|
Re: دعوة للقراءة: مقال يلخص عذاب الإنسان في فه (Re: محمد عبد الله الحسين)
|
نواصل المقال: وعبر تلك الآفاق، من المستطاع الحوار فكرياً وثقافياً مع وجهات نظر هوكينغ، بالأحرى تفلتاته التأملية بخصوص موضوعات كبرى تلامس الفلسفة (خصوصاً، الكون والزمن والخالق) عبر العودة إلى كتابين له هما: "موجز تاريخ الزمان" (1988) و"المُخطّط العظيم" (2010).
الفلسفة الأولى: الخالق أولاً لنبدأ من الفلسفة. في قول مكثف وموجز، يمكن القول أن الفلسفة الأولى انشغلت كليّاً بالموضوعات المتصلة بمسألة الكون والخالق. هل الكون أزلي وأبدي، ما يشار إليه فلسفياً بأنه قديم؟ هل هو مخلوق، فيكون حديثاً، أي انه جاء من خالق يكون هو القديم؟ كيف تكون العلاقة بين الخالق القديم، والكون الحديث/المُحدَث؟ وإذا وُصِف الخالق بـ"العقل الأول"، وفق تعبير أرسطو، فكيف تكون علاقته مع ما خلقه، خصوصاً الإنسان وعقله وروحه؟ هل هناك عقول تتوسط بين "العقل الأول" وعقل الإنسان؟ كيف يتغير الكون، وما هي علاقته بالقديم الذي خلقه؟ كيف يسير الزمان؟ كيف تكون الحركة في الكون، وما هي علاقتها بـ"المحرك الأول" (بالتعبير الأرسطي ايضاً) الذي يحرك كل شيء ولا يحركه شيء سواه؟ هل تنتهي الحركة؟ هل المادة قابلة للفناء والانتهاء، أم أنها تدوم إلى ما لانهاية؟
باختصار، دارت فلسفة اليونان الأولى حول الخالق، وبالتالي كان الكون هو محور تأملها الأول. واستطراداً، لم تُجدِ الفلسفة الأولى في التعامل مع الأديان، بل تبنت الكنيسة فكر أرسطو مرجعاً. وكذلك، أعجب مفكرون مسلمون بالفلسفة الأولى (لأسباب لا حصر لها، بما فيها السعي للاستناد إلى المنطق وبراهينه في الاشتغال على الفقه)، ولعل أبرزهم إبن رشد. وسارت في تاريخ الإسلام مقولات عن "الطريقين"، بمعنى الإيمان من طريق الدين كطريق أول، أو الفلسفة والعلم كطريق ثانٍ، وهو ما يكثفه كتاب إبن رشد المعروف "فصل المقال، وتبيان ما بين الحكمة والشريعة من اتصال".
كانت العلاقة بين العلم والفلسفة (وتالياً الدين) أمراً مندرجاً في ثنايا تلك الصورة. في الفلسفة الأولى، كانت العلوم جزءاً من الفلسفة، على غرار ما يظهر في أعمال أرسطو (خصوصاً الفيزياء والطب) وأفلاطون (خصوصاً الرياضيات). تميزت تلك الفلسفة بأنها شاملة (أحياناً، توصف بأنها عامودية)، بمعنى انها تستند إلى مبادئ أولى يجري البرهان عليها، ثم تستعمل في تفسير الأشياء كلها. في فلسفة أرسطو، هناك "العقل الأول" و"المحرك الأول"، وهناك العناصر الأربعة التي تفسر تكوين الأشياء كلها، بما فيها "الأخلاط" في جسم الانسان. في ذلك المعنى، يجري الحديث عن اندماج العلم والفلسفة.
مع ديكارت، حدثت نقلة كبرى. تركت الفلسفة الكون وخالقه الذي سلَّم ديكارت بأنه يمكن البرهان على وجوده منطقياً ودينياً، لتركز على الإنسان، بداية من الكوجيتو/المعرفي الديكارتي "أنا أفكر، إذاً أنا موجود". حدث انفصال بين العلم والفلسفة، لكن بمعنى عقلاني وحداثي، بمعنى استناد الفلسفة إلى العلم في البرهنة على مقولاتها ومطارحاتها. بقول آخر، ظهرت فلسفة إنسانية ترى "مبررها" في العِلم، وكان ذلك معنى قوياً في الحداثة. مع قوانين إسحاق نيوتن، ظهرت نظريات تستند إليها في تفسير التاريخ والمجتمع والانسان، بأكثر من اهتمامها بالتفكير مباشرة في الخالق. عند تلك النقطة، كانت الحتمية هي التهديد الفكري، بمعنى إدعاء قوة العِلم إلى حد تحويله إلى مطلق، ثم استعماله في صوغ نظريات شاملة تفسر كل شيء، ليس بالخالق و"العقل الأول"، بل بالعِلم. الأرجح أن الماركسية وحتمتيها التاريخية هي المثال الأوضح، لكن معظم نظريات الفلسفة في الحداثة استندت إلى حتمية تحتمي بالعلم الإنساني. ثم صارت الفلسفة تعنى بطرق التفكير ومناهجه، وابتعد العلم إلى مسار التخصص. الجزء الأخير من المقال لاحقاً
|
|
|
|
|
|
|
|
|