أفتحوا لينا أحضانكم بعد توهانـّا لمـّونا

تـُرى هل يستطيع هذا الحبر التدفّق من جديد ؟
كان عاماً من الأحزان فاجأ الرّوح كلّما نهضت من إنتكاسة بضربة أكثر إيلاماً ، أحزنني جدّاً فقد رجل بقامة الرّاحل الخاتم عدلان ، والذي لم تتوفــّر لي سانحة معرفته عن قـُرب ولم تجمعني معه أيّ لونيّة من لونيّات الإنتماء غير الإنتماء للوطن ، غير أنّ ما عرفته عنه كرجل شامخ وكسياسي محنـّك كيفما كان إنتماؤه كان كافياً ليهزم قدرة الرّوح ويصيبها بالحزن العميق لفراقه ..

بعدها فقد السّودان زعيماً ومناضلاً كان سيكون بلا شك مانديلا قارّتنا السمراء الجّديد ، ولم يكن فقد قرنق سهلاً على الإطلاق ، فقد كانت كلّ الأحلام بسلام وإنطلاق سريع لهذا الوطن المنكوب نحو الاستقرار كانت أحلام لا شكّ في واقعيّتها ، إلاّ أنّ الموت كان لأحلامنا بالمرصاد ، لتسقط الرّوح في نفس الهوّة السحيقة من جديد ..

وقبل أن تشفى الرّوح وتندمل الجراح فقدت صديقي الذي عرفته عبر هذا الوطن ، الشاب المدهش ميرغني حمزة ، والذي كنت مستغفراً ربّي أغالط نفسي لفقده ، وأتوقّع أن يرنّ هاتفي وأن يكون هو المتحدّث على الطرف الآخر ، وحزني على ميرغني لا ترسمه الكلمات ولا تبدّد مرارته الأيّام ..

وكان مطلع العام كذلك لروحي بالمرصاد حين ودّعتنا الشمعة الوضّاءة صُلحة الكارب والتي زرعت كلّ مساحات الوطن جمالاً ، وكنت أمنّي نفسي بلقائها يوماً ما ، لكن سياط القدر لم تكن قد رأت التوقــّف عن جلد روحي بعد ..

وقبل أسابيع إنتقلت إلى بارئها روح الخالة علويّة الرشيدي رفيقة درب الأب الفاضل محمّد وردي ، ولم يكن حزني على رحيلها سهلاً ، فقد كنت على علم تام بالحُب الكبير الذي ظلّت تزرعه في بيتها وتبثـّه على أسرتها . كنت قد إتّصلت صباح عيد الأضحى لتهنئة الأستاذ وردي بالعيد ، وجاءني صوته حينها فرحاً وهو يحكي لي : "علويّة جاية من القاهرة بعد بكرة" ولكن كان القدر أسرع من أن يمنحني سانحة أن أسمع صوتها قبل فراقها ، وكان ألم فراقها جد كبيراً خصوصاً وأنّني كنت أعلم وقع مرارته على زوجها وصديقها ورفيق دربها وعلى جوليتها ومظفّرها ، لهم جميعاً أحرّ وصادق التعازي ..

كذلك لم يكن المنبر حقّاً مشجعاً للعودة إليه في بعض الأحيان ، فقدْ كان المكان قد فقدَ بريقه بإنزواء بعض أقلامه الجريئة والمؤثـّرة ونحن في أمسّ الحاجة لها ، كانت تماضر حينها قد إختفت ، دكتور بشرى الفاضل ، دكتورة إيمان أحمد ، ندى أمين ، إلهام عبد الخالق والرائع سيمباتيكو والكثير من الأسماء التي أعتبرها زينة هذا المكان ..

كانت كلّ الظّروف تقريباً تحاصر الرّوح ، لكن كان سؤال أخوات وأخوة لم أعرفهن/م إلاّ عبر هذه الصفحات ، كان سؤالهن/م عنّا بمثابة الدواء والإكسير السحري لتبقى الدماء حيّة وحارّة تمدّ الرّوح ببعض الحياة ، فالشكر كلّ الشكر لهن/م جميعاً دون فرز ، وأخصّ بالشكر الأخ سعد الدّين عبد الرّحمن ، الأخ علي أحمد علي دقوش ، الأخ مأمون أحمد والذي سعى جاداً لملاقاتي إبان تواجدي في مدينة جدّة غير أن الظّروف لم تسمح مطلقاً لذاك اللقاء ليكون ، وذلك كان أيضاً تماماً ما حدث مع الأخ محمّد حسن العُمدة والذي لم أتمكّن من ملاقاته ، فلهم جميعاً إعتذاري ووعدي بلقاء قريب ..

الأخت الحبيبة نادية عثمان مختار وكما قلت لكِ وأنا أقف أمامك في مطار القاهرة : عبارات الثناء تتقاصر وتستحي أمام قامتك السامقة ، وأيّام الجمعة والسّبت والأحد التي إلتقيتك خلالها جعلت من مروري بالقاهرة أمتع الأسفار ، لكِ ولأسرتك التحيّة والتجلـّة ..

ها هي الرّوح تعود لجسدها ، وأملي أن يكون هذا العام عاماً للإبتهاجات والأفراح على كلّ الأصعدة ، وأن يلوّن هذا الحبر كلّ هذه المساحات بألوان التوافق والمحبّة ، وأن تعود لهذا الوطن كلّ حروفه الجميلة الغائبة لتجعل من الكلمة غصن زيتون وحمامة سلام تهزم القبح وتنشر الحُب والجمال والسّلام في أرجاء المكان ..