ذات ليلة هادئة كنت في رفقة بعض الزملاء نتسامر مع الشيخ الصالح حسن الترابي.. قلب الشيخ كل الخيارات الممكنة في مسار الحوار الوطني.. كان الرجل يأمل في حكومة انتقالية تتركز فيها السلطات في مجلس وزراء تتخذ فيه القرارات عبر آلية التصويت .. وكان الشيخ يخشى على جبهته العريضة في لجنة (٧+٧) من بريق السلطة.. قال الشيخ عبارة موحية "كلهم يتمنى أن يكون في الجانب الآخر من الطاولة" .. في ذاك الجانب كان يجلس الوفد الحكومي. كلما أمعن النظر في مسار الأحداث يتكشف لي أن الشيخ كان يرى ما وراء الحجُب.. الحزب الحاكم أدرك أهمية ما بيده من سلطان واستثمر في ذلك جيداً.. شرع الوطني في الحزمة الأولى من التعديلات من إفراغ منصب رئيس الوزراء من مضامينه.. بات المنصب التنفيذي الأول مجرد كبير وزراء ينوب مراسمياً عن مجلسه في المناسبات.. ثم يذهب للبرلمان ليتحمل التقريع على الرأس.. في ذات الوقت تم تعظيم صلاحيات رئيس الجمهورية وإعطائه حق حل مجلس الوزراء بجانب تعيين وعزل رئيس الوزراء. قبل أن تفرغ الأحزاب المشاركة في الحوار من وقع الصدمة رمى لهم الحزب الحاكم بعظم السلطة.. كل الأحزاب الآن تتنافس على مناصب محدودة في الوزارة القادمة.. الانشغال بمعركة توزيع المغانم مكّن الحزب الحاكم من تمرير نسبة مشاركة الأحزاب المعارضة في البرلمان القادم.. سيتم إعطاء أحزاب القاعة نحو ١٥٪ من المقاعد البرلمانية.. الحديث عن النسبة مضلل لأن العدد الكلي ٦٧ نائباً في البرلمان و١٨ نائباً في مجلس الولايات ..حينما تحتج الأحزاب على بؤس القسمة يعلن الحزب الحاكم عن تخفيض مشاركته في مجلس الوزراء.. مع ملاحظة أن الغنائم لا تشمل حكام الولايات الذين يعينهم رئيس الجمهورية. استراتيجة الحزب الحاكم تقوم على الاحتفاظ بأغلبية مطلقة في البرلمان بغرفتيه.. عبر تلك الأغلبية سيتحكم الحزب الحاكم في مشروع التسوية السياسية.. تخفيض المشاركة في مجلس الوزراء يعني تنازل الحزب الحاكم عن وزارات هامشية.. لكن الأهم من ذلك هو الاستحواذ الكامل على مؤسسة الرئاسة وولاة الولايات.. إذا ما تجاوز مجلس الوزراء الحد سيسلط عليه سيف الحل عبر سلطات رئيس الجمهورية. في تقديري.. أن الأحزاب المشاركة في الحوار وقعت في الفخ.. ستجد الطريق ممهداً للمشاركة في الحكومة.. سيتكرر سيناريو مبارك الفاضل الذي دخل الحكومة بوزرائه وحينما همّ بالخروج وجد نفسه وحيداً.. كل من يغرف غرفة من نعيم السلطة لن يكون بوسعه الخروج بيسر.. تلك قاعدة ثابتة في معادلة الحكم الشمولي في السودان تحاول أحزاب حوار القاعدة إنكارها. بصراحة.. ليس بوسعنا إلا أن نحسد الحزب الحاكم على هذا الدهاء التكتيكي.. لكن مشكلة بلدنا دائماً أنها كانت تدار بقصر نظر سياسي .. هل بإمكان أي سياسي أن يتنبأ بمآلات أحوال بلدنا في العام ٢٠٢٠.. صدقوني المهمة أصعب مما تتصورون.
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة