|
Re: وقائع المؤتمر الصحفي واختطاف طائرة الشهيدين بابكر النور وفاروق عثمان حمدالله (Re: عبدالوهاب همت)
|
وكانت لندن كَمَنْ يبكي وينوح كيف أجبرت السلطات الليبية طائرة بابكر النور وفاروق حمدالله على الهبوط في مطار بنين وأخذهما؟
(أ) اجبار الطائرة على الهبوط كانت الساعة الرابعة صباح الخميس 22 يوليو، رنّ التلفون عنيفاً وقاسياً، كذلك جاء صوت السفير عابدين (إتصل بي مدير الخطوط الجويّة البريطانيّة الآن، وقال إن السلطات الليبية أجبرت الطائرة على الهبوط في مطار بنين وأنهم أخذوا بابكر وفاروق).. ثم أضاف السفير (إنني علمتُ من المدير أن الطائرة الآن في طريقها إلى لندن.. أرجو أن تذهب الآن للمطار وأن تقابل كابتن الطائرة وتعرف منه الذي جرى بالتحديد). * اتصلتُ من جانبي بالوزير المفوّض أحمد نور فربما يفكّر في الذهاب معي وبالتالي يحل اشكالية المواصلات، إذ لديه سيارة، ووافق بالفعل على المرور عليّ حالاً، واتصلت بالدكتور عز الدين علي عامر والذي قرر أيضاً الذهاب معنا. وصلنا مطار هيثرو حوالى الخامسة وكانت الطائرة قد هبطت للتو. دخلتُ صالة الوصول ولدهشتي وجدتُ الكاميرات قد نُصبت مرّة أخرى. بدأ الركاب يدخلون. ركّز المصوّرون كاميراتهم على النقيب عثمان بلول والذي رفض الإدلاء بأية تصريحات وطلب إليهم الإتصال بالسفارة. وأخذت عثمان بلول جانباً. سلّمني ملفاً كنتُ قد اعطيته لفاروق ليطّلع عليه في الطائرة وهو يحوي قصاصات صحفية عن كل ما نشر منذ صباح الثلاثاء. ثم سألته: (ماذا حدث!؟) قال عثمان بلول: (أنْزَلوا الطائرة في مطار بنين، دخلت مجموعة في ملابس مدنيّة، جمعوا جوازات السفر من كل الركاب، فحصوها ثم أعادوها ثم طلبوا من بابكر وفاروق الخروج معهم، ولقد حاولت الخروج معهم إلاّ أن فاروق منعني وحمّلني إليك الوصية التالية «قول للحردلو أن يبرقوا هاشم العطا بألاّ يقبلوا أية مساومة بنا، حياتنا فانية والمهم أن تستمر الثورة»). * لمحت طاقم الطائرة يدخل الصالة، تقدّمتُ من الكابتن وقلتُ له (نحن من السفارة ونريد التحدث إليه)، أخذنا إلى مكتب مجاور وسألناه أن يروي لنا ما حدث. قال - وكنت أُسجّل ما يقول - (حين دخلنا المجال الليبي طلب منّا مطار طرابلس أن ننزل فيه لأن مطار الخرطوم مغلق، واخبرتهم أن لدينا إذناً مكتوباً بالهبوط والإقلاع) لكنهم عادوا بعد قليل وكرروا الأمر بالهبوط. درتُ دائرة كاملة عائداً وطلبت إذناً من مطار مالطة واعطوني الإذن ثم عادوا بعد دقائق وسحبوه، فحاولت الإتصال بمطار روما وفشلت كل جهودي، وهنا رأيت استشارة الرئيس ونائبه (يقصد بابكر وفاروق) ورويت لهما كل ذاك فطلبا مني التوجُّه للخرطوم رأساً دون الالتفات لأية أوامر أخرى، ودرتُ دائرة كاملة أخرى وتوجهتُ جنوباً، وبعد فترة ليست طويلة حلقت على يمين ويسار الطائرة طائرتان مقاتلتان وأرسلتا اشارات بالهبوط، وحرصاً على سلامة الركاب قررت الهبوط، وهبطنا في مطار بنين حسب توجيهاتهم. وجاءوا وأخذوا الرئيس ونائبه. إنهما شجاعان جداً لقد كانا يدردشان معي ومع الركاب حتى آخر لحظة). * وعدنا إلى السفارة وأعددت برقيتين واحدة بوصية الرائد فاروق والثانية بأقوال الكابتن وأخذتهما إلى السفير عابدين الذي وجّه بإرسالهما للخرطوم حالاً. وبينما أنا عائد لمكتبي التقاني النقيبان حسين صالح وكمال خضر وسألاني: (ما قلت ما جايي السفارة الليلة!) فقلت لهما: (نعمل إيه مع نميري وقذافي) قلت شيئاً مثل ذلك ولم يكن مهماً ولا مفيداً لأحد!
(ب) نميري على الهواء إتصل السفير عابدين يطلب مني الإعداد لمؤتمر صحفي في الخامسة من عصر اليوم الخميس، وبدأت الاتصالات بالصحف وأجهزة الإعلام الأخرى. وطلبت لعثمان يوسف إعداد المكان. * كان السفير يريد إدانة ما حدث. كانت الساعة قد تجاوزت الواحدة ظهراً. كنت منهمكاً في قراءة قصاصات ذلك اليوم. رنّ جرس التلفون. كان المتحدث صديقاً من القسم الإنجليزي بالبي - بي - سي، قال (نميري يتحدّث الآن على الهواء). نزلتُ إلى الطابق الثالث. كان عزالدين علي عامر يجلس على مكتب الوزير المفوّض وحيداً واضعاً يديه فوق صدغيه، قلتُ له (نميري يتحدّث الآن)، لم أسمع ولم اشاهد في حياتي مشهداً مثل ذلك. طار سيل من الدموع من عيني عزالدين إلى الأمام. قفزت الدموع إلى الأمام قفزاً. سألته (هل أنت بخير؟!) أخرج منديله يمسح الدموع، دلفتُ إلى مكتب السفير وقلتُ له (نميري يتحدّث الآن) وقلتُ له بعد قليل (أرى أن نلغي المؤتمر الصحفي) وردّ السفير عابدين (لا.. لن نلغيه، إن ما حدث خطير ولابدّ من إدانته). عُدتُ إلى مكتبي.
(ج) إنهم يغادرون كالريح! سمعت ضجيجاً وهجيج أقدام في ممرات السفارة. سألتُ السكرتيرة (ما هذا؟) قالت (لا أدري)، قلتُ (اندهي مستر كارتر) وجاء مستر كارتر كالعادة مهرولاً (سيد حردلو، إنهم يغادرون كالريح بالمصعد، بالسلالم، أوه، غير معقول!) لابدّ أنهم عرفوا أن نميري قد عاد، ولكن لماذا كل هذا الضجيج والهجيج، لماذا يغادرون هكذا؟! كانت الساعة توشك على الخامسة، سألتُ مستر كارتر (هل القاعة جاهزة، وهل جاء الصحفيون!؟) قال إن الغرفة مليئة بالصحفيين. * هبطتُ من مكتبي إلى مكتب السفير، نهض وخرج أمامي، لم يكن المصعد موجوداً فدلف يهبط بالسلالم في عنفوان شاب في الثلاثين. يمشي كجنرال والرقبة متكية لليسار، (كان السفير المغربي يعتقد أن عابدين إسماعيل جنرالاً بالجيش) ومن يومها كنتُ ومحمد أحمد ميرغني نسميه فيما بيننا بالجنرال. كان الجنرال يهبط الدرج أمامي وليست في يده ورقة واحدة. * قبل يومين قال (ما مشيت ولا حامشي) (وكانا في قمة السلطة) اليوم هما في محنة وبدون سلطة، وهاهو يهبط الدرج ذاهباً لإدانة العملية والدفاع عنهما. أي عظيم هذا الرجل؟! دخلنا قاعة المؤتمر.
(د) عجبي عجب! كانت القاعة مكتظة بالصحفيين - تقدّم السفير نحو المقدمة - ناداني الملحق الإعلامي في السفارة المصرية وكان صديقاً عزيزاً. (يا سيد) هكذا كان ينده اسمي (ده نميري رجع) قلت (عارف).. (والسفير عارف!) قلت (نعم)، (وحتعملوا المؤتمر!)، قلت (نعم)، وصفّق يديه وهو يقول (عجبي عجب!) أدان السفير العملية، وقال (إنها قرصنة غير مسبوقة)، وحين سألوه (سفير مَنْ أنتَ؟ نميري أم بابكر!؟)، قال (أنا سفير السودان!)، وخرج وخرجت الكاميرات وراءه حتى السيارة. * وجاءت تظاهرة يقودها بعض الإنجليز وبعض السودانيين وعلى رأسهم السفير يعقوب عثمان والذي كان يقول لي دائماً ( أنا حزب أمّة جناح الإمام الهادي، يعني يمين اليمين!)، سألته ( ما شأنك وهذه التظاهرة!؟) قال (نحن - السودانيين - قادرون على حل - مشاكلنا فلماذا يتدخّل بيننا الآخرون! كنتُ أريدهما أن يصلا الخرطوم وأن نتداوس هناك - جئت أُدين هذه العملية!).
(هـ) كانت لندن تنوح مطراً * خرجتُ من السفارة، قصر سنت جيمس على اليمين والسفارة على اليسار. كانت زخات المطر تتناثر عبر الظلام (أين هما في الزحام الآن! رجلان من أميز الرجال. هل يستحقان هذا المصير!؟)، (جعفر أخونا - ده خلاف بين أخوان)، (إنها قرصنة غير مسبوقة)، (كنت أُريدهما أن يصلا الخرطوم وأن نتداوس هناك!) إنني سعيدٌ بإنتمائي إلى وطن هؤلاء الرجال. كان المطر يزخ عنيفاً يجلد الظلام وينهال على الأرض. وكانت لندن كَمَنْ يبكي وينوح!
|
|
|
|
|
|
|
|
|