الدّين، عند (فويرباخ)، إلى مجال المجتمع والاقتصاد البرجوازيَّين" (نفسه).
    (5) يتبقى أن نذكر أنه ما من نص تعرَّض للاجتزاء المُخلّ، والانتزاع المتعسّف من السّياق، تمهيداً لسوء التفسير المتعمَّد، كنصّ ماركس الذي تكفلت آلة الدعاية البرجوازيَّة العالميّة باختزاله، حدَّ الركاكة، إلى ما لا يزيد عن كلمات ثلاث: "الدّين أفيون الشعوب!"، وإشهاره، من ثمَّ، بهذه الصورة، طوال سنوات (الحرب الباردة)، حتى قرَّ، أو كاد، في وعى العامَّة، أن تلك الجملة، مقلوبة المعنى، فعلاً، في عزلتها عن سياقها الذاتي، من جهة، وعن سياق التطور التاريخي لفكر ماركس نفسه، من الجهة الأخرى، إنما هي كلُّ ما (نطق) به ذلك الفيلسوف الألماني! على أن ذينك السّياقين (الذاتي والتاريخي) يشكلان سراجين لا يمكن أن يستغني عنهما أيُّ باحث عن حقيقة هذا النصّ بتجرُّد وموضوعيَّة:
    المسألة الأولى: هي أن إعادته إلى موقعه الحقيقي، في سياقه الذاتي، توفر، على الأقل، لمن يتفق أو يختلف معه، أن يفعل ذلك على بيّنة، بشرط التماسه، لا في صورته المجتزأة المشوَّهة على صفحات مجلة (إنكاونتر)، أو مثيلاتها من الإصدارات الصفراء التي دأبت على نشرها وكالة المخابرات المركزيَّة الأمريكيَّة، بل كاملاً في مصدره الأصلي (كارل ماركس؛ نقد فلسفة الحقوق عند هيغل)، أو حتى ضمن الأدبيَّات المُيسَّرة، كالأنطولوجيا الماركسيَّة (حول الدين، ص 33 ـ 34).
    المسألة الثانية: هي أن أيَّ دارس للفلسفة يعلم أن موضوعة (الإلحاد)، في الفلسفة الغربيَّة عموماً، سابقة، تاريخياً، على الماركسيَّة بوقت طويل، حيث شكلت روح الفلسفة الماديَّة الكلاسيكيَّة كلها، وأصبحت أحد أمضى أسلحة البرجوازيَّة الصاعدة خلال النصف الثانى من الألفية الثانية (القرنين 16 ـ 18)، في حربها على النظام الاقطاعي، وحليفه الأقوى (الإكليروس الكنسي) الذي لطالما وفر له مبرّراته الأيديولوجيَّة، وعمل على تأبيد سلطته الماديَّة والمعنويَّة بالترهيب، والتكفير، وصكوك الغفران، حتى تماهى ذلك (الإكليروس)، تماماً، في الذهنيَّة العامَّة، مع (الدّين) نفسه. في إطار ذلك الصّراع التاريخي والفكري، بظروفه الخاصَّة، وشروطه المحدَّدة، كان ماركس الشاب ما يزال، مثل الكثير من الشباب الأوربي وقتها، متأثراً ومبهوراً بأسلوب فويرباخ، فيلسوف الإلحاد البرجوازي الأكبر في القرن التاسع عشر، فكتب نصَّه ذاك تحت ذلك التأثر والانبهار. وإذن، ولأجل تقعيده جيّداً، من الناحية المعرفيَّة الموضوعيَّة، في سياقه الفكري التاريخي، وجب استصحاب الحقيقة المتصلة بانتماء ذلك النصّ إلى مرحلة كتابات ماركس الباكرة، حين كان ما يزال مبهوراً ومتأثراً، كما أشرنا، بفويرباخ، وهي المرحلة التي يطلق عليها الباحثون والمؤرخون الأكاديميون، أحياناً، (مؤلفات ماركس الشاب)، تمييزاً لها عن (مؤلفات الرشد).
    (6) مهما يكن من أمر، فإن الشيوعيين السودانيين الذين لم تجتذبهم، أصلاً، هذه الناحية في الماركسيَّة، ولم يجدوا فيها ما هو جدير باهتمامهم لدرجة التأثير على نشاطهم الفكري أو السياسي، بل، من شدَّة انصرافهم عنها، حيث لا يكاد أغلبهم يجزم بمعرفة وثيقة بنصوصها، بما يضاهي، أو حتى يقترب من معرفتهم بجوانبها الأخرى، الاقتصاديَّة السّياسيَّة والاجتماعيَّة بالأساس، لم يشغلوا أنفسهم بالسعي كي ما يستبينوا، بوضوح كافٍ، أن هذه الناحيَّة الإلحاديَّة، كما في أغلب الفلسفات السائدة في الغرب اليوم، وفى مقدّمتها (الوضعية positivism)، تعود بجذورها إلى فلسفات ظهرت وازدهرت، كما سبق أن أشرنا، في اليونان وروما القديمة، على أيدي ديمقريطس (حوالى 460 ـ 370 ق. م) وأبيقور (حوالى 341 ـ 270 ق. م) ولوكريتس كار (حوالى 99 ـ 55 ق.م) وغيرهم، وذلك قبل ظهور الماركسيَّة بقرون طوال، ثم تطوَّرت، لاحقاً، عند فلاسفة الإلحاد البرجوازي الذين جعلوا من (نقد الدّين) عملهم الأساسي، على خلفيَّة ملابسات ذلك الصراع المرير في التاريخ الأوربي، بين حلف الكنيسة/الإقطاع وبين البرجوازيَّة الصناعيَّة الصاعدة، ومن ورائها مجموع الشعب الكادح، كديدرو (1713 ـ 1784م)، وهولباخ (1723 ـ 1789م)، وهيلفيتيوس (1715 ـ 1787م)، وبالطبع فويرباخ (1804 ـ 1872م).
    (87)
    شهد عام 1967م، في سياق المراكمة الفكريَّة الكميَّة على صعيد مسألة (الدين والدَّولة)، حدثاً تحويليَّاً كيفيَّاً استثنائياً، حيث جرى الإعلان، بشكل مؤسَّسيّ لأوَّل مرَّة، ومن داخل أعلى سلطة في الحزب الشيوعي (السوداني)، عن ضرورة الانتقال من (إشارات الفنار المتقطعة)، إلى تحشيد كلّ ما من شأنه أن يستكمل (النقص) و(القصور) اللذين يرتبهما غياب هذا (المنظور) عن خطوط الحزب الفكريَّة والسياسيَّة والدَّعويَّة، بما يتجاوز مجرَّد مقتضيات الدفاع عن النفس بإزاء (هستيريا الرجعيَّة) إلى المدى الذي يتقدَّم فيه الدّين كسلاح للثورة والتغيير الاجتماعي، وذلك في إطار مقرَّرات (المؤتمر الرابع) المنعقد في أكتوبر من ذلك العام:
    (1) فمن جهة، ورد في (البرنامج) المجاز في ذلك المؤتمر أن "الإمبرياليَّة العالميَّة وطلائعها المحليين .. يحاولون تصوير الدّين الإسلامي بوصفه عقيدة تؤمن بالفوارق الطبقيَّة وتعادى الاشتراكيَّة، ينحاز إلى جانب الاستعمار الحديث ويرفض الاستقلال الوطني، يدفع شعوبه إلى قبول العيش تحت ظلّ الاستعمار (المؤمن) ضد الاشتراكيَّة (الملحدة) الخ .. (وهذه) الشُّعوب .. ترفض هذا التزييف للإسلام، وترى في دينها قوَّة للجماهير المناضلة في سبيل الكرامة والحُريَّة .. و .. الاشتراكيَّة بوصفها النظام الوحيد الذي يسمو بالقيم الروحيَّة، ويقيم العدالة والمساواة بين البشر. والحزب .. يجاهد بحزم وبصبر لتحرير الدّين .. بوضعه في مجرى تطوُّره الحقيقي .. ضد التمييز الطبقي وحكم الطاغوت، ومن أجل السَّير بالحضارة الإسلاميَّة إلى عالم القرن العشرين" (برنامج الحزب الشيوعي السوداني ـ دستور الحزب، 1967م).
    (2) من جهة أخرى، جاء في وثيقة ذلك المؤتمر الأساسيَّة، الموسومة بـ (الماركسيَّة وقضايا الثورة السودانيَّة ـ تقرير السكرتير العام للحزب المقدَّم إلى المؤتمر الرابع)، وفى معرض توصيف الأزمة السّياسيَّة التي نشبت عقب ثورة أكتوبر 1964م، وأدخلت مسيرة التطور السياسي لبلادنا، آنذاك، في عنق زجاجة، أن ".. لجوء الثورة المضادَّة إلى هذا السلاح يؤكد إفلاسها السياسي. لقد ظلت القوى الرَّجعيَّة تعمل في إطار الحركة السّياسيَّة (العقلانيَّة) .. ولكن تصاعد نشاط الجماهير .. دفع بها إلى ترك الحياة السّياسيَّة (العلمانيَّة) .. ونشر جو من الدَّجل اليميني .. يهدف إلى قيام سلطة رجعيَّة (باسم) الدين. إن علينا أن نقرَّ بأن السلاح الفكري للثورة المضادة واتجاهاتها .. تسير دائماً تحت مظلة التهريج باسم الدين .. فلا يكفي فى مواجهة هذا الموقف الاقتناع بالدفاع عن السياسة (العلمانية) وشعار (فصل السياسة عن الدين) .. من أجل وحدة بلادنا التي لا يمكن أن تبنى فوق (تعصب) جاهل باسم الدين". ثم يمضى التقرير ليؤمِّن على أن.. إن خط حزبنا بين الجماهير في الدفاع المستميت عن مصالحها، وفى الاقتراب اليومي من طرق معيشتها وتقاليدها السّياسيَّة والاجتماعيَّة، سيجعل هذه الجماهير تقتنع، بتجاربها، ببطلان الهستيريا الرَّجعيَّة، وستكشف الدَّجل الطبقي الذي تحاول القوى الرَّجعيَّة إلباسه مسوح الدين". ولكن الوثيقة سرعان ما تستدرك أن ".. هذا وحده (لا يكفى) لمواجهة خطر مستمر من الهجوم الفكري". ومن ثمَّ تبلغ ذروة تلخيصاتها واستنتاجاتها بقولها: "أصبح (لزاماً) على (حزبنا) أن ينمِّي خطه الدعائي حول قضية الدين الإسلامي وعلاقته بحركة التقدُّم الاجتماعي". وأن أهمية هذا الخط ".. لا تقتصر على الردود على ما يثار من قبل أجهزة الدعاية الرجعيَّة، بل يتعدَّى ذلك لجعل الدّين الإسلامي عاملاً يخدم المصالح الأساسيَّة لجماهير الشَّعب، لا أداة في يد المستغلين والقوى الرَّجعيَّة". وتمضى الوثيقة إلى تحديد المستوى المطلوب لهذا الخط بقولها "نحن في حاجة (إليه) في المستوى الفلسفي، إذ تجري محاولات دائبة في معاهد التعليم للتخلي عن الحياة العلمانيَّة، وتربية جيل بتزوير الأفكار الإسلاميَّة ضدَّ التقدُّم الاجتماعي والاشتراكيَّة .. لمواجهة هذا الوضع الخطير أصبح (لزاماً) على حزبنا أن يدخل بين الطلاب، لا بصفته داعية للنضال السّياسي، بل كقوَّة فكريَّة تتصدَّى لهذا الخطر، وتواجهه بخط يضع الدّين في مكانه بين حركة الشعوب" (أقواس التشديد من عندنا ـ الماركسيَّة وقضايا الثورة السودانيَّة، دار الوسيلة 1987م، ص 168 ـ 170).
                  

12-09-2009, 07:10 PM

الهادي هباني
<aالهادي هباني
تاريخ التسجيل: 06-17-2008
مجموع المشاركات: 2807

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: عَتُودُ الدَّوْلَة ،،، ثَوابِتُ الدِّينِ أَم مُتَحَرِّكاتُ التَّدَيُّن؟! بقلم كمال الجزولي (Re: الهادي هباني)

    الحلقة الأخيرة


    "النظريَّات الاجتماعيَّة لا تصلح للمناقشة هكذا، ومناقشة النظريَّة الماركسيَّة بهذا الأسلوب تطاول ما بعده تطاول، الحزب الشيوعي (السوداني) برئ من تهمة الإلحاد، وموقفه من الدّين واضح في دستوره، وفى تاريخه الطويل، وتاريخ أعضائه. إننا لا نقول هذا عن خوف، فنحن لم نتعلم الخوف في الماضي، ولسنا على استعداد لتعلمه اليوم"!
    محمد إبراهيم نقد أمام الجمعيَّة التأسيسيَّة في جلسة 15/11/1965م عند مناقشة حلّ الحزب
    (89)
    نخلص، ممَّا تقدَّم، إلى نتيجة لا تخلو من مفارقة. فالتيَّار (السُّلطوي المنكفئ) عَمَدَ، منذ سنوات الاستقلال الباكرة، كما قد رأينا، إلى استغلال (الحساسيَّة) الاستثنائيَّة التي تكتسيها موضوعة (الدّين) في الذهنيَّة الشعبيَّة غير المتطوّرة، كي يمرّر من تحتها، تاريخياً، وبلا هوادة، ابتزازه لـ (عقلانيَّة) القوى الوطنيَّة، في جانبيها، التقليدي واليساري، على السَّواء، وتفسير أي موقف يستبطنها باعتباره يتحرَّك فقط في خلفية (الأهواء الذاتيَّة)، ومن ثمَّ تقديم (مرتكبيه) إلى تلك الذهنيَّة الشعبيَّة كمحض (هوائيين) متهومين في دينهم وأخلاقهم! ولعلنا نجد التلخيص الأوفى لذلك في الأسلوب المرعب، مثلاً، الذي انتهجه د. الترابي لدحض مآخذ الكثير من مثقفي الجَّماعة المستعربة المسلمة على إصدار قوانين تقيِّد، باسم الشَّريعة الإسلاميَّة، حريَّات غير المسلمين، وتؤذي الوحدة الوطنيَّة، باعتبار أن أصحابها "مناصري العلمانيَّة منافقون مارقون من بين صفوف المسلمين"، وما إلى ذلك ممَّا سلفت الإشارة إليه.
    لكن، برغم نجاح ذلك الابتزاز، ردحاً طويلاً من الزمن، في أسر (عقلانيَّة) القوى الوطنيَّة التقليديَّة في بلادنا، ودفعها، تحت سنابك تلك التهم والحساسيَّات، للتراجع، حتى عن (بداهاتها) القديمة، إلى حالة من العجز عن التصدّي لتحدّيات الفكر الإسلامي الشاخصة في أفق المستجدات التي لا تكفُّ الحياة عن طرحها على جميع الأصعدة، إلا أن الجهود الفقهوفكريَّة المرموقة للإمام الصادق المهدي وبعض نجباء الأنصار، من جهة، ولبعض رموز الجمهوريين ممَّن وجدوا في الكثير من تراث الأستاذ الشهيد محمود محمد طه باباً واسعاً لشجاعة الوعي وجرأة الاستنارة، من جهة أخرى، إضافة إلى إسهام بعض المحسوبين على حركة الإسلام السيَّاسي نفسها، في السودان والمنطقة، ممَّن أضحوا يوالون حركتهم، مؤخَّراً، بشواظ من النقد السديد، من جهة ثالثة؛ كلُّ ذلك وفر، مع الزمن، مجموعة روافع من شأنها أن تدفع، حثيثاً، باتجاه شكل مرغوب فيه من عصف الأدمغة داخل الجَّماعة المسلمة نفسها، لتحقيق المجابهة المستقيمة مع التيَّار (السُّلطوي) الذي ما ينفكُّ يفرز، يوماً بعد يوم، المزيد من جماعات التشدُّد والتكفير.
    أما بالنسبة للحزب الشيوعي تحديداً، كنموذج لقوى اليسار في هذا التيَّار (العقلاني)، فرغم أنه كان سبَّاقاً بـ (انتباهته) الباكرة إلى ضرورة منازلة التيَّار (السُّلطوي) من منظور أوسع لقضيَّة (الدّين والدَّولة)، إلا أن أداءه (العملي)، بعكس ما جرى في جبهة القوى التقليديَّة، تجمَّد عند تلك (الانتباهة)، لا يتعدَّاها قيد أنملة. لقد كرَّت مسبحة السنوات، بل والعقود المتطاولة، دون أن تتحرَّك الأمور بشأن ذلك (العصب الحسَّاس) الذي لمسته، بتفتح مدهش وجرأة نادرة، تلك الوثيقة العُمدة (الماركسيَّة وقضايا الثورة السودانيَّة)، وعمرها الآن يناهز ثلثي عمر الحزب، فظلَّ باقياً على حاله القديم، خافت الرنين، باهت الأثر، مطموراً تحت شواغل المدافعات السياسيَّة والفكريَّة اليوميَّة، فلا يكاد يحظى، من أشكال وصور التعبير عنه، إلا بأخفضها صوتاً، وبأكثرها تقلقلاً.
    هكذا، وفي ما عدا بضع مساهمات متفرّقة، في المستوى (الفكري)، لأفراد من داخل الحزب ومن خارجه، وبضع إفصاحات موسميَّة، ذات طابع (سياسي) في غالبها، باسم الحزب مؤسَّسيَّاً، ظلَّ نصيب هذه الجبهة في ذلك الجهد، وبرغم تلك البداية التحويليَّة الضاريَّة عام 1967م، أقلَّ بكثير، للأسف، بل لا يكاد يُذكر، بل قد ينحصر في محض تعبيرات مقتضبة، كتضمين فقرة، مثلاً، في برنامج الحزب الصادر عن مؤتمره الخامس (يناير 2009م)، بما لا يتجاوز، قيد أنملة، مضمون ذات الفقرة في برنامج المؤتمر الرابع (أكتوبر 1967م)، وذلك بالمقارنة مع ما كان ألزم نفسه به، قبل نيّف وأربعين عاماً، وما كان متوقعاً منه، منذ ذلك التاريخ البعيد، من بلورة للمنظور الموعود حول إشكالية (الدّين ـ الثورة)، ممَّا كان بشَّر به وقتها، لا كمحض ترسيم إجرائي لبرنامج حزبي جديد، وإنما كقوَّة دفع نوعيَّة تشكل، في مستوى الصّراع الفكري، إضافة مطلوبة بإلحاح، من الزاوية المنهجيَّة، باتجاه إثراء الحوار المرغوب فيه، ليس بين الشيوعيين فحسب، وإن يكن ذلك أمراً مقدَّماً لأغراض الحدّ الأدنى من وحدة الفكر والعمل الحزبيين، ولكن بين سائر (عقلانيي) الجَّماعة السودانيَّة المسلمة، الأمر الذي يمثل مطلباً ملحَّاً لتثوير رؤيتها لذاتها، وتقديرها الصائب لموقع دينها وثقافتها وأثرهما ضمن طبوغرافيا التساكن المأزوم في بلادنا، كمقدمة لازمة لإحسان خطابها تجاه (الآخر)، بما يستبطن جدوى الاستمرار في إجراء المراجعات اللازمة لاستكمال عناصر (الإشكاليَّة)، أو حتى إعادة صياغتها، بأعلى قدر من الحريَّة الفكريَّة. وهذا لا يكون بغير المثابرة (الفكريَّة) الدءوبة على تجويد المراكمة، والإرساء، والإقامة، والتركيب للهيكل النظري العام، رفضاً لمواريث (الابتزاز) الذي يمارسه التيَّار (السُّلطوي)، من جهة، ولخطة الاكتفاء البائس، من جهة أخرى، بمجرَّد الاصطفاف السَّلبي على جانبي ساحة الصراع بين هذا التيَّار وبين (المُساكنين) في الوطن من أهل (الأديان والثقافات الأخرى)، (تهويلاً)، حيناً، من (حساسيَّة) موضوعة الدّين، أو إبداءً، حيناً آخر، لمحض الامتعاض (السّياسي) من (المتاجرة بالدّين)، أو (تصدّياً)، في أفضل الأحوال، تحت ضغط الضمائر المثقلة، لا للإعلاء من شأن الفهم الذي "يضع الإسلام فى مكانه الصحيح من حركة الشَّعب"، بل لـ الدفاع (الدُّستوري) عن (حقوق) هؤلاء (المساكنين) التي يهدرها (المشروع الاسلاموي السلطوي)، فلكأن هذا المشروع ليس خاطئاً إلا بسبب وجود (المساكنين) من (غير المسلمين)، أو أنه يقع صحيحاً تماماً، بمفهوم المخالفة، لو افترضنا جدلاً غياب هؤلاء (المساكنين)! فلا يُلام الترابي، والأمر كذلك، حين يعبّر عن بَرَمِهِ بوجود هؤلاء (المُساكنين) الذين (يُعَقدون) مهمّة حركته، ويثيرون (المصاعب) أمامها، وهو ذات (البَرَم) الذي أفضى إلى خطة (التفكيك الوطني) الجاري تنفيذها حالياً، وذلك في معرض تقديره السالب (لقيمة) هذه (المُساكنة) المتعدّدة المتنوّعة في نسق البنية الهيكليَّة لعلاقات الثقافة والسّياسة في السودان بقوله: ".. كان (قدرنا)، (نحن) في السودان، أن (نبتلى) ببلد مركب معقد البناء يكاد يمثل كل الشعوب الأفريقية بلغاتها وسحناتها وأعراقها وأعرافها" (أقواس التشديد من عندنا، أنظر: م/الصياد، ع/مايو، بيروت 6/5/1988م، ص 30).
    (90)
    لا بُدَّ، إذن، من فحص عوامل هذا التقصير (الفكري) من جهة معظم الإنتليجينسيا السودانية اليساريَّة، بما في ذلك إنتلجينسيا الحزب الشيوعي، في ما يتصل بمسألة (الدّين والدَّولة)، والمضي إلى أبعد من ذلك لمقاربة الإجابة الشافية بين جملة العوامل التي أثرت سلباً على تكوين الخصائص الأيديولوجيَّة، والقدرات القياديَّة، الفكريَّة والسياسيَّة، للطبقة الوسطى السودانيَّة التي تنحدر منها، بالأساس، غالب فئة الإنتلجينسيا، فوسمتها بالضَّعف الذاتي الذي ظلَّ يتمظهر، تاريخيَّاً، في شتى الصُّور، وأمثلته كثيرة، ليس هذا مجال إيرادها، فهي تشكل مبحثاً مستقلاً يجدر أن يرتفع بمعطياته ومطلوباته الرئيسة، من زاوية النظر النقديَّة، إلى مستوى الحوار المستنير باتجاه الكشف عن الذهنيَّة التي قعدت بقدرات (العقلانيين) الشيوعيين واليساريين السودانيين، المنتمين إلى الجَّماعة المستعربة المسلمة، والثقافة العربيَّة الإسلاميَّة، وعن العوامل الباطنيَّة التي أثرت تاريخيَّاً على حركتهم إزاء هذه الإشكاليَّة، بما في ذلك ميراث القطع السالب، منذ كسر الدَّولة المهديَّة، مع نظام التعليم الدّيني، دون التزوُّد من نظام التعليم (الحديث!) بغير قشور فنياته، وأدواء (مركزويَّته) الغربيَّة (أنظر كتابنا: إنتلجينسيا نبات الظل، دار مدارك 2008م).
    لقد كبَّلت هذه الذهنيَّة، مع بعض الاستثناءات النادرة، طاقات من يستبطنون النهج (العقلاني) من يساريّي إنتلجبنسيا الجماعة المستعربة المسلمة في السودان، وشيوعييهم، بالأخص، ذوي الثقل الأساسي بين قيادات الحزب وقواعده، وروافدهم وسط الحركة الطلابيَّة، فحاصرتها في خانة "الرُّدود"، فقط، "على ما يُثار"، في حين كان يُنتظر منهم أن يشكلوا طاقة الدفع الأساسيَّة لتيَّار الاستنارة (العقلانيَّة)، وتلك، في غالبها، ردود (سياسيَّة) أو (حقوقيَّة) سبق أن حذر عبد الخالق من الرُّكون إليها، وتبنَّى المؤتمر الرابع تحذيره.
    لقد استحلب هذا الوضع ريق الشهيَّة لدى خصوم الحداثيين، اليساريين والشيوعيين بالذات، لدمغهم "بالتحايل للمروق عن الدين"، كما في ذمّ الترابي المار ذكره، حتى أن متخصّصاً في نقد مناهج اليسار والقوى الليبراليَّة السودانيَّة، المستعربة المسلمة بالأخص، اعتبر، من موقعه هو نفسه داخل التيَّار (العقلاني)، خطة هؤلاء في نصرة آراء لهم في الحياة السياسيَّة والاجتماعيَّة عن طريق الاحتجاج، مثلاًً، بحقوق (المساكنين) من غير المسلمين ضرباً من (الآفروعربيَّة) الكاسدة، وتقريعها، بالتالي، كخطة مكشوفة لا تفوت على فطنة الغلاة من نشطاء التيَّار (السُّلطوي) الذين يرون أصحابها محض مخاتلين "يدسُّون مشروعهم (العلماني) وراء تظلمات الجماعات الأفريقية غير المسلمة"، مع أن هذه الخطة لا تسعد حتى من تزعم الدفاع عن حقوقهم من غير المسلمين الذين "قد يرغبون في رؤية العرب المسلمين في السودان متمتعين بحقوقهم في الاعتقاد والرأي وأنواع الشغف الأخرى أولاً، قبل أن يصدّقوا مشروع الآفروعربيين الحضاري" (عبد الله على إبراهيم؛ الثقافة والديمقراطية ..، ص 25).
    (91)
    هكذا، ولأن الحزب واصل، بلا طائل، استعصامه التاريخي بذهنيَّة (الاستعلاء) السَّلبي على (قبول) مبدأ اتهامه بالإلحاد خلال الفترة (1954م ـ 1965م)، ولم تقرع ناقوس الخطر لديه، بما يكفي، (الفتنة الأولى) التي سعى التيَّار (السُّلطوي) بين حركة الإسلام السّياسي لإشعال فتيلها بمنشور طنون المشبوه (أكتوبر 1954م)، وقعت (الفتنة الثانية) بحادثة معهد المعلمين عام 1965م، تحت ظروف قلق اليمين من تزايد نفوذ الحزب، دون أن يكون الأخير قد راكم، بعد مرور أكثر من عشر سنوات على تلك (الفتنة الأولى)، رصيداً من دروس كبيرة تؤهله، في هذا المجال، لمواجهة الهجمة الجديدة بهجمة مضادَّة من جنس المسألة الفكريَّة نفسها (الموقف من الدّين)، وليس من خارجها، بما يمكنه من أخذ زمام المبادأة، من داخل الفكر الإسلامي والثقافة الإسلاميَّة، لفضح زيف وهشاشة الركائز التي يتوكأ عليها اليمين في تلك المسألة بالباطل، ويعصمه من الانسياق وراء التدابير التي هدفت، في ما كان واضحاً، إلى جرِّه لخوض المعركة في ردهات القضاء، خارج ميدانها الأساسي، مما حاصر جهوده في محض الجدل حول نصوص الدستور، وفنيات التقاضي، والقوانين الإجرائيَّة.
    بالنتيجة، وبرغم الأداء الجيِّد، بكلّ معايير الفكر (الحقوقي)، وقواعد إدارة (النزاع القضائي)، فإن أقصى ما استطاع الحزب تحقيقه من نجاحات، في تلك المعركة، لم يتجاوز كسب النقاط القانونيَّة في قاعات المحاكم، كما لم يتجاوز، في المستوى السّياسي العام، تعبئة القوى النقابيَّة والمهنيَّة لفضح (زيف) و(خواء) الشعارات (الديمقراطيَّة) التي كانت تتمسح بها قوى اليمين. أما في المستويين الفكري والدَّعوي، في ما يتصل بالقضيَّة الأساسيَّة، (قضيَّة الدّين) نفسها، فقد أدَّى تقصير الحزب إلى بقاء (الغوغائيَّة) على حالها، سلاحاً يستخدمه أعداؤه ضده بسلاسة، دون أن يتعرَّضوا لاختبار حقيقي، بأيّ قدر، أو تخضع مناهجهم وتأويلاتهم ومقولاتهم الأساسيَّة لفحص مفاهيمي جاد في هذا الشأن.
    لقد أراح قصور التأهيل الفكري حول (مسألة الدّين)، لدى الحزب، خصومه من تحمُّل تبعات المعركة الغوغائيَّة التي عَمَدوا لتفجيرها ضدَّه، في الميدان الذي حدَّدوه، والتوقيت الذي فرضوه، وبالأسلحة التي اختاروها، والأجندة التي ارتأوها، فتوارت قضيَّة الإلحاد (المسألة الأساسيَّة) لحساب ما عُرف وقتها بـ (المشكلة الدستوريَّة)، والتي لا تعدو كونها، في الحساب الختامي، وبكلّ المقاييس، وعلى أهميَّة النجاحات التي حققها الحزب فيها، قانونيَّاً وسياسيَّاً، محض (مسألة ثانويَّة) في ميزان تلك المعركة. فقضيَّة (التعديلات الدستوريَّة)، وما أحاط بها وتبعها من جدل مدرسي حول حدود اختصاصات مؤسَّسات (النظام الديمقراطي)، ومفهوم (الفصل بين السُّلطات)، والمدى الذي تنبسط أو تنكمش فيه رقابة (القضاء المستقل) لتطال أداء (الجمعيَّة التأسيسيَّة) نفسها .. الخ، لم تشكل كلها سوى (اشتباك جانبي) على رصيف (الميدان الأساسي) الذي كان ينبغي أن تصفى فيه وحده وليس في غيره، حسابات الربح والخسارة في تلك المعركة .. (الموقف من الدين).
    (92)
    وللمزيد من الدّقة، فإن انتباهة الحزب القديمة، وإشارات رموزه المختلفين إلى علوّ مكانة الدّين لديهم، وخطورتها في السّياسة السودانيَّة، تقتضى القول بأن أقدام الحزب لم تنسحب إلى ذلك (الاشتباك الجانبي) نتيجة لـ (غفلة) ما، وإن أمكن إسناد الأمر برمته إلى ضرب من سوء التدبير. فالظرف الذاتي للحزب، المتمثل في عدم تأهُّله، فكرياً، بالقدر الكافي لخوض المعركة في (ميدانها الأساسي)، كما أشرنا، ممَّا يترجَّح كتفسير لقبوله بخوضها في (هامشها) الإجرائي القضائي، علاوة على ركونه لاعتبار (موقفه) من الدّين من الأمور الناجزة بذاتها، والتي يمكن للجماهير استقراؤها بنفسها، تلقائياً، من محض عشرتها معه، الأمر الذي جرى نقده، لاحقاً، في المؤتمر الرابع، كما قد رأينا، هو الذي دفع به، في ما يبدو، للنأي بنفسه عن النزال (الفكري)، و(التورُّط) في تلك (المبارزة على الرصيف) التي تولى كبر التخطيط لها خصومه بين قوى اليمين.
    فعلى الرغم من أن أداء بعض قيادات الحزب، أثناء تلك الأزمة، كان يشي بالرغبة في الاقتراب من بعض وجوه (المسألة الأساسيَّة)، إلا أن (قيد) الالتزام بجماعيَّة الأداء السياسي، والذي اتجه، وقتها، إلى تحقيق مصلحة الحزب، بالأساس، في (الهامش) الإجرائي القضائي للمعركة، حال دون ترجمة تلك الرغبة إلى أكثر من مجرد (الملامسة الطفيفة). ومن أمثلة ذلك خطاب نائب الخريجين، آنذاك، محمد إبراهيم نقد، في جلسة الجمعيَّة التأسيسيَّة بتاريخ 15/11/1965م، والذي سلفت الإشارة إليه، حيث (شرع) فى دحض اتهام الحزب بالإلحاد، معقباً على متحدثين من مختلف قبائل اليمين خاضوا، أجمعهم، في خطاب غوغائي ينضح بالجهل والتسطح، عن الحزب وفكره (راجع: مضابط الجمعيَّة التأسيسيَّة ـ ضمن القدال؛ معالم ..، ص 154 ـ 159)، وفاتحاً بذلك باباً واسعاً للولوج إلى لبّ (المسألة الأساسيَّة). لكن كان محيّراً حقاً، بالنظر إلى تخصُّص الرَّجل في علم الفلسفة، وقدراته الفكريَّة المشهودة، وطاقته على الخطابة المبينة، أن يكتفي بعبارات عامَّة في هذا الشأن، قائلاً: "إن النظريَّات الاجتماعيَّة لا تصلح للمناقشة هكذا في البرلمانات، ولذلك فإن مناقشة النظريَّة الماركسيَّة بهذا الأسلوب تطاول ما بعده تطاول" (نفسه، ص 157). لقد كبَّلت الخطة الحزبية المعتمدة، في تقديرنا، الأستاذ نقد بقيود الأداء الجماعي، فكريَّاً وسياسيَّاً، فغلب (الجانب الإجرائي)، فيما يبدو من قوله هذا، مكتفياً، في معرض نفيه لتهمة الإلحاد عن الشيوعيين السودانيين، باستشهاد مقتضب بدستور الحزب، وإحالة تقليديَّة إلى تاريخه الطويل، وتاريخ أعضائه، و".. إننا لا نقول هذا عن خوف، فنحن لم نتعلم الخوف في الماضي، ولسنا على استعداد لتعلمه اليوم!" (نفسه).
    (93)
    بالمقابل، وللمفارقة، فإن أعجل قراءة لتلك الوقائع سرعان ما تكشف عن أن قوى اليمين، بقيادة ممثلي التيَّار (السُّلطوي)، لم تلجأ، أصلاً، لتلك الخطة إلا بسبب وجلها هي نفسها من خوض معركة فكريَّة رصينة، بأسلحة تتسم بقوَّة الحُجَج ومضاء المفاهيم. فما أسهل التآمر بالاستناد إلى ترتيبات إجرائيَّة محضة، تحشد لها أصوات الأغلبيَّة الميكانيكيَّة من منسوبي تلك القوى داخل الجمعيَّة، وتستثمر فيها مشاعر الشارع المنفعل بالتحريض الغوغائي، مقارنة مع أدنى جهد مطلوب لفهم قضيَّة الشيوعيين السودانيين تاريخياً، بعد التماسها في ما صدر ويصدر عنهم، وليس في أي مصدر آخر، من أدب ومواقف وأنشطة فكريَّة وسياسيَّة، يستهدفون تحقيق العدالة الاجتماعيَّة، وتحرير الناس من أسر الحاجة، فتتوطن علاقاتهم ومعاملاتهم، التي هي أصل الدّين، وفق الحديث الشريف، في رحاب الكفاية، ووزن ذلك، أجمعه، بميزان رسالة الإسلام الحقيقيَّة، ومبادئه، وقيمه، وتعاليمه، ومقاصده الكليَّة، القائمة، بالأساس، في الإعلاء من شأن العقل، والعدل، والحريَّة، والكرامة الإنسانيَّة، وإفشاء حكم القسط، والوجدان السليم، واستبشاع الظلم، والفقر، واكتناز المال، حيث العدل أقرب للتقوى "أعدلوا هو أقرب للتقوى"، والإنفاق باب رئيس فيها على قدم المساواة مع الإيمان بالغيب والصلاة "ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين الذين يؤمنون بالغيب ويقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون". وبالحقّ، فقد كان من شأن طرح الأمور بهذا المستوى، أمام الرأي العام المسلم، حشر منطق التيَّار (السُّلطوي) في جحر ضب خرب، بدلاً من (الرطانة)، لذلك الرأي العام، بمصطلحات ومفاهيم وفنيَّات القانون الدُّستوري حسب الفقه الأنجلوسكسوني!
    إن أبلغ دليل على استسهال خصوم الحزب طريق التآمر (الإجرائي)، واختيارهم (هامش) المعركة، منذ البداية، ميداناً لخوضها، بدلاً من ميدانها (الأساسي)، إنصراف د. الترابي، زعيم جبهة الميثاق الإسلامي (أحد أطوار حركته السياسيَّة آنذاك)، والمعنيَّة أكثر من غيرها، بالصّراع مع الحزب، عن مقتضيات النزال الفكري المطلوبة لإلزام الشيوعيين (السودانيين) الحُجَّة بإثبات إلحادهم، إن كان في ذلك شىء من الحقيقة، للانشغال بفنيّات القانون، وفقه إجراءاته، عبر كرَّاسة ناحلة من القطع الصغير، أصدرها، آنذاك، من (المطبعة الحكوميَّة)، وسعى فيها، بجدّ واجتهاد، لنفى أيَّة قيمة لقضاء المحكمة العليا الصادر في 22/12/1966م ببطلان مجمل (الإجراءات) التي اتخذتها الجمعيَّة التأسيسيَّة بتعديل الدستور في 22/11/1965م، مما أدَّى إلى حلّ الحزب، وطرد نوَّابه من البرلمان، باقتراح من د. الترابي نفسه، وفق مضابط جلسة 16/12/1966م، وكذلك لإثبات قيُّوميَّة قرارات الجمعيَّة التأسيسيَّة على أحكام القضاء، حتى لو قفزت تلك القرارات من فوق الدستور، أو صدرت بالمصادمة للحريَّات العامَّة والحقوق الأساسيَّة (الترابي؛ أضواء على المشكلة الدستوريَّة، بحث قانوني مبسَّط حول مشروعيَّة حلِّ الحزب الشيوعي، المطبعة الحكوميَّة، يناير 1967م).
    أما في ما يتعلق بـ (المسألة الأساسيَّة) وثيقة الصلة بالفكر الإسلامي، فلم تصدر عن زعيم الاسلاميين، للغرابة، مساهمة يؤبَّه لها! وحتى أداءه داخل البرلمان، في جلسة 15/11/1965م، والتي يفترض أنها خصصت لكيل الاتهامات بكفر الشيوعيين (السودانيين)، فقد غلب عليه طابع الخطاب السياسي التعبوي، وسط نوَّاب تمَّت تهيئتهم تماماً لهذا الأمر. وفي ما عدا ذلك، انصرف بكليَّاته لتأسيس (المرجعيَّة الدستوريَّة) التي تبيح (خرق الدستور!)، والاعتداء على الحريَّات، وإهدار الرقابة القضائيَّة، بدلاً من الدخول في جدل، قد لا تحمد عقباه في ما لو تأهَّل له خطاب الشيوعيين الموجَّه إلى جماهير المؤمنين، حول توافق أو عدم توافق مشروعهم الاشتراكي مع تعاليم الإسلام.
    إنصراف الترابي عن اللباب إلى القشور هو ما حدا بالأستاذ محمود محمد طه، رغم خلافه الفكري، هو نفسه، مع الماركسيَّة، لإصدار كتاب، بالمقابل، يفند فيه آراء الرَّجل، تحت عنوان (زعيم جبهة الميثاق الإسلامي في ميزان الثقافة الغربيَّة والإسلام ـ أضواء على المشكلة الدستوريَّة). وكم كان مريراً وصفه لكتاب الترابي بأنه "لا قيمة له ولا خطر، لأنه متهافت، ولأنه سطحي، ولأنه ينضح بالغرض، ويتسم بقلة الذكاء الفطري" (ضمن القدَّال، ص 161).
    (94)
    بعكس تجربة (الفتنة الأولى) وفرت تجربة (الفتنة الثانية) للحزب ذخيرة من الدروس الكبيرة التي سلفت الإشارة إليها، والتي لخصها عبد الخالق في تقريره للمؤتمر الرابع، حيث جرى اعتمادها ضمن الموجِّهات الملزمة لأداء الحزب، وأهمُّها، كما أوردنا، ألا يكتفي بـ "الردود على ما يثار"، بل أن يحقق نقلة نوعيَّة "بالإمساك بقضيَّة الدّين، في المستوى الفلسفي، لوضعها في مكانها اللائق من حركة الشعب".
    لكن، برغم مرارة تلك التجربة، وعظمة دروسها، واصل الحزب، في مرحلة ما بعد المؤتمر، نفس الأداء السابق، بالاكتفاء بـ (الترفع) على (التهمة) ومروجيها، دون جدوى، طالما أنه لم يقرن ذلك بالتحرُّك، بالجديَّة اللازمة، للنهوض بما كان ألزم نفسه به في مؤتمره الرابع. فما هي، يا ترى، أسباب ذلك القصور التاريخي؟!
    نقول، دون أن ندَّعى امتلاك الإجابة النهائيَّة، إن إشارة بعضنا، أحياناً، إلى (الجمود الستاليني)، قد تصحُّ كتفسير عام. على أننا نخشى أن تتحول، بدورها، إلى (أيقونة) أخرى ناجزة بنفسها، الأمر الذي يدفعنا إلى ترجيح نجاعة الدعوة للبدء فوراً في تقصِّى الأسباب الأخرى، الخاصَّة جداً، ليس بالحزب وحده، وإنما بمجمل البُعد اليساري من تيار الحداثة (العقلانيَّة) في بلادنا، بأقلّ قدر من (المكابرة)، وبأعلى قدر من (الشفافية)، علَّ جهداً كهذا يرفد حركتنا الفكريَّة والسّياسيَّة بعناصر إثرائها واستنارتها وتجديدها. وإذ ندعو لذلك، لا نعتبر ما سقنا من تفسيرات باطنيَّة طيَّ كتابنا سالف الذكر (إنتلجينسيا نبات الظل) سوى محض محاولة للضرب بسهم متواضع في هذا التقصِّي، راجين أن تكون فاتحة شهيَّة، فحسب، لعصف أدمغة مطلوب، بإلحاح، في هذا الاتجاه.
    (95)
    الشاهد أن لغة البيانات الحزبيَّة، والتصريحات السّياسيَّة، والتعميمات الصحفيَّة، وإن أثبتت جدواها في باب النزال السّياسي، إلا أنها ليست بذات جدوى في معركة هي، بطبيعتها، أدخل ما تكون في باب الصّراع الفكري. كما وأن أساليب التضامن، والتعاضد، والتكتل، لا تغني في ميدان تدافع الأفكار، على ما لها من أهميَّة في غير ذلك من الميادين. ولئن كان منطق التدافع الفقهوفكري قد رفع إلى منصَّة أعلى غالب القوى التقليديَّة التي يشكل ممثلو الجَّماعة المستعربة المسلمة في بلادنا ثقلاً معتبراً بين صفوفها، قيادة وقاعدة، بما مكنها، إلى حدّ بعيد، من تجاوز مصائد الابتزاز القديمة التي درج التيَّار (السُّلطوي) على نصبها لها، تاريخيَّاً، بين شعاري (الوصل) و(الفصل) المفتعلين، والخروج بأشكال متفاوتة من تدقيق الوعي بالمطلوبات (المدنيَّة) الحقيقية للوحدة الوطنيَّة والسَّلام والاستقرار والدّيموقراطيَّة، فإنه لم يعُد مبرَّراً ولا مقبولاً، بأيّ منطق، أن تتخلف القوى اليساريَّة، وفي مقدّمتها الحزب الشيوعي، عن الإسهام البصير في هذه المستويات الجسورة التي بلغها تطوُّر (التدافع) في هذا الشأن.
    ولا نملُّ من تكرار رأينا بأن من أهمّ أشراط السَّداد في هذا الإسهام شرطين: أوَّلهما التركيز، في مجابهة تيَّارات (التشدُّد والتكفير)، لا على الحجاج (السّياسي) أو (الحقوقي)، فحسب، بل على الجانب (الفكري) بالأساس. وثانيهما الحرص على النأي بخطاباتنا عن المفاهيم والمصطلحات التي لا تفيد في توصيف أو تفسير الجوانب الدينيَّة الرُّوحيَّة من أزمتنا، بل تزيد نارها ضراماً، وإن جاز لنا، بطبيعة الحال، أن نستخدم من هذه المفاهيم والمصطلحات كلَّ ما ثبتت جدواه في تعميق رؤيتنا لقضايانا الدنيويَّة، ودرايتنا بها، في كلّ حقول الاقتصاد، والاجتماع، والسّياسة، وما إلى ذلك. وليس المقصود، يقيناً، أن نصبح جزيرة معزولة في هذه القرية الكونيَّة. ذلك أن الكثير من الفلسفات والمناهج والمفاهيم والمصطلحات التي تنتمي إلى شتى تيَّارات الفكر العالمي تكتسي طابعاً إنسانيَّاً وكونيَّاً شاملاً، وتتفاوت، فقط، من حيث طاقتها على تقديم مختلف الإجابات والتفسيرات لقضايانا (الدنيويَّة) شديدة التشعُّب والتعقيد. فالشيوعيون السودانيون ما انتخبوا الماركسيَّة اللينينيَّة، مثلاًً، من بين كلّ هذه التيّارات، انتظاراً لأن تقدّم لهم تفسيرات (دينيَّة) لمختلف الظاهرات (الغيبيَّة) من حولهم، بل ولم تكن بهم، أصلاً، حاجة لها في هذا المستوى؛ فلا هي (دين) ولا هم جماعة (دينيَّة)، وإنما كلُّ ما أهمّهم منها، ليس فقط منهجها السديد في تقديم شتى (التفسيرات) للظاهرات الاجتماعيَّة (الدُّنيويَّة) وثيقة الصّلة باستغلال الإنسان للإنسان، وإضاءة المفاهيم التي تفضح ميكانيزمات هذا الاستغلال، بل، وإلى ذلك، جدارتها كمرشد في النضال والعمل الثوري من أجل (تغيير) هذا الواقع (الدُّنيوي) الظالم بواقع (دنيوي) أكثر عدلاً.
    لذا، فإن ما نقصده، على وجه الدّقة، درءاً لأيّ التباس، أو سوء تفاهم غير مرغوب فيه، هو، ببساطة، أننا، لدى استقبالنا لمختلف تيَّارات الفكر العالمي، ماركسيَّة أو غير ماركسيَّة، ينبغي ألا نفعل ذلك وكأننا صقع خلاء من أيَّة عناصر ثقافيَّة إنسانيَّة مؤهلة للتفاعل مع هذا الوافد. (فالثقافة) التي لا تعي ذاتها، تفتقر، قطعاً، إلى المقوّم الأساسي لإحسان تفاعلها مع غيرها. ولقد هبَّت علينا بعض المفاهيم والمصطلحات، مثل (العلمانيَّة/فصل الدين عن الدَّولة) .. الخ، من المناخات الفكريَّة لعصر الحداثة الأوربي، بتاريخانيَّته الخاصَّة، وأشراطه المائزة، "فتلقيناها بمختلف خطاباتنا، دون أن يكون في (ثقافتنا) مهدٌ ملائم لها، ودون أن تعانى مجتمعاتنا المخاض المباشر لإنتاجها" (بشير أبرير؛ "الخطاب اللساني العربي بين التراث والحداثة"، م/الرافد، ع/47، يوليو 2001م، ص 85)، وحتى دون أن نستوثق، تماماً، ممَّا إذا كانت تصلح فعلاً لتوصيف حالتنا المحدَّدة، أو تعبّر، بدقة، عن مطلوباتنا الحقيقيَّة؛ فما لبثت أن شكلت لدينا مصدر اختلاف، إلى حدّ التصادم الدَّموي، ليس، فقط، بيننا، كجماعة مستعربة مسلمة، وبين مساكنينا من الأغيار (الدّينيين)، وإنما في داخل جماعتنا نحن أنفسنا.
    على أنه ينبغي التفريق الدقيق بين ما نرمى إليه هنا، وبين المساعي المجَّانيَّة التي قد نصادفها، أحياناً، في إطار الفكر العربي الإسلامي المعاصر، لإيجاد مفاهيم بديلة للمفاهيم الغربيَّة، والتي "تشكل حالة خاصّة .. تفتقر إلى التسويق المعرفي من جهة، وتهدر السياق التاريخي الذي أنتج تلك المفاهيم من جهة أخرى. فمفاهيم مثل المجتمع (الأهلي)، بدلاً من المجتمع (المدني)، و(الجَّماعة) عوضاً عن (المجتمع)، وتصوُّر (المؤمن) مقابل (المواطن)، وما يسميه البعض بـ (حقوق الإنسان في الإسلام) في مواجهة (الإعلان العالمي لحقوق الإنسان) .. تقوم بعمليَّة معاوضة وهميَّة تهدف إلى تعزيز نزعة الاستغناء عن الآخر، واعتباره عدوَّاً وغازياً هكذا بالجُّملة، ممَّا يعنى التخلي الطوعي عن منجزات العلم والثقافة الحديثين، ومواجهة التحدّي الغربي بالمزيد من التراجع والانحسار على المستوى الحضاري، وبالمزيد من وهم القوَّة والحماس على المستوى الواقعي، (و) تفتقر (هذه) الرؤية للغرب بالمطلق، مثل الرؤية المقابلة التي تدعو إلى التبني شبه التام لكلّ ما هو غربي، إلى القدرة على تحليل ونقد الآخر" (د. كريم أبو حلاوة؛ "إعادة الاعتبار لمفهوم المجتمع المدني"، م/عالم الفكر، ع/3، المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، الكويت، يناير/مارس 1999م، ص 12). من ثمَّ وجب علينا النأي عن كلا (التطرُّفين)، والتوجُّه نحو "التملك النقدي للأدوات المعرفيَّة، والمنهجيَّات الحديثة التي تمكننا من فهم ذواتنا وفهم الآخر" (نفسه، ص 13).
    عليه، إن كنا نروم التماس مخرج مرموق من هذه الأزمة، حقاً وفعلاً، فإن أهمَّ ما يتوجب علينا إيلاؤه عنايتنا الكبرى هو أن نكفَّ عن تصوُّر حياتنا إما محض (انكسار) بإزاء (مركزويَّة) غربيَّة تطالبنا بالتسليم بوجود طريق واحد للتطور، أو هي (انغلاق) على (خصوصيَّة) تدفعنا إلى توهُّم الإسلام عزلة سرمديَّة دونها .. الإلحاد!
    والآن ، هل نستطيع أن نبصر بصيصاً من الضوء فى نهاية النفق؟! هل ثمة أمل في كلمة سواء تنظم اختلافنا (الدُّنيوي) بشأن (عتود الدّولة) بمنأى عن (تكفيرنا السّياسي) لبعضنا البعض؟!
                  

12-10-2009, 05:07 AM

سيف عبد العزيز
<aسيف عبد العزيز
تاريخ التسجيل: 11-04-2009
مجموع المشاركات: 492

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: عَتُودُ الدَّوْلَة ،،، ثَوابِتُ الدِّينِ أَم مُتَحَرِّكاتُ التَّدَيُّن؟! بقلم كمال الجزولي (Re: الهادي هباني)

    الأخ الهادى هبانى

    دائما تتحف وتثقف وتزودنا بما لا نمتلك فلك منا كل التبجيل
    هذه الاضافات تحتاج منا الكثير للتأنى والتأمل لفهم مكنونها قبل
    أن نكتب شيئا وان كتبنا فسيكون حتما سؤال أو سيل من الاسئلة

    شكرا لك يا أخى ودمت
                  


[رد على الموضوع] صفحة 1 „‰ 1:   <<  1  >>




احدث عناوين سودانيز اون لاين الان
اراء حرة و مقالات
Latest Posts in English Forum
Articles and Views
اخر المواضيع فى المنبر العام
News and Press Releases
اخبار و بيانات



فيس بوك تويتر انستقرام يوتيوب بنتيريست
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة
About Us
Contact Us
About Sudanese Online
اخبار و بيانات
اراء حرة و مقالات
صور سودانيزاونلاين
فيديوهات سودانيزاونلاين
ويكيبيديا سودانيز اون لاين
منتديات سودانيزاونلاين
News and Press Releases
Articles and Views
SudaneseOnline Images
Sudanese Online Videos
Sudanese Online Wikipedia
Sudanese Online Forums
If you're looking to submit News,Video,a Press Release or or Article please feel free to send it to [email protected]

© 2014 SudaneseOnline.com

Software Version 1.3.0 © 2N-com.de