أخواني و أخواتي الأكارم الأبرار.أشكركم جزيل الشكر على التعزية في عمي الحبيب عوض صادق موسى. عمي عوض صادق كان رجلاً سمحاً، يجمع بين قوة الشخصية ولينها بصورة معجزة. أحبنا وأحببناه حباً عميقاً. وهو يكبر والدي بحوالي الخمس سنوات. ولكن والدي أنجب قبله فصرنا، زينب أختي الكبرى وأنا، له أبناء، قبل وبعد إنجابه لخمسة من البنات وأربعة من البنين. وقد أحب بقية إخواني الأربعة وأختي هدى كما أحبني وزينب.
حياته وحياة والدي وأختهما فاطمة تقوت باليتم والفقر. فقدوا والدتهم ووالتهم في سن مبكرة جداً، وهم بعد أطفال صغار في طيبة-الشيخ عبد الباقي. وحين جاء أهلي من حلفا يطلبون أبناءهم ليرعوهم أصرت جدتهم "حبوبة التاية،" أم زينب بنت البدوي، ووالدة عوض وفاطمة وبدوي، على ألا تترك أبناءها ليربيهم الأعاجم. فأنتقلت معهم لحلفا القديمة وربتهم أحسن تربية بما حباها الله من حسن تفكر وتدبر بفضل تربيتها الدينية. ثم ربتنا نحن ورعتنا، زينب وأنا وأخي محمد، ورعتنا يداً بيد مع أمي عائشة. وتوفت وعمرى لم يكن قد تجاوز الخامسة بكثير. أقول ربتنا لأني ما زلت أتحسس أثرها العميق في والدي وعمي، عليه الرحمة، وفي الكثير من طرائق تفكيري وتعاملي مع الآخر.
ومما كسبه عمي عوض من حبوبة التاية أنه كان شديد الأنفة، مع تواضع غريب. من أميز ما يميزه أنه كان دائم النظرإلى الأرض، لا يتلفت إلا أذا دعاه داعٍ. أمتهن الزراعة وأحب الأرض، كما إمتهن البيطرة بقليل من الدربة. وفي مطلع حياته في حلفا القديمة كان قد عمل جرسوناً ثم افتتح مطعماً، ولكنه سرعان ما أدرك بأن العمل التجاري، وإن كان في مجالات بيع الأغذية، يفسد الخلق. وحين تم ترحيلنا إلى حلفا الجديدة تسلم حاواشتنا وحواشته، وظل يزرعهما بيديه، وبمعاونة منا أحيانا، ومن أبناءه بعد أن كبروا، إلى أن أقعده المرض. بالاضافة إلى ذلك فقد تعلم، وفي سن متقدمة، وبتدريب قليل، مهنة مساعد البيطري، وظل يمارسها مع الزراعة.
كان عفيفاً لدرجة غريبة. لم تلجئه الحاجة مطلقاً لأحد، كما كان لا يقبل أن يأكل إلا من عرق جبينه مهما ساء به الحال. كان يحبني لدرجة غريبة. فقد حكى لي إبنه الذي كان معه حتى آخر لحظاته معنا في هذه الفانية، أنه سمعه يهمهم ذات ليلة في جنح الظلام والناس كلهم نيام، فسأله ماذا يقول. فقال كنت أدعو لحيدر وإخوته. مع ذلك فقد كان حازماً معنا حزماً شديداً حين نخطئ. أذكر مرة أنني وأبن جيراننا خرجنا من المنزل إلى الحواشات. وبعد أن قطعنا الحواشات بعرضها تراءت لنا قرية مجاورة تبعد حوالي خمسة كيلومترات عن قريتنا. شعرنا بأن القرية قريبة بعد أن قطعنا عرض الحواشات، التي تقع بين قريتنا وتلك القرية. فقررنا أن نذهب إلى تلك القرية. وبالفعل ذهبنا إليها.
كان عمري وقتها حوالي الخمسة أعوام، أو أقل قليلاً. وكان رفيقي يكبرني بعامين تقريباً، ولكني كنت صاحب فكرة الذهاب للحواشة، ثم فكرة الذهاب للقرية المجاورة. قضينا وقتاً طيباً في استكشاف القرية الجديدة علينا، وفي أكل ما طاب لنا من طماطم وبطيخ وغيره من الخيرات في الحواشات ذهاباً و إياباً "وغياباً." ولم يدر بخلدنا أننا تغيبنا نهاراً كاملاً عن قريتنا. وبدأ الظلام ينزل علينا حين قررنا الرجوع. وحين وصلنا قريتنا التي بدت لنا بعيدة بعداً موحشاً، كان الخوف من الظلام ومن سكون الحواشات ومن العقارب والأفاعي، التي كانت منتشرة في تلك الأرض البكر، قد قطع نياط قلوبنا، وقد أخذ منا مأخذاَ.
وعند المشارف وجدنا أهل قريتنا جميعاً يجلسون في التراب في هيئة الفراش على الميت، بعد أن بحثوا عنا في كل مكان وفي الفجاج حولهم بما في ذلك الحواشات. ويبدو أن بحثهم في الحواشات كان قد تزامن مع استطابتنا لاستكشافاتنا للقرية المجاورة. حين ظهرنا مفزوعين، وبحالة يرثي لها من الإعياء، فرح الأهل بنا فرحاً شديداً، بعد عويل ونحيب. وكان خوف الأهل علينا مبرراً للغياية. فقد كانت تلك البلاد جديدة على أهلنا الذين رحلوا قسراًَ من وطنهم القديم إليها. وأذكر أن حبوبة التاية ضمتني إليها بفرح بالغ وهي تكاد تطير من السعادة الغامرة، وعمي عوض يشاهد المنظر بابتسامة عريضة وفرح غامر أيضاً. وأنصرف أهل القرية جميعهم بعد أن تبادلوا التهاني بالسلامة مع الأهل وبعد أن صرفوا لنا بعض صنوف التعبير عن الحب والعتاب ماصرفوا.
كان واضحاً لي تماماً أن عوض عمي معجب بمغامرتي. فقد كان يضحك من فرط فرحه بعودتي وبالطريقة التي يروي بها رفيقي أنني صاحب أفكار الغواية.
وحين انصرف كل الناس عن منزلنا رأيت عمي عوض يتجه ناحية شجرة النبق التي ظلت متعددة الأغراض في بيتنا. فقد أجري فيها ختاننا قبل عدة أسابيع من تلك الحادثة، وهي تظلل مساحة طيبة من حوشنا الواسع بما يجعل ظلها موضع أنشطة متعددة. كما كانت أفرعها وثمارها ذات وظائف معروفة. كنت أعرف تماماً ماذا يريد عوض عمي من تلك الشجرة حين اتجه صوبها. فقد تكرر هذا المشهد بما يكفي في حياتي التي كنت أحسبها طويلة، لتعدد تجاربي فيها بسبب شقاوتي.
اختار عمي فرعاً رطباً طرياً وقوياً، وبسرع عراه من الشوك. وأقبل نحوي كالضاحك الباكي. ثم حدثني عن الجرم الكبير الذي اقترفته في حق نفسي وحق الناس. ثم تجهم وجههه فجأة، وبحزن بالغ، بادٍ على وجهه، جلدني جلدة "سخنة جداً." وكانت نتيجة تلك الجلدة أن بللت المرتبة، فقد كنت مرعوباُ أصلاً من الثعابين و العقارب، ومشهد الناس وهي تبكي من الفرح حين دخلنا على القرية.
هذا كان عمي عوض: لين، لطيف، وباسم، ومطأطئ الرأس في تواضع جم لا يخطئه أح. ولكنه كان في نفس الآن حازماً، عزيز النفس، وقوياً في الحس والمعني.
لولا هذا النوع من التوفيق بين اللين والقوة في تربيتنا لما أهداني الله لكم أحبتي، ولما وفقني في مسالك الحياة المختلفة، بما فيها إهدائي لمجتمعنا السوداني الفريد الذي يحكي هذه القيم أنبل حكاية.
أرجو أن تقرأوا معي جميعاً، مرة أخرى، للعم عوض سورة الإخلاص عد الاستطاعة فقد أهداني لكم، إن كان في من الخير ما يستدعي الوفاء له.
(عدل بواسطة Haydar Badawi Sadig on 08-14-2003, 09:57 PM)