|
كمال الجزولي يكتب عن محجوب شريف في { رزنامة الأسبوع }
|
قصدت { تفكيك } رزنامة الأسبوع ليكون كل يوم / موضوع فيها على حدة ثم نرى مايستقطب من آراء وإضافات وتعليقات ومداخلات وأستميح الصديق كمال الجزولي عذرآ في فعلتي
_________________________________________________
الثلاثاء
حول لويس أراغون قالت إلسا تريوليه: ''الحديث عنه حديث عن الشعراء وليس عن ضحايا الخيالات ، عن الشعر وليس عن الشئ الذي يلمع دون أن يكون ذهباً''!
لم أجد أبلغ من هذا القول في التعبير عن الاستقبال الحاشد لمحجوب شريف الذي عاد إلى الوطن ، معافى بحمد الله ، عشية يوم الشعر العالمي .. ويا لها من مصادفة!
لمحجوب عادات مختلفة في النظم حد الفرادة. فهو لا يجلس ، قط ، إلى منضدة لكتابة قصيدته ، إلا بعد أن تكون قد علِقت معالِقها واستدارت خلقاً سوياً. أما مراحل تكونِها الأولى فغالباً ما تتخلق لديه ماشياً على قدميه ، حتى لقد لقبه الصديق الحميم عبد الله علي ابراهيم بـ (الأمي) تحبباً! تجده كثيرَ المشي بقدر غزارة إنتاجه .. في حوش البيت ، في باحة السجن ، أو حتى داخل زنزانة مغلقة ، مثلما في أزقة أم درمان المتعرجة ، وساحاتها المحتشدة بالعنفوان ، وبالأخص سوقها الكبير الضاج بالحيوية. ولعل هذا ما يفسر اكتظاظ قصائده بمختلف الحالات والحكايات والصراعات الانسانية.
تكمن ، خلف ذلك ، عجيبة أخرى من عاداته في التأليف ، فهو لا يتحرى الهدوء ، ولا ينتظر هبوط وحي أو الهام ، بل يأخذ الشعر غِلابا ، فيذهب بنفسه ، راجلاً ، إلى حيث وحيه في ضجيج الحياة ، وإلهامه في حركة الناس اليومية .. في عبارة يلتقطها من فم حمال بسيط ، أو زوبعة تثور تحت أقدام مشاجرة مدرسية ، أو كلمة تقذف بها أم تتضجر من غلاء المعيشة ، أو تقطيبة ترتسم ، أول النهار ، على جبين أب مفصول للصالح العام ، أو حكمة ترسلها عجوز تتعجب من تغير الدنيا والأحوال ، أو ترنيمة يمطها بائع متجول ينادي على بضاعة كاسدة ، أو معنى خبيئ يطل ، فجأة ، من عيني صبية كابية الجمال قد لا تثير الاهتمام في محطة بص ، أو ترميز طبقي يجاهر بفحشه وسط ثرثرات فعلة يترصدون الرزق بناصية بنك يتجهمهم من أول الصباح! وإذ يفعل ذلك ، لا ينقل هذه التعبيرات ، بحرفيتها ، إلى بنية قصيدته ، وإنما يُعمِل فيها من طاقته الهائلة على مكابدة جدل اللغة ، و المزج السلس بين العامية والفصحى ، واللعب البارع على جرس الحروف ورنين الألفاظ ، وتقطيع الجملة الشعرية الواحدة إلى مجموعة جُمَل قصار ، والاشتغال على القوافي الداخلية المتتابعة والمتغيرة ، مع الإمساك الجيد ، في كل الأحوال ، بخيط القافية الأصلية الأساسي ، والكثير الكثير ، إلى ذلك ، مِما في مُخلاته من أدوات سحر القول الشعري وحِيَلِه المُبهرة.
وثمة عجيبة ثالثة تتصل بعيار الشعر عنده ، حيث يستمد إيقاعاته وأوزانه ، مباشرة ، من عمق إصغائه الوَلِه الكلِف الشغوف لصميم هذه الحركة الموارة في عرصات المدينة ، وهي ، بطبيعتها ، حركة ذات أوزان صريحة ، وإيقاعات فاقعة. ولحرصه على ألا يُفلِت منها شيئاً ، ولو للحظة ، فإنه يلتم عليها ، بكل جوارحه ، مراجعة وتنقيحاً وجَلوَاً ، طوال الوقت الذي تأخذه صناعة القصيدة. لذلك ، ليس نادراً ما يلحظ جلساؤه من أهله أو أصدقائه المقربين أو رفاق سجنه ، أنه يكثر ، في مثل تلك الأيام ، من الاستغراق اللاإرادي في طقس تمتمات مُبهمة ، كمن يتلو أوراداً يحرك بها شفتيه دون صوت ، ويضبط إيقاعها ووزنها الخفيين بتلعيب يديه وقدميه ورأسه ، بل وعينيه أحياناً ، ثم ما يلبث أن يعود ، حين ينتبه ، بغتة ، إلى مراقبتهم له ، كاتمين ضحكاً معابثاً ، لينفجر ، هو ذاته ، في طقس قهقهات طفولية مجلجلة!
كِلا تجويد صراحة الوزن وفقوع الايقاع ، المستلهمين من صراحة وفقوع أوزان وإيقاعات الشارع العام ، فضلاً ، بالطبع ، عن فرادة الاقتدار على التعبير ، في بساطة معقدة وسهولة ممتنعة ، عن أشرف المضامين الضاربة في عمق الهم الانساني اليومي ، هو ما يُكسِب قصيدة محجوب خاصيتها المنبرية ، وقابليتها للأداء الجماعي ، وقدرتها ، ليس على تحريك المشاعر ، فحسب ، بل والأجساد ذاتها! وما أيسر أن تلحظ ذلك إن أنت أوليت انتباهك لاستجابات الجمهور لأدائه على المنصة ، بحركة قدميه ويديه التي لا تكاد تهدأ ، دَعْ انفعالات دواخله التى تستعصي على اللجم ، فتنعكس ، بتلقائية وطلاقة ، على نبرات صوته وتوترات وجهه وشفتيه! وأذكر ، استطراداً ، عندما احتفل اتحاد الكتاب في داره بالمقرن ، ذات أمسية ، بتوقيع (اتفاق الميرغني ـ قرنق) عام 1988م ، كيف أحاطت بمحجوب مجموعات شتى من بنات وأبناء (الهامش) ، بلكناتهم وأزيائهم وحُليهم المائزة ، يصدحون معه بأهزوجته (ميري كلمينا) ، وهم يشيعون ، برقصاتهم الشعبية النشطة حول نافورة الدار ، جواً من المرح الصخاب ، في ذات اللحظة التي وصل فيها الميرغني على رأس وفده إلى الاحتفال ، فوقف يتلقى تلك التحية غير المسبوقة في مشهد مهيب ، تمايحت معه هامات الشجر ، واهتزت له أركان المبنى ، وسرت (عدواه) إلى الجماهير المحتشدة ، فانطلقت تشارك ، على سجيتها ، في الأداء الشعري ، والرقص على الإيقاع الداوي ، بينما الدموع تسح من عيون لطالما سهدها التوق (للسلام) .. دون أن ينتبه أحد إلى أن الأهزوجة نفسها لم تكن ملحنة!
الحديث عن جماليات القصيدة عند محجوب ، وعناصر شعريتها ، ذو شجون ، لولا أن المساحة تضيق. لكن يعز علينا ، ونحن نخصه بهذه التحية أديني شهادة فقدانْ وجدانْ وضميرْ اتوفى/ لو إني كتبتَ قصيدة تطقطِقْ اصابعْ حاكِمْ زلفى/ بيناتنا رفعنا ستارَ الكُلفةْ/ وأكلنا سوياً قوتَ الشعبْ/ مِنو الظلماتْ فيهن نِتخفى/ مِني الكلماتْ تبقى مَحَفة/ حَمَلتو عليها يلوح .. يلوح بالمنديلْ/ ولساني بساط احمرْ ممدودْ/ يتمشى عليهو لِحَدت ما يدخل بُستانَ النومْ/ تباً للكلمة بتتسكعْ .. تركَعْ/ تدفعْ أكترْ .. تمدَحْ أكترْ/ تلبَسْ أقصَرْ/ وسط الهالاتْ تعبُرْ صالاتَ الجنرالاتْ وكِبارَ القومْ/ أديني شهادة فقدانْ وجدانْ وضميرْ اتوفى/ في ذاك اليومْ''!!!
قدميه ،
-----------------------------------
|
|
|
|
|
|
|
|
Re: كمال الجزولي يكتب عن محجوب شريف في { رزنامة الأسبوع } (Re: أبو ساندرا)
|
وظللت أسال نفسي من اين جاء محجوب بهذه القوة الدافقة في شعره؟ وماذا يكمن خلف الوجه الوديع ؟ ثم تعرفت على محجوب عن قرب حيث التقينا في أحد المعتقلات لمدة ثلاثة عشر شهرا عشناها سويا في غرفة واحدة وتبين لي أن السر يكمن في أمر واحد وهو ارتباطه الوثيق بالناس ليس ارتباطا خطابيا او ارتباط من يدعي بطولة جوفاء ولكنه ارتباط عميق متأصل في نفسه ويغلف حياته ويشكل مجمل منهجه وسلوكه هذا الارتباط الحميم بالناس هو الارض التي يقف عليها وهي أرض جد صلبة ومن فوقها يقول شعره الذي يخرج من اعماق الناس وغورهم
هذا ما كتبه محمد سعيد القدال عن محجوب شريف التحية لهولاء القامات الشامخة
التحية لك ابوساندرا
| |
|
|
|
|
|
|
Re: كمال الجزولي يكتب عن محجوب شريف في { رزنامة الأسبوع } (Re: أبو ساندرا)
|
عودة محجوب معافى للوطن واستقباله الحاشد اضحت ايضا مقياساً مثل عودة كل من على المك ومصطفى سيد احمد والخاتم عدلان وغيرهم الكثيرون ممن ماتوا يكابدون في الخارج وحشة الغياب. هذه الحشود التي قابلت محجوب كما قابلت اولئك الافذاذ لم تكن قد جاءت بالصدفة كما إنها إعلان بالحضور الشخصي لرفض فبركات الإنقاذ الفنية الشعرية مهما بثتها الاحهزة وبالغت في تزويقها وبثها وإعادة البثوالتزويق لدواعي الحفظ. للشعب زموزه الوطنية في الشعر والعلم والفن والسياسة والكياسة. ولنا بالطبع أن نسعد بهذه الكتابة البارعة لاخينا كمال.كتابة عن الشعر كالشعر.ولتسمح لي يا أباساندرا بأن أحييهمامعاً عبر شخصك.
| |
|
|
|
|
|
|
|