عطبره القلب..

Quote: عطبرة الطيبة!! محمد الحسن سالم حميد، ذلك الشاعر العالمي العبقري، تُعدُ كتابة الشعر عنده واحدة من تكويناته الخلقية، يكتب الكلمة السهلة في المعنى الصعب، يرتش القصيدة، ويتعامل معها كأنها درسٌ في علم التشكيل، فيحسن فن خلط ألوان اللفظ الدارج بالفصيح، الدنيوي والديني، يستمد خياله من ثقافته العميقة، ومن قصص القرآن، ومن إطلاعه الكثيف، ومن صلب حياته وتجربته الشخصية في قرية نوري، الكتابة عن حميد صعبة، لأن العبقرية أتته تُجَرْجِر أذيالها، أضف إلى ذلك فهناك الكثير من الأشياء التي لا يعرفها إلا القريبون منه. وما جعلني أتحدث عن حميد هو حبه لمدينة عطبرة، ولعله قد مكثت فيها حيناً من الدهر، وقد عبر عن ذكرياته هناك عندما كانت السكة حديد "تهز وترز" وعندما كانت عطبرة تطرب لها أذن السامع، وتشكل رقماً مهماً في اقتصاد الوطن، وتحدث عن مجتمع عطبرة وعن رجالها ونسائها في هذا المقطع: عطبرة الطيبة....جيتك بعد غيبة فرقة ووطن جمرات رجالاتك الهيبة ونسوانك الحارات المجتمع العطبراوي مجتمع يتميز بروح التآخي، والتألف والمحبة، فهم مثل الجسد الواحد؛ والحديث عن مجتمع عطبرة يحتاج إلى مجلدات، وكتب لكي نسرد لكم قصة هذا المجتمع المعلم، الصبور، المكافح، فإذا اجتمع على شيء فلا محال أن هذا الشيء آيل إلى الصيرورة مهما كلف ذلك، ولعلّ تاريخ نضال الشعب يشهد له بذلك، ولا أعتقد بأننا ننسى مقاطعة أهل هذه المدينة للحوم في عهد نميري عندما نصّر ذلك العهد القصابين لرفع سعر اللحوم على المواطنين، وكان أن احتشد الناسُ جميعاً في أسواق اللحوم، لمراقبة أي مواطن تسول له نفسه بأن يقصم ظهر الجماعة، وقد انتصروا في ذلك، والأحداث كثيرة منذ بداية الاستعمار ومروراً بكل الثورات التي كانت لعطبرة شرف إشعال فتيلة النضال فيها... وبرغم هذه الصلابة وقوة الشكيمة التي كانت تتمتع بها عطبرة، إلا أنها كانت تحتفي بضيوفها وزوارها، فكانت المدينة تصبح على صافرة الورش المدوية التي كانت توقظ العمال، وتستقبل الشمس، معلنة عن فجر يوم جديد يومُ يحفل بالعديد من الإنجازات، فتتقاطر جموع العمال، والبسمة تعلو شفاههم، إنه يوم جميل، الشتاء يتراقص في أطراف المدينة، فتقاومه المدينة بأبخرة الورش المشتعلة تلك التي تصهر الحديد، وتلك التي تعد العدة لصيانة القاطرات، وهناك صوت عالي يأتي من المسبك، وكل في فلكه يدور ويعمل؛ فلا تكف تلك الأجهزة عن الحركة، كما أن صافرات القطار لا تهدأ فعلى رأس كل ساعة؛ تستقبل هذه المدينة قطاراً جديداً، فقد وصل قطار بابنوسة محملاً بالعسل وبثمار التبلدي والمصنوعات اليدوية، وآخر من كريمة محملاً بالسِكوت، والمِشِرك والعجوة والجاو، وآخر أتي من العاصمة، وقد تناثرت الصحف، تحمل الأخبار في الرياضة والسياسة، فالمدينة تعج بالمسافرين، والزوار. هكذا كانت تمضي بنا الحياة في هذه المدينة الآمنة، الهادية برغم صخب الورش وبسيطة، وقد كان سكانها يتميزون ويتخصصون في أعمالهم، وما يذكر "الزبادي والحليب الطازج" إلا يأتي في البال المرحوم ود البيه، ذلك الرجل الودود المخلص الذي كان يخلص في مهنته، كما برع القوصى في صنع الحلويات والعصائر والباسطة، ويقاسمه في ذلك أبو خليل، وعمنا حمزة الذي كان أيضاً يتميز بصمت عجيب، وكان رجلاً وقوراً، فكانت الباسطة عنده تنفد قبل صلاة العشاء، أما حلواني الوادي فقد تكفل بسد حاجة الأفراح والمحلات الصغيرة المنتشرة في أطراف المدينة، ولا ننسى عمنا المرحوم على كرن المتخصص في صيانة الدراجات ومعه العم عوض في شارع السلك، كما تخصص على عارفين والسني في إعداد الأسماك المقلية والسلات، وتخصص عدد من اليمانية الذين اصطفوا في عدد من المحلات لطهي "الفول المصري" بزيت السمسم والشمار الأخضر، ولا أنسى رجالات عطبرة الهيبة، محمد خير خوجلي، وبيرم والعمدة السرور، والمطبعجي، واسماعيل أبو شنب؛ وسيد الطرب حسن خليفة العطبراوي، وهناك الكثيرون ممن تضيق عليهم هذه المساحة؛ هل يعقل أن يمضي هذا دون أن نذكره؟ أو دون أن نعرف ما هو سبب الانهيار الذي حدث في هذه المدينة التي كانت تحتضن هؤلاء القوم؟ ونحن كأبناء لهذه المدينة نعرف تماماً بداية الانهيار، وقد كنا شهداء لذلك العصر ، فقد أدرك القائمون على الأمر في بداية الثمانينات من القرن الماضي أن قوة عطبرة مستمدة من قوة السكة حديد، فلابد أن تُشل هذه القوة، وقد كان لهم ما أرادوا، حيث استُبدل العمال المهرة وشردوا، وجيء بآخرين أطلقوا عليهم في تلك الحقبة كتيبة السكة الحديد...ليس لديهم الخبرة لتسيير السكة حديد الأمر الذي أدى إلى التدهور المريع في كل قطاعات السكة، وأصبحت المدينة تغرق شيئاً فشيئاً عندما فقد رُبانها السيطرة عليها، إلى أن وصلت إلى ما هي عليه. الآن أصبحت عطبرة مجرد ذكريات حبيبة في قلوب أبنائها الذين هجروها، واختاروا دونها محطات أخر، نتمنى أن تعود الحياة إلى تلك المدينة، وأن ترمم فإن بنيتها التحتية تعتمد على الأخلاق، فما زال الكثيرون من أبنائها يتمسكون بها، فإنني أحيهم من على البعد، وكما قال الشاعر: إنما الأمم الأخلاق ما بقيت . بدرالدين عوض الكريم: الأمارات العربية المتحدة – دبى – [email protected]