من حكايات الفندق الملكي..

الأخ البرنس

حينما تكون الكتابة في حد ذاتها هما، فهذا الأمر مدعاة لأن يجود الكاتب صنعته. وهذا الاتجاه هو الاتجاه الموازي تماما (أعني أنهما لا يلتقيان مطلقا ، كمفهوم رياضي)، للكتابة العبثية على مستواها التصنيفي. ولكن بينهما أنواع من الكتابة، لا تتبع منهجا ولا مدرسة بعينها، ولكنها تظل محور داراسة ، حتى يتبين أنها كتابة لا تساوي شيئا.
النوع الأول من الكتابة ، ربما يعده البعض مختلفا عن غيره بتفرده باختيار كاتبه لمادة الكتابة نفسها. وهذا بدوره يجعل العمل قوالب محددة يستعصي الإفلات منها. وقد يرى البعض أنه يختلف عن غيره في طريقة عرضه، مع تجنب ما يشير إليه النقاد عادة، من تجنب الوعظ المباشر أو تحويل النص إلى محاضرة علمية ( وأعني الطرح الأكاديمي). فقد يفقد نص روعته وجماله إذا حشا الكاتب قوله حشوا، مثل:
" وبهذا يتضح لنا أن – ريم- كانت مخادعة وغير واثقة من قول أبيها وفكرت في طريقة توبخه بها"
أضاع الكاتب في هذا النص كل جمال قصته بدخوله مخاطبا وبإدراجنا كمستمعين له. والأولى أن يقوله على لسان أحد أبطال عمله القصصي.
وقد يرى بعض أنه يمتاز على غيره بالتواتر السردي والترتيب الزمني. وهذا النوع قد تمرد – أخيرا- و أصبح يشبه العمل السينمائي، يستخدم المقدمات التاريخية أولا ثم يغوص في أحداث العمل وبنفس الترتيب الزمني وقد يستخدم العودة الإيضاحية (Flash Back) ويكتسب العمل روعة وجمالا. وقد يسرد الأحداث فيقدم فصلا على آخر، لثقته في أن القارئ يستطيع أن يرتب الفكرة والزمن لأنهما ليس الأساس فيما يرمي إليه.
أما تسميتهم للعبثية فواضح أنها تسمية لا تليق بوصف عمل ما، فكأنك تؤطر لما يجب أن يكتب أو ما لا يكتب أو كيف يكتب.
في ظني أن مادة الكتابة نفسها عصية على التصنيف، والذي يعد عاديا في مجتمع ما، يعد شاذا واستثنائيا بل وخياليا في مجتمع آخر . و اضرب نماذج بأشياء من لب الثقافة الأفريقية ، مثل الكجور.
فإنك لو جعلت الكجور ( الشخص الذي يمارس هذه المهنة) بطلا في نص ما، فكيف تعرضه ؟ أتعرضه وأنت مسلم بمعرفته للغيب وقدرته على معالجة المستعصي من الأمراض، أم أنك تعرضه كما يؤمنون به؟ أم تحاول كشف دجله وكذبه وربما وأوهامه. فإذا عرضته رجلا فاعلا لم تنج من وصف عملك بالخيال وبالتالي تصنيفه كعمل خيالي. وهنالك نماذج أخرى مثل الزار وقراءة الحظوظ ، التي تعد عادية عندنا ولكنها لا تكون كذلك في مجتمعات أخرى.
إذا لا توجد حدود فاصلة للاستثنائي والعادي، ولا يوجد تصنيف دقيق لذلك. وحتى نماذج الطيب صالح ، مثل الزين، لا أسلم بدقة تصنيفه وأضرب نموذجا بالزين. الزين رجل قيل عنه أنه صالح ولم يرد دليل واحد على صلاح هذا الرجل، ولا أعد علاقته بالحنين دليلا على صلاحه، فربما أدناه منه الحنين لأنه شعر أنه رجل مهضوم في المجتمع مضيع الحقوق ولذا كانت نبوءته في شكل أمنية له. ولا نجزم ولا نسلم بأنه تزوج أجمل وأعقل نساء القرية بنبوءة الصالح الحنين. ولا نسلم بصلاح الحنين نفسه، والرجل نفسه لا تتوفر معلومات دقيقة عنه، ولا يستطيع أحد من الناحية (الشرعية) أن يشهد بصلاحه. ومهما اجتهدنا فلن يعتقد أحد في أوربا بالحنين رجلا صالحا ومن ثم الزين.
ولكنا نسلم بشذوذ كل منهما . الزين شاذ بتكوينه الخلقي الفريد وبسلوكه الذي لا يشابه أحدا و بعلاقته بمن يعدون شواذا في القرية، موسى الأعرج والطرشاء،وهم غير شواذ أصلا ولكنهم ذوو عاهات.
الزين رجل (فاعل) ، فهو يتولى بعطفه الضعفاء و يسخر قوته لهذه الشريحة من العجائز والمعاقاين وهم منبوذون في القرية. وهو الذي يساعد النساء في حمل ما يعجزن عن حمله. كما أنه يساعد في المناسبات وفي بيوت الناس و....
ويقوم بدور يعجز عنه غيره في خطبة البنات وتزويجهن بطريقة غير مباشرة، في مجتمع لا يسمح لغيره برؤية نسائه. وهو صانع البسمة والضحكة وباعث الفرح والحماس في بيوت الأعراس. الزين روح القرية المعافي و غيابه عنها فترة مرضه فقط أشعر الكل بقيمته. ولكن لا يعترف أحد بقيمته ، بل يصفونه بصفات أخرى.
ولكن الطيب صالح الكاتب، لما أراد أن يضع نهاية سعيدة للنص- وهذه عادة شرقية عند القاصين والرواة أفسدت كثيرا من القصص، قدم هزيمة نكراء للمشروع الإنساني ( النموذج) ممثلا في شخص الزين. إن الطيب صالح قتل الإنسان الفاعل في مجتمع القرية، بحجة وضع نهاية سعيدة له مع امرأة جميلة، سلوكها مختلف ومتحفظة ومهيمنة على أفعاله قبل الزواج. لن يستطيع الزين بعد اليوم الطواف على البيوت ولن يستطيع خطبة امرأة ولن يخدم الناس كما كان. إنني أحس بالأسى لتخلي الزين عن دوره، وكنت أفضل حبكة أخرى ، تجعل الزين سعيدا ومشاركا في بناء المجتمع.
أخي البرنس
أؤكد على قولك إن ( اليومي) مادة ثرة للكتابة، لأنه الحياة نفسها. نتناول فيه ما يمر بنا في يومنا من انفعالات وأحداث. ويمكن توظيف النص نفسه لصالح ايدلوجيات و مبادئ محددة . يمكن جعله خادما لقضايا سياسية ، حتى ولو كانت متطرفه، وقليل من القراء يستطيع أن ينجو من الشراك المدفونة في النص. قد تجعل أحدهم يتعاطف مع بطل نصك، رغم أنه ذو لون سياسي مختلف عما يتبناه القارئ. لهذا أقول إن القصة والرواية عمل هام إذا أحسن استغلاله في التربية.
كثير من الكتاب يقول أنه يكتب لنفسه. وهذه مقولة فيها الكثير من الخطل. إنك لا تستطيع كتابة نص دون تخيل القارئ أو المستمع. ولكن يمكنك إهمال رأيه و الوثب فوق مسلماته، مستخدما ما تؤمن به، ولكنك حتما ستجد من يؤمن بنفس ما تؤمن به، ويدعو لمثل دعوتك. وما العبارة السالفة الذكر إلا هروب من النقد. ولا يجب أن يخشى كاتب انتقاد ناقد، طالما أن العناصر الأدبية، التي يريدها الناقد موجودة في النص. أعني أنه إذا قدمت مسرحية شعرية ، فإنك مطالب بعناصر محددة مطلوبة في النص الشعري، وعناصر محددة مطلوبة في العمل المسرحي، ولكنك لست مطالبا أن تتحدث عن فضائل الأخلاق ، أو عدم مخالفة المجتمع في رأي سائد. وهذا هو الدور الانقلابي الحقيقي للأدب. ولا أعني التمرد، بل مناقشة المسلمات نفسها. وهذا هو المهمل والمهمش الذي أفهمه.
وأعود