الحديث عن المشي حديث ذو شجون. وسيقتصر حديثنا على الشجون غير المألوفة في المشي. إذ لن نتحدث عنه من جهة أهميته الصحية، كالقول إن مشي عشرة آلاف خطوة في اليوم، وهو ما يعادل ثلاثة كيلومترات ونصف كيلومتر، سيقلل من الوزن، وسيخفض الضغط، وما إلى ذلك. بيد أن ذلك حق لا مراء فيه؛ لكنه من باب القول المبذول في النت، وقوقل لا يخيب لسائله رجاء. بل سنتحدث عن المشي من جهة علاقته بالتفكير. لا شك أن التفكير السليم هو الخطوة الأولى نحو تغيير واقعنا البائس الذي ضربته الرتابة في مقتل. إن المستفيدين من استمرار الوضع الراهن يحرصون جهدهم لنظل في حال من الغيبوبة الفكرية، باعتبار تلك هي الطريق الأمثل التي تكفل لهم مواصلة سرقة ما تبقى من ذخائر في حياتنا!! ونستطرد هنا لنذكر أن مكتب الأمم المتحدة المعني بالمخدرات والجريمة (UNODC) كان قد أشار في تقريره عن المخدرات لسنة ٢٠١٦م إلى السودان كأحد الدول الرئيسية في وصول شحنات من الكبتاجون بكميات تتجاوز العشرة ملايين حبة. ونحتاج إلى باحث حصيف يقودنا إلى معرفة من هو المستفيد من انتشار المخدرات في مجتمعنا؛ ثم ما هي الأوضاع التي مكنته من تحقيق ما يصبو إليه. وتحت حكم متسلط غشوم كالذي نعيشه حاليا، لا يخفى ارتفاع صوت اللاعقل ومحاصرته لحياتنا من كل جوانبها، من استشفاء بالأعشاب والخلطات العجائبية، التي أنشئت لها قنوات فضائية تأكيداً لرواجها، إلى الرقى والتعويذات والمدائح والغيبيات من كل لون. ووصفات استئصال الفقر بفتاوى الفقهاء المنفلتة من عقال المنطق وإنسانية الضمير. فقد دخلنا عصر سُبات للعقل بمعنى الكلمة. يستصحب ذلك حال من اليأس الذي تغذيه أسئلة ساذجة من قبيل: ما البديل للإنقاذ؟ فما المخرج إذن؟ الأمر يقتضي إعمال الفكر. وحتى ذلك الحين، دعونا نمشي أولا. لكن ما العلاقة بين المشي والتفكير؟ نبدأ بأرسطو (٣٨٤ – ٣٢٢ قبل الميلاد). فقد أسس مدرسة فكرية في التاريخ اليوناني باتت تعرف بالمشائية في الفلسفة، نظراً لأنه يدرس ماشيا. وتقطع الأدبيات ذات الصلة أن التسمية قد اشتقت من المشي. بينما يرى فريق آخر أن التسمية مردها إلى طريقة تفكيرهم في الانتقال من المقدمات إلى النتائج، وكأنهم يمشون مشيا. المشي خطوة خطوة نحو الهدف، وفي أناة وثقة بالوصول. ذلك هو مربط الفرس. ألبرت أينشتاين (١٨٧٩ - ١٩٥٥)، صاحب نظرية النسبية، والذي يزعم بعضهم أنه أذكى عقل عرفه التاريخ، كان يمشي يوميا قبل المغيب داخل غابة ملحقة بسكنى الأساتذة في جامعة برنستون الأمريكية حيث ظل يدرس هناك نحوا من اثنين وعشرين سنة من ١٩٣٣. وقد عرف بالتفكير الثاقب والكتابة الغزيرة جدا. كانت رياضة المشي مقدسة لديه، لا يتنازل عنها لأيما سبب. لكن عندما حاولت وزارة الخارجية المصرية ترتيب موعد للصحفي محمد حسنين هيكل في زيارته لأمريكا في أعقاب ثورة ١٩٥٢م، وافق أينشتاين بشكل استثنائي جداً على مقابلة الصحفي المصري أثناء ممارسته للمشي اليومي. وافق العالم الفذ على ذلك لأنه كان حريصاً على معرفة نوايا قادة الثورة الجديدة تجاه إسرائيل، وهو اليهودي حتى النخاع!!! المهاتما غاندي (١٨٦٩-١٩٤٨) بدوره كان من أعظم المشاة في التاريخ الحديث. يقول في سيرته الذاتية، «.. قرأت في الكتب كلاما عن منافع السير الطويل في الهواء الطلق. ولما كانت النصيحة قد راقت لي فقد كونت عادة التنزه سيراً على القدمين، وهي عادة لم أقلع عنها حتى الآن». أصبح المشي رياضته المحببة التي سخرت له إمكانية حشد الناس في القرى دون أن يتكبد نفقات الانتقال بالمواصلات. هكذا كان الحال بالنسبة لإيمانويل كنط، الذي يضبطون عليه الساعة عند خروجه للمشي في الخامسة مساء بمدينة كونسبيرج الألمانية. كان يمشي ويتأمل ويفكر بعمق شديد. يعود بعدها للقراءة والنوم المبكر ليبدأ صباحاً من النشاط والحذق في الكتابة والمحاضرات الجامعية. أنتج فلسفة في المعرفة يقولون من لم يستوعبها ليس بوسعه أن يتفلسف. ويكفيه مقال من خمس وريقات بعنوان ما التنوير، يرجع فيه التنوير، ليس إلى التعلم وتنمية القدرات العقلية، بل إلى الشجاعة في أن نفكر على نحو مستقل يبعدنا عن التقليد والتحيز لفكر الآخرين، مبلغ ما بلغت قدسية ما يزعمونه. كثيرون غير هؤلاء كانوا يمشون من أجل التأمل والتفكير العميق. مربط الفرس إذن وجود رابطة قوية بين المشي والتفكير. الكاتب الفرنسي فريدريك غروس، ربط في كتابه «فلسفة للمشي» الصادر في ٢٠١٤م بين المشي والتفكير التأملي ممثلاً لذلك بطائفة واسعة من رواد الفكر في التاريخ. يقول إن المشي يحرر الإنسان من قيود الروتين أياً كان مصدرها ومبلغ حدتها؛ ثم إنه يحرره من التوتر النفسي السائد. فضلاً عن أن المشي يبعد الشخص الماشي عن الأنانية التي تجلبها زحمة المدن وما تستدعيه من بغض غريزي للآخر؛ بينما يؤدي السير المنفرد، الذي تهيمن فيه الأفكار الشاردة والأحلام الطليقة والرغبات الحرة، إلى تبديد الأنانية بحيث لا تجد متسعاً في عقلية من يداوم على المشي. دعونا نمشي نصف ساعة يومياً، ونتأمل وضعنا المأساوي الذي يستدعي إعمال الفكر. لقد أفلحت الإنقاذ في زعزعة ثوابتنا، فكيف لنا أن نخرج من هذه الحلقة الشريرة ونلقن قادتها درساً يتعذر نسيانه، علاوة على درس التاريخ الراسخ للأجيال المقبلة؟ فهي لم تفلح في حكمها المتسلط هذا إلاّ بعدما دمرت المجتمع المدني بأحزابه الفاعلة، ونقاباته اليقظى وتجمعاته العديدة، وقياداته الفذة. إذ قامت بزراعة منظومة محكمة النسج من الألغام الأمنية، بدأت من اللجان الشعبية في الأحياء، واستمرت في حياة الناس من أسواقهم إلى مكاتبهم. أحكموا سيطرتهم على الشارع السوداني المتمرد بطبعه، في نظرهم، حتى لا «يتاوره» ضرس الهبة والانتفاضة التي كانت ديدنه في الأعصر الخوالي. الإعلام سيطروا عليه هو الآخر، وبات طبولا تجتر أصوات الملالة والمصلحة الذاتية الفجة. المنابر المجتمعية الوحيدة من خلال المساجد، أحكموا عليها سيطرتهم. الجامعات شردوا أساتذتها الأكفاء واستبدلوهم بذوي اللحى والعقول اليباب، وأحالوها إلى خرابات تنعق فيها غربان التمكين التي لا تعرف إلاّ مصلحتها الذاتية أو الحزبية الضيقة. فهؤلاء لا يرجون للسودان وقاراً ولا يألونه إلاّ خبالا. وحسبك سجلات أداء مؤسساتنا التعليمية بين رصيفاتها في العالم. فهل ثمة خبال أكثر من ذلك؟
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة