الحشرة و الجواد.. الاشجار تموت واقفة

كتب الكاتب الفاتح جبرا المتوفرة بمعرض الدوحة
مرحبا Guest
اخر زيارك لك: 05-11-2024, 00:14 AM الصفحة الرئيسية

منتديات سودانيزاونلاين    مكتبة الفساد    ابحث    اخبار و بيانات    مواضيع توثيقية    منبر الشعبية    اراء حرة و مقالات    مدخل أرشيف اراء حرة و مقالات   
News and Press Releases    اتصل بنا    Articles and Views    English Forum    ناس الزقازيق   
مكتبة د.نجاة محمود احمد الامين(د.نجاة محمود&bayan)
نسخة قابلة للطباعة من الموضوع   ارسل الموضوع لصديق   اقرا المشاركات فى صورة مستقيمة « | »
اقرا احدث مداخلة فى هذا الموضوع »
03-04-2006, 05:14 AM

Aymen Tabir
<aAymen Tabir
تاريخ التسجيل: 12-02-2003
مجموع المشاركات: 2612

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: الحشرة و الجواد.. الاشجار تموت واقفة (Re: bayan)

    يا دكتوره
    التحايا والتقدير
    المقال عميق مافي شك والفكرة جميلة جدا ولاعجابي الشديد بالموضوع وعشان 8 مارس القرب دي مساهمة في نفس التيار مع اختلاف المعطيات انشاء الله تعجبك وتنال اعجاب المتداخلين
    مع تقديري
    Quote:
    شجاعة الإبداع
    د. شريف حتاته
    الغد-نوفمبر1985
    نحن نعيش فى عصر انتقالى من نمط للحياة إلى نمط آخر تتبلور معالمه بالتدريج.. نشاهد تغييرات جذرية فى كل شئ. وأمام هذه التغييرات التى تهز أركان العالم والحياة هناك مواقف ثلاثة يمكن أن يتخذها الإنسان.. الانسحاب والانعزال خوفا من نتائج المشاركة الإيجابية.. الهروب إلى الماضى والبحث عن حلول قديمة يعيد اكتشافها ويحاول تطويرها.. أو التعامل مع الحاضر والمشاركة فى صنع المستقبل استنادا إلى خبرة الماضى، ولكن دون البحث عن حلول فيه..

    ويتميز إنسان هذا العصر بقدرته على التأثير فى حياته من خلال وعيه بهذه الحياة.. بأنه لا يتوقف عند دراسة قوانين التطور، والتاريخ، وإنما يستند إلى هذه القوانين وإلى فهمه لها، ووعيه بها لكى يعمل على تغيير مجتمعه وحياته.. بأنه لا يكتفى بالتفسير، وإنما يسعى أيضا إلى التغيير، إلى صنع مستقبله.

    فى هذا العصر الذى تتبدل فيه كل الأشياء يطل الإنسان على عالم لم تكتشف أجزاء كبيرة منه ويتحرك إلى مناطق لم يتعرف عليها حتى الآن.. يسير فوق ارض مجهولة إلى حد كبير.. ارض لا يعرف مسالكها ودروبها.. وما يصدق على العالم فى مجموعه.. يصدق بالذات على البلاد التى توصف بأنها "نامية".

    ومن يفكر فى المستقبل يسعى إلى المعرفة المتزايدة حتى يتبين الطريق.. ولكنه يواجه فى بعض الأوقات بضرورة القفز إلى المجهول.. فكل طريق جديد لابد أن يرتاده الناس دون أن يكون أحد غيرهم قد سبقهم إلى ارتياده، ولكل مجتمع سماته الخاصة التى لا تتكرر فى غيره من المجتمعات، حتى وان كانت ثمة صفات مشتركة تجمع بينها. والنظريات والأفكار والتصورات مهما اكتملت كثير من جوانبها لا تنطبق على الواقع بالشكل المأمول.. بل يصححها الواقع باستمرار.. لذلك فالتعامل مع المستقبل يتطلب المجازفة، يتطلب أن تكون لدى الإنسان قدرة على الإبداع وان يكون فى الوقت نفسه شجاعا.. ألا يبحث دائما عن الحلول التى تبدو عملية أو سهلة أو واقعية لأنها مطروقة، أن يتصف بالقدرة على التأمل مع الواقع المنظور، وان يتصف أيضا بالقدرة على التعامل مع واقع غير منظور.

    وهذا التعامل مع واقع غير منظور هو ركن أساسى فى علمية الإبداع، فى اكتشاف الجديد، وصنع المستقبل.. وقد يظن البعض أن التفكير العلمى فى المستقبل، والتخطيط له ينفى المجهول، ولكن هذا غير صحيح، فلولا الأحلام لما تقدمت الإنسانية حتى على يد اكثر الثوار وعيا، ومعرفة وإدراكا.. بل هذا هو أحد الفروق الأساسية بين الرجل أو المرأة الثورية، وبين الرجل أو المرأة العملية.. بين العلم التطبيقى والعلم الأساسى.. وبين الفن المحدود والفن الحقيقى.

    الذات والشجاعة
    إن كل إنسان يعانى من اليأس فى لحظة من لحظات الحياة.. ولا شك أن التطورات التى شهدتها بلادنا، بل والعالم، منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية انهارت معها كثير من الأحلام.. ولكن الشجاعة لا تعنى غياب اليأس.. إنها تعنى أن الإنسان لا يشعر باليأس على الدوام.. وتعنى أيضا انه قادر على استشفاف المستقبل والعمل من اجله رغم لحظات اليأس.

    والشجاعة التى نتحدث عنها ليست مجرد عناد فردى.. فالشجاعة الحقيقة لا تنشأ من فراغ، وإنما من تماسك، وتآزر ووضوح رؤية الجماعة.. ومع ذلك فالفرد يستطيع أن يصنع الكثير وان يلعب دوره.. والمبادرة، والإبداع يعتمدان إلى حد كبير على العقل الفردى، والمجهود الفردى، والالما وجد المتميزون والأفذاذ، والعباقرة، والقادة الحقيقيون.. وعندما نقول أن المجتمع المصرى يعانى من مشكلة قيادات، فإننا نعنى بالتحديد ضعف أو غياب الأفراد الذين يستطيعون أن يكونوا بمثابة الخميرة، والمحرك للعمل العظيم.. والفرد يتأثر بالمجتمع ويؤثر فيه.. ولكن ما نحتاج إليه هو قدر اكبر من الشجاعة الفردية التى بدونها لا يوجد إبداع حقيقى..

    إن الإنسان الذى لا يعبر عن آرائه الأصيلة والحقيقية، والذى لا يستمع بالتالى إلى ذاته بل يتجاهلها، إنما يتخلى عن نفسه ويخذلها، ويتخلى عن المجتمع الذى ينتمى إليه فهو لا يقدم المساهمة التى هو قادر عليها، ولا يعطينا الشئ الذى لا يستطيع غيره أن يعطيه لنا.. فلكل منا ذاته الخاصة التى تختلف عن الآخرين.. ذاته التى لا يمكن أن تحل محلها تماما ذات أخرى.

    ومن الخصائص المميزة للشجاعة الفردية أنها تعبير عن الذات، وأنها تتمركز فى الذات، فإذا كانت هذه الذات خاوية فقيرة، لن تقول شيئا لأنها لن تجد ما تقوله.. فهى لا تستطيع أن تعبر عما ليس موجودا.. إنها تصبح لا مبالية، مفرغة من الحيوية لا تتفاعل ولا تنفعل إلا بالتفاهات ولا تقدم شيئا ذا قيمة.. فتجنح فى النهاية إلى السلبية والجبن. الشجاعة فى إبداء الرأى، وفى تقديم مساهمة مميزة تفترض وجود أشياء يمكن تقديمها، وهذه الأشياء حصيلة التغذية العقلية والنفسية التى يتلقاها الإنسان، حصيلة الثقافة التى يحصل عليها منذ الطفولة من مصادر كثيرة، حصيلة جهد التحصيل المتواصل، والاشتراك فى المعارك. الكأس الملئ يفيض.. بينما "فاقد الشئ لا يعطيه"..

    وهذا هو السبب فى أن إحدى المهام الأساسية التى يكرس لها الاستعمار الجديد جهوده الإعلامية والثقافية الواسعة النطاق هو إفراغ عقول الشعوب من كل ثقافة حقيقية، وخلق فراغ ثقافى يعجز الناس عن تقديم أى فكر مستقل، وعن التحليل والبناء، عن الإبداع وتقديم الجديد.. فيتحولون إلى مجرد أدوات، ومقلدين لا شخصية لهم، ولا أصالة.

    أن الالتزام الحقيقى بأفكار وقيم معينة لا يمكن أن يعتمد على النقل، أو التقليد أو الترديد الأجوف لأفكار الآخرين، أو لأشياء مو######## عن الماضى.. لا يمكن أن يعتمد على مجرد الانتماء إلى جماعة ما، وإنما يعتمد على شئ أصيل فى الإنسان.. وهذا الشئ الأصيل فى الإنسان هو الذى يعطى قوة للجماعة. فالجماعة المكونة من نفوس خاوية لابد أن تكون هشة، عاجزة عن القيام بمهامها..

    والشجاعة فضيلة، كالحب أو الإخلاص.. إنها أساس كل الفضائل وهى وحدها القادرة على تحويلها إلى أشياء واقعية، محسوسة، لها وجود حقيقى.. فالحب الذى يفتقد الشجاعة يتحول إلى مجرد تبعية لشخص آخر.. والإخلاص أو الالتزام الذى تنقصه الشجاعة يصبح نوعا من الطاعة العمياء أو الجمود، أو التكيف الاجتماعى..

    الشجاعة فى الإنسان ضرورية إذا أردنا أن يكون وجوده حقيقيا وليس شكليا.. وإذا أردنا أن يكون قادرا على النمو والتطور.. وتصبح مسالة تأكيد الذات وبلورتها وتدعيمها، وقدرة الشخص على الالتزام بقضية، أو بأفكار ومبادئ معينة، مسالة أساسية إذا أردنا للذات أن تكون لها كينونة.. وهذا فارق جوهرى بين الإنسان والكائنات الحية الأخرى.. فالبذرة تصبح نباتا بحكم قوانينها الداخلية المتفاعلة مع البيئة، وبحكم نموها الحتمى. وهى لا تحتاج إلى الشجاعة، أو الالتزام بشئ معين لتصبح كذلك. والمهرة الصغيرة تكبر لتصبح فرسا بالاعتماد على عملية حيوية، غريزية محضة، لا دخل للإرادة أو الشجاعة فيها.. لكن الرجل أو المرأة لا تصبح إنسانا متكاملا إلا نتيجة سلسة من الخيارات، وتنمية القدرة على الالتزام بها.. سلسلة من القرارات تتضمن رفض أشياء وقبول أشياء أخرى.. وبهذا يتطور الإنسان ويصير جديرا بالاحترام.

    وهذه القرارات مرتبطة على الدوام بممارسة الشجاعة.. فبالشجاعة يغدو الإنسان إنسانا حقيقيا.. الشجاعة هى التى تولد القدرة على الفهم، وعلى النمو، على عدم التمسك بالأشياء التى ينبغى رفضها.

    الشـك واليقـين

    السمة الغريبة فى الشجاعة الحقيقية هى أنها تجمع بين الشك وبين القدرة على الالتزام الفكرى.. بين الإحساس بان الإنسان ليس على صواب دائما وأن احتمال الخطأ موجود، وبين اليقين الراسخ. وهذه العلاقة الجدلية بين اليقين والشك هى التى تميز أعلى درجات، وارقى أنواع الشجاعة.. فالشك فيما هو قائم، الشك فى صحة المعطيات والأفكار التى نؤمن بها هو أساس اكتشاف الجديد وهو أساس الإبداع.. إن الرضى بما وصلنا إليه يتنافى مع القدرة الإبداعية وهذا الشك يحتاج إلى شجاعة وقدرة على الاقتحام يسمح لنا بان نعبر عن أفكارنا، وأعمالنا الخلاقة ويفتح أمامنا باب الخروج عن المألوف والاختلاف مع الأغلبية، عن الأنماط التى نتمسك بها، والتى تدافع عنها قوى اجتماعية عاتية. يحتاج إلى استعداد من الإنسان لان يجد نفسه فى الأقلية، أو حتى وحده أحيانا عندما يسير فى بداية الطريق منبوذا من الآخرين، معرضا للضغوط والاضطهاد.. ومع ذلك فهذا هو سبيل كل عمل وفكر جديدين لهما قيمة .. إن كل تطور حقيقى فى الفن، وفى العلم وفى المجتمع يتطلب أن يعى المبدع هذه الحقيقة الهامة، أن يكون قادرا على معايشتها.. حقيقة أن العمل الخلاق لن يجد طريقه مفروشا بالورود.

    إن الذين يدعون الإيمان الكامل بموقفهم، ويرفضون الشك، واحتمالات الخطأ، ويستريبون فى كل مشكك أو ناقد.. أناس خطرين للغاية.. فمثل هذا اليقين الذى لا يحتمل الشك هو أساس الجمود الفكرى. والجمود الفكرى يتنافى مع التطور والتقدم ويغلق الباب على كل إبداع حقيقى.. يقود إلى التكرار والتقليد ونقل النماذج الجاهزة.. ثم فى النهاية إلى التعصب مهما كان الاتجاه الفلسفى أو الفكرى الذى يستند إليه.. انه يضع سدا منيعا أمام اكتشاف الحقيقة.

    أن العلاقة الجدلية بين اليقين والشك علاقة بين قطبين متناقضين.. ولكن وجود كل منهما يفترض وجود الآخر كما هو شأن وجهى الحقيقة دائما.. فإذا غاب أحدهما غاب الالتزام الفكرى السليم، القادر على النمو.. الصراع بين هذين القطبين هو أساس التطور الفكرى. غياب أحدهما يؤدى إلى اليقين المطلق.. أو الشك المطلق، إن كانت هناك مطلقات، مما يعرقل، ويمنع كل تفتح على الإبداع وعلى الجديد.. فلابد من أن يكون الالتزام الفكرى مؤسسا على احترام الحقيقة والبحث الدائب عنها، مما يفترض الشك فيما هو موجود.. الحقيقة تتجاوز ما هو قائم، تتجاوز ما يمكن أن يقال، أو يعمل، أو يكتشف فى لحظة ما. إنها عملية غير قابلة للتجمد أو التوقف أو الفناء، تجعلنا ندرك مغزى تلك المقولة الشهيرة للفيلسوف الألمانى لابنيز:" أنا على استعداد لان اذهب سيرا على الأقدام مسافة عشرين ميلا لالتقى بألد أعدائى إذا كنت سأسمع منه شيئا جديدا "..

    الشجاعة الإبداعية

    توجد أنواع مختلفة من الشجاعة مثل الشجاعة الجسمانية والشجاعة المعنوية والشجاعة الاجتماعية.. ولا يوجد فاصل منيع بينها، بل هى مرتبطة فيما بينها بأوثق الروابط.. وتتوقف كل منها على الأخرى فى لحظات وظروف معينة.. ولكن ربما تكون الشجاعة على الإبداع أهم أنواع الشجاعة الإنسانية، لأنها ضمان التقدم المستمر للفرد، والمجتمع. وإذا كانت الشجاعة المعنوية ضرورية لمقاومة الظلام، فان الشجاعة الإبداعية ضرورية لاكتشاف الأشكال الجديدة، والأنماط الجديدة والرموز الجديدة التى يمكن أن يبنى عليها المجتمع. وتتطلب كل المهن دون استثناء وجميع مجالات العمل قدرا أو آخر من الشجاعة الإبداعية.. فلا يمكن أن يتقدم الطب مثلا، أو التعليم، أو المعمار، أو التكنولوجيا، أو فنون إدارة المجتمع لمؤسساته، وهيئاته إلا إذا وجد أولئك الأشخاص الذين لديهم الشجاعة ليجددوا ويدافعوا عن التجديد فى مواجهة كل قوى التقليد، والركود.

    وهنا يوجد قاسم مشترك بين كل المبدعين وهو قدرتهم على الخيال بلا حدود.. فالشئ الجديد لا يولد فى الواقع قبل أن يتخيله صاحبه فى ذهنه، ويرى صفاته، وتضاريسه، وعلاقاته الداخلية والخارجية. انه يتطلب أن يترك لخياله الفرصة لتصور كل الاحتمالات بجرأة مما يستلزم التعود على الحرية، والاقتحام الذهنى فى المجتمع وفى التركيبة النفسية للإنسان.. فالاكتشاف هو اكتشاف المجهول، والمجهول ليست له حدود..

    ويتميز العاملون فى مجال الفن مثل كتاب الرواية، والمسرحية والشعراء، والملحنين، والنحاتين، والرسامين بأن عملهم يفترض التقدم المستمر بأشكال، ورموز جديدة، وعدم وضع قيود على التجربة.. وهم يبلورون هذه الرموز الجديدة فى صور شعرية، وصوتية، ودرامية، وتخيلية حسب مجالهم. انهم يعيشون خيالهم. فبينما العامة من الناس لا يرون رموزا جديدة إلا فى أحلامهم أثناء النوم أو اليقظة يختلف الأمر مع الفنانين المبدعين.. فهم يحولون هذه الرموز إلى أشكال ملموسة.. هذا هو الخلق، والخلق نتاج عملية إبداع. وتذوق العمل الفنى أيضا يفترض قسطا يزيد أو يقل من القدرة الإبداعية فى الشخص، لأنه يتلقى جديدا لم يتلقاه من قبل، ويمارس إحساسا لم يمارسه من قبل، ويرى آفاقا لم يستكشفها من قبل. انه يكتشف مع الفنان المبدع حقائق لم يدركها من قبل. ولذلك فان العمل المبدع يطلق الطاقات المبدعة فى الآخرين.. والفن الجيد مفجر للطاقات الفنية فى الآخرين.. والفن العظيم يولد فنا عظيما عند الآخرين.. وهذه العدوى الفنية يعرفها الفنانون جيدا..

    ولكن إلى جانب ذلك فالعمل الفنى الجيد بمثابة أداة التنبيه لما يحدث فى المجتمع دون أن نراه، ونوع من الإنذار لما هو آت سواء كان رديئا أو جيدا، باعثا على الأمل، أو على التوجس. انه ضوء كشاف يلقى على حقائق الحياة. ولذلك فان الفن الحقيقى ناقد وصادق ولكنه أيضا ليس انهزاميا ولا مضعفا، ولا قبيحا.. انه جميل حتى عندما يتعرض للقبح.. انه موح يرفع الإنسان إلى مستوى ارقى من الإدراك والحس. ولكن الصدق لا يتأتى إلا بالشجاعة مع الآخرين، وأساسا مع النفس. إن الفنان المبدع هو المعبر الواعى عما يدور فى أعماق الجماهير، وفى لاوعيهم بالذات.. لأنه يحول هذا اللاوعى إلى وعى.. انه مثل كل قائد أو مفكر حقيقى خميرة وعى فى عجينة اللاوعى يجعلها ترتفع إلى مستوى آخر من الإدراك.. ولان الفنان المبدع يتعامل اكثر من أى شخص آخر مع النفس الإنسانية، ودوافعها وبالتالى مع الجزء اللاواعى منها فان دوره خطير، لأنه يكشف هذه الأعماق اللاواعية ويقدمها للناس حتى يروها.. وإذا كانت الثقافة أداة تغيير التفكير الإنسانى بحيث تجعله يواجه مشاكل مجتمعه وحياته على نحو افضل، فان الفن المبدع هو الذى يحفر جذور هذا التغيير الذهنى فى أعماق النفس.. ويخلق الانسجام بين الوعى واللاوعى، بين التفكير الذهنى، والإحساس الوجدانى اللذان يتمركزان فى العقل. انه يلغى الازدواجية التى تعانى منها النفس، ليصل بالإنسان إلى اعلى درجات الوعى.. فالفن هو قمة العمل الواعى، لأنه مبنى على الفهم العميق للواقع ودوافعه.

    إن الفن المبدع هو إحدى أدوات الإنسان للخلود.. يحول اللحظة العابرة التى قد تضيع إلى لحظة حية من الإبداع الملموس.. انه أداة من أدوات التغلب على الموت..

    ومن كل هذه العوامل تأتى العلاقة الوثيقة القائمة بين الإبداع والشجاعة..

    لماذا يحتاج الإبداع إلى شجاعة؟
    فى كل عمل إبداعى يخوض الفنان تجربة جديدة.. يلتقى مع شئ جديد.. مع زاوية جديدة من الحقيقة. يحتك بحدث جديد. وعلى ذلك ففى كل مرة يحتاج إلى شحذ شجاعته من جديد، فالخلق مثله مثل الحب، لابد فى كل مرة أن يبدأ الإنسان من البداية، وفى كل تجربة إبداع جديدة يواجه الفنان موقفا جديدا.. إنها بمثابة لقاء متجدد مع الواقع.. وهذا اللقاء مع واقع التجربة الإنسانية هو أساس عملية الإبداع.. إنها عملية صهر تتم فى "فرن" أو فى "نفس" الفنان ليستخرج منها شيئا نافعا، وجميلا تستفيد منه الإنسانية.. إنها عملية يخلق فيها الفنان "ذلك الوعى الجماعى الذى لم يخلق بعد" على حد قول "جايمز جويس".

    والفنان المبدع يشارك فى بلورة وعى الشعب والجنس البشرى عموما حتى وان لم يكون مدركا لم يقوم به.. حتى وان لم يخطر على باله أن يكون مربيا فاضلا، أو معلما يبث فى الآخرين تلك القيم والأخلاق التى يؤمن بها.. انه منشغل أساسا، رجلا كان أم امرأة، بالتعبير عن تلك الرؤية الداخلية التى تضطرم فى أعماقه وتكاد تعصف به إن لم يعبر عنها.. إن عمله الإبداعى هو وجوده، ومع ذلك ففى النهاية تدخل تلك اللبنات الرمزية التى يصنعها، والتى هى نتاج كل عمل فنى، فى تكوين أخلاقيات وآداب المجتمع..

    ولكن ما الذى يجعل الإبداع الحقيقى عملية صعبة؟ وهل تحتاج هذه العملية إلى شجاعة نادرة؟ أم أن مثل هذا القول من قبيل المبالغة التى يرددها الفنانون حتى يضفوا على أنفسهم صفاتا تميزهم عن بقية البشر..؟ قد يبدو لأول وهلة أن الإبداع الفنى عملية لا تتعدى مجرد التخلص من الرموز التى لم يعد لها مدلول فماتت، ومن الأساطير التى عفى عليها الزمن ففقدت سمات الحياة الحقيقية.. وهذه المهمة تحتاج لاشك إلى جهد، وقدرة على إبداع الرموز، والأساطير الجديدة. ولكنها لا تحتاج إلى قدر غير عادى من الشجاعة..

    ولكن هناك حقيقة يصعب إنكارها.. وهى أن الإبداع الحقيقى، والفن الأصيل وان كانا يجلبان لصاحبهما أحيانا قدرا كبيرا من الحب والتقدير تبديه نحوه قطاعات من جمهرة الناس العاديين، وربما قلة من الملتصقين به، لكنهما فى اغلب الأحيان، وخصوصا إذا أصر على موقفه المتميز الصادق، والأصيل، قد يجلبان له متاعب كثيرة.. اقلها السجن، وأكثرها هو الضيق، والحنق والغيرة التى يحاط بها.. وهذه المشاعر إذا نظرنا إليها نظرة سطحية قد تبدو غريبة. ومع ذلك ففى ظل الأوضاع التى مازالت مسيطرة على مجتمعاتنا ينبغى اعتبارها "طبيعية".. ذلك أن أسبابها تضرب بجذور عميقة فى المجتمع. إن الإبداع الحقيقى يقابل بمثل هذه المشاعر أساسا من "الآلهة" لأنه يثير معركة معها، ومن البديهى أن الصراع ضد "الآلهة" يحتاج إلى شجاعة نادرة.

    والفن الذى لا يثير هذه الصراعات، ولا يثير مقاومة "الآلهة"، فن مرضى عنه لسبب من الأسباب: إما لضعفه، أو لأنه لم يتعرض للمشاكل من جذورها، أو لأنه لم ينتبه إليها، أو لأنه يخدم غرضا من أغراض "الآلهة"، أو لأنه لم يشكل بعد تيارا ينبغى الوقوف فى وجهه.

    ولكن كلمة "الآلهة" هذه تحتاج إلى تفسير، والى أن نفهم منابعها.. لقد كتب الرسام الفرنسى "ديجا" مرة يقول: "عندما يرسم الفنان التشكيلى لوحة ينتابه نفس الإحساس الذى يسيطر على المجرم عندما يرتكب جريمته...".

    لقد حرمت اليهودية، والمسيحية، والإسلام، أى الديانات الثلاث السماوية، وفى مراحل مختلفة من تاريخها نحت التماثيل ورسم الصور. ولا شك أن الغرض من هذا التحريم كان منع ممارسة أى شكل من أشكال الوثنية.. ولكن هذا التحريم قد عكس أيضا ذلك الخوف العميق الذى يحمله كل مجتمع فى مواجهة الفنانين، والشعراء، والقديسين، وأصحاب الأفكار الحرة، بل والمبدعين من كل نوع لأنهم يهددون الأوضاع السائدة التى يرى المجتمع ضرورة الحفاظ عليها.. ذلك أن المجتمع منذ قديم الزمان، أى منذ بداية العصر العبودى والحضارات الأولى كان مكرسا لخدمة الطبقات، والفئات السائدة، وأى تغيير فيه كان يعنى المساس بمصالح هذه الطبقات والفئات وبمصالح أولئك الذين يمثلونها فى مجالات الفكر، والعلم، والأدب، والفن، فكان من الطبيعى ان يواجه الجديد مصاعب كثيرة، واضطهادا عندما يحاول أن يشق طريقه فى مواجهة القديم.. مصاعب تتخذ أشكالا مختلفة، ولكن جوهرها واحد هو الجمود الذى يبديه كل مجتمع فى الدفاع باستماتة عما هو قائم ضد التجديد.. ولنا فى التاريخ أمثلة لا حصر لها نذكر منها موقف الكنيسة من فنانى عصر النهضة “الطبيعيين أو الواقعيين”، وموقف الإقطاع من كتاب وفنانى الثورة الفرنسية، ومواقف القيصرية من الروائيين والمفكرين الروس، وموقف الإنجليز والسراى من على عبد الرازق، وطه حسين، وكتاب آخرين، وموقف ثورة يوليو من عدد كبير من الكتاب، والفنانين، والمفكرين الذين اعتقلوا سنين طويلة.. وموقف الحكم فى عهد السادات من الذين اختلفوا معه.

    وإذا عدنا إلى الأساطير القديمة نجد أنها جنحت إلى تصوير عمليات الخلق والوعى على أنها تولد فى صورة تمرد ضد القوى المسيطرة على الكون، وكأن الآلهة لم تكن تريد أن تكتسب الانسانية المعرفة، والوعى، والفنون المصاحبة لكل تقدم حضارى.. فنجد أنفسنا مواجهين بلغز غريب ربما يمكن تفسيره فى أن الفنان المبدع، أو الشاعر الصادق، أو القديس يضطر إلى العمل والنضال ضد "الآلهة" الذين سادوا فى المجتمع حتى الآن.. آلهة الاستغلال، والقهر، والنجاح المادى.. آلهة اللامبالاة، والتكيف، والتوافق مع الظلم.. فهذه مازالت "الآلهة" أو الأصنام التى يعبدها الملايين من الناس فى العالم..

    ان كل فنان مبدع وصادق يريد أن يحطم هذه الأصنام، وان يحطم معها القيم والمثل، والأفكار المرتبطة بها، أيا كانت المدرسة، أو الاتجاه الفكرى الذى ينتمى اليه. كل فنان مبدع يريد أن تسود النظم والقيم الإنسانية مكان النظم التى تقهر الإنسان وتشوهه. ومن هنا تلك المقاومة، وذلك الضيق والحنق الذى لابد ان يقابل به الفنان المبدع حقا مما يتطلب أن يكون متسلحا بشجاعة نادرة..

    إن الأساطير القديمة ربطت بين رغبة الإنسان فى المعرفة، فى التمييز بين الخير والشر، وفهم قضية الحياة، وبين الخلود.. ففى الأسطورة الإغريقية حال الإله "زيوس" بين "بروميثيوس" وبين التخلص من القيود التى كانت تربطه بالجبل، عقابا على تسليمه سر النار (أى المعرفة) للجنس البشرى، واشترط أن يتنازل أحد الخالدين من الآلهة عن خلوده، ويهبه "لبروميثيوس".. وفى أسطورة آدم وحواء اليهودية خشى رب اليهود أن يأكل آدم وحواء من شجرة المعرفة فيصبحا مثله من الخالدين.. وهكذا ارتبطت مسالة التمرد على ما هو قائم بالرغبة فى الخلود وقضية الحياة والموت.. وكأن الإنسان ومن بعده الفنان متهم لا بالتمرد على الأوضاع السائدة فى المجتمع والكون فحسب، ولكن أيضا بالتمرد على الموت لأنه لا يريد أن يتقبله كنهاية حتمية للحياة..

    وهكذا كانت المعركة ضد "الآلهة" معركة مزدوجة: معركة ضد نظام الكون وتسلط الطبقات والفئات المهيمنة على مصائر البشر (وآلهة العصر الحديث هى الشركات المتعددة الجنسية وأعوانها والتى تملك وسائل لم يسبق لها مثيل للتحكم فى حياة وعقول ومصائر البشر) ومعركة أخرى ضد الموت..

    ومن اجل حياة إنسانية حقيقة لابد من أن يواجه الفنان المبدع هؤلاء الأعداء، وان يصارع ضدهم.. ضد الاستغلال والقهر.. وضد كل وسائل الموت التى تهدد سكان العالم بالفناء.. وهذا الصراع هو الأتون الذى يولد فيه الإبداع الحقيقى ويولد فيه الجديد.. وهكذا تتضح حاجة الفنان المبدع إلى شجاعة نادرة حتى يقدم الأعمال القوية والجميلة التى تستطيع أن تساهم فى القضاء على كل مظاهر الظلم وفى خلق الإنسان الجديد.

    الفنانون المبدعون إذاً متمردون، وثوار باعتبارهم رجالا ونساء، يحملون فى أعماقهم تصورا للعالم الجديد.. تصورا يخطف الباب الناس بإنسانيته وثورته على الظلم.. لذلك ينقدون ما هو قائم ويسلطون الضوء على مثالب المجتمع، وعوراته وتناقضاته ويكشفون الزيف، والكذب، والتضليل.. ويلقون نورا ساطعا على الحقيقة.. ويغوصون فى أعماق الإنسان ليصلوا إلى ابعد غور.. ويستغرقون فى الفوضى الضاربة أطنابها فى ربوع الدنيا ليعيدوا تربيته فى أشكال وأنماط ورموز.. ويثورون على العادى، واليومى، والتقليدى.. على السلبية واللامبالاة فى كل الشئون.. ويبثون الثقة فى عظمة الإنسان ومستقبله، والآفاق التى تنتظره فى الكون..

    ولذلك فالفنان المبدع ذو حيوية عظيمة. فيه طاقة الذهن المفتوح، وطاقة الشعور.. يحمل معه أينما ذهب شحنة الغضب ضد الظلم.. وكل هذه الصفات هى التى تشكل شجاعة المبدع، وقدرته على أن يقتحم، وعلى أن يسير بخطى جريئة فى مسالك الفن الوعرة.. وان يرى تلك الحقائق البسيطة والعظيمة التى تشكل جوهر الإنسان..


    ايمن تابر

    المصدر:http://www.nawalsaadawi.net/articlesby/shagaatibdaa/shagaatone.htm

    (عدل بواسطة Aymen Tabir on 03-04-2006, 05:54 AM)

                  

العنوان الكاتب Date
الحشرة و الجواد.. الاشجار تموت واقفة bayan02-28-06, 00:27 AM
  Re: الحشرة و الجواد.. الاشجار تموت واقفة طيفور02-28-06, 00:55 AM
    Re: الحشرة و الجواد.. الاشجار تموت واقفة المسافر02-28-06, 01:51 AM
      Re: الحشرة و الجواد.. الاشجار تموت واقفة Ali Alhalawi02-28-06, 02:50 AM
        Re: الحشرة و الجواد.. الاشجار تموت واقفة bayan02-28-06, 03:06 AM
          Re: الحشرة و الجواد.. الاشجار تموت واقفة bayan02-28-06, 03:11 AM
            Re: الحشرة و الجواد.. الاشجار تموت واقفة فيصل نوبي02-28-06, 03:35 AM
  Re: الحشرة و الجواد.. الاشجار تموت واقفة عبد الغفار عبد الله المهدى02-28-06, 02:38 PM
    Re: الحشرة و الجواد.. الاشجار تموت واقفة bayan03-01-06, 09:58 AM
      Re: الحشرة و الجواد.. الاشجار تموت واقفة bayan03-03-06, 01:14 PM
        Re: الحشرة و الجواد.. الاشجار تموت واقفة Aymen Tabir03-04-06, 05:14 AM
          Re: الحشرة و الجواد.. الاشجار تموت واقفة Elawad Eltayeb03-04-06, 06:26 AM
  Re: الحشرة و الجواد.. الاشجار تموت واقفة عبد الله عقيد03-21-06, 10:42 AM


[رد على الموضوع] صفحة 1 „‰ 1:   <<  1  >>




احدث عناوين سودانيز اون لاين الان
اراء حرة و مقالات
Latest Posts in English Forum
Articles and Views
اخر المواضيع فى المنبر العام
News and Press Releases
اخبار و بيانات



فيس بوك تويتر انستقرام يوتيوب بنتيريست
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة
About Us
Contact Us
About Sudanese Online
اخبار و بيانات
اراء حرة و مقالات
صور سودانيزاونلاين
فيديوهات سودانيزاونلاين
ويكيبيديا سودانيز اون لاين
منتديات سودانيزاونلاين
News and Press Releases
Articles and Views
SudaneseOnline Images
Sudanese Online Videos
Sudanese Online Wikipedia
Sudanese Online Forums
If you're looking to submit News,Video,a Press Release or or Article please feel free to send it to [email protected]

© 2014 SudaneseOnline.com

Software Version 1.3.0 © 2N-com.de