(من أفدح عبارات الشيوعيين التي علّقت على خروجي منهم (أو عليهم) في 1978 أنه كان لا ينبغي أن يسمح الحزب لي بالاختفاء تحت الأرض لأنني مثقف "يجرح النسيم خدوده". ثم صارت هذه العبارة عن "ليونة" المثقف المختفي ديدن الحزب. فوصموا بها الحاج وراق كما فصّلت في رسالتي للمؤتمر السادس. وأنشر هنا بعض ذكرياتي تحت الأرض من زاوية أخرى من خلال رصدي لحلم مزعج كئيب من أيام "الدسوسية" ظل يلاحقني إلى يومنا. وتركيبة الحلم هي شبه انكشاف لمخبأي القميء المتواضع في ملابسات سريالية. وعكر هذه الحلم صفو نومي. أصحو به منقبضاً كسير الخاطر. وبدا لي أن هذا الحلم المداوم هو رضوض من ذلك الاختفاء الأعوج المعطون في الشفقة على من أحسنوا إلى شخصي بالمأوى حين عز حتى على حزبي حباً وكرامة. فكنت مختفياً على "النفقة الخاصة" لم يوفر لي الحزب مكمناً طوال هذه السنوات سوى مرة واحدة. وكان العذر أنني مثقف واسع الصلات بوسعه الامتحان من منازلهم . . . وبنجاح. وقررت منذ 2006 أن أدون ذلك الحلم وتنويعاته بعد كل ليلة يطوف بي ما وسعني. وهذه الحصيلة حتى تاريخه. تلاشي هذا الحلم من راداري لزمن واستبدلته بما هو أشق وأقسى.
ليلة من ابريل 2007 منزل قديم (دائماً قديم ومتهالك وزفر). ممر يؤدي إلى غرفة ولكنه فاتح على برندة بغرفة أخرى. أمر بالممر ولا أبدو في زي مستور تماماً. كنت شبه عاري. ولدى عودتي من غرضي أفاجأ بصوت إمراة (لها شلوخ مطارق كأنها رسمت بالكوبيا) ومعها زوج بدا لي أنه هازل. وهما في زيارة الأسرة. عَرِفتني المرأة بالاسم وقالت إنها عرفت أين اختبئء الآن وستخطر السلطات. قلت لها إننا نصادف كثيرين يعرفوننا ومن سَترنا حمدنا له ذلك (جري نقاش عن فضل هؤلاء الناس علينا مع الأستاذ مصطفى البطل وآخرين قبل ذلك الحلم. وكان تصور البطل والأخرين أن الاختفاء عزلة نهائية وكان رأيي أنه حياة عادية إلى حد ما قائمة على ستر الآخرين من أهل وجيرة ومظاليم وغيرهم) وهو الواجب. ومن بَلّغ عنا فله وزره ولن نخشى شيئاً. كنت في قرارة نفسي محرجاً لتعريض الأسرة التي أوتني لبلاغ المرأة الزائرة. وكان عليّ أن أكون حريصاً ولا أدخل المنزل بعد ذلك بغير سؤال إن كان هناك زواراً. كنت أعرف أنني لظروف سياسية إيجابية في مرحلة انتقالية ما بين السرية والعلنية (تكرر هذا الشق من الحلم الذي أكون فيه بين بين) فخخف هذا وزري نوعاً ما. كنت أفكر في البديل غير السهل لهذا المنزل الذي آواني طويلاً (وهذا موضوع متكرر في الحلم). 24 مايو 2007 كنت في منزل أعرف أصحابه بالاسم. كأنه بيتي ولكنه بشكل ما مملوك لآخرين. أكلت فيه كيكاً ثم باسطة. وخشيت بصورة عميقة على سكان البيت من الأمن. عزائي دائماً كان أنني بين مرحلتين: بين الاختفاء وبين ترتيبات تجري للخروج للعلن. هذا سيخفف الأذي عن مضيفي نوعاً ما. ودفعني هذا إلى موضع اختفائي الحق وهو البيت الذي يتكرر في أحلامي بشكل مستمر: بيت آئل للسقوط، متهافت، مهجور. هذه المرة وجدته محتلاً بجماعة من غرب السودان غزيرة العدد حولته في نظري إلى استراحة مسافرين ينتظرون إكمال الرحلة. جلست إلى امرأتين. واحدة قالت إنها من جبال النوبة وتحدثت بعربية غرباوية. ولما نهضت لأمر ما كانت لابسة بصورة محذقة وكاشفة عن ساقين خدلجتين تابعتها بعين شبقة لحين. كانت قد رقدت بجانب أخرى أنحف وأجمل ولابسة توب. تحدثت المرأة ذات الساقين عن "الشاعر المجهول". وخفت منها. وانتابني شك أنها ربما التي ستبلغ عن وجودي في البيت. ولكني عرفت أنها تقصد بالشاعر المجهول نوعاً من الخضاب. فكشفت عن رجلها وأشارت الى ظفرها حيث الخضاب وقالت إنه هو الشاعر المجهول. طفت بعد ذلك ببرندة البيت وغرفته فإذا هي مكتظة بهؤلاء المسافرين. وأكثر الرجال في الغرفة نائمين مفترشين حصائر. بدا منظرهم ولبسهم كالحجاج. وانتابني شعور مزعج بأنني فقدت هذا المنزل للأبد (تكرر هذا دائماً). وكان أهل البيت رحلوا عنه وتركوه لي لسوء منافعه. وهذا يتكرر. وحز فقدان المنزل عليّ فجأرت بالشكوي والاحتجاج لمن احتلوا بيتي بصوت واضح: "لكين البيت دا عندو اصحاب يا جماعة" وأكررها بيأس مبالغ فيه. 28 يونيو 07 عادني الحلم. مشوش لم التقط منه شيئاً.
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة